حمد الجاسر المؤرخ والنسَّابة والأديب |
كنتُ واحداً من الذين عرفوا الشيخ حمد الجاسر - رحمه الله - من خلال (مجلة العرب) قبل أن أعرفه من خلال مؤلفاته التي كَتَبَ، وكُتب التاريخ والأنساب التي حقق، فلقد كانت مجلته لا توجد في الأماكن التي تباع فيها الصحف والمجلات ولكنها توجد في خزائن الكتب العلمية: (مكتبة عارف حكمت) و (مكتبة المدينة العامة) و(المكتبة المحمودية). ويبدو أن صلة الشيخ بمكتبة عارف حكمت والتي كانت تقوم في الجهة الجنوبية من المسجد النبوي الشريف هي صلة قديمة تعود للخمسينات الهجرية، عندما كان الشيخ الجاسر يدرس في مدينة ينبع والتي انطلق منها باحثاً ومحققاً. فلقد كان يتحدث عن جبل رضوي ولا يعرف موقعه، فأشار أحد الطلاب للشيخ إلى موقع الجبل فكانت هذه الحادثة بمثابة الشرارة التي بعثت في نفس الشيخ حب البحث والتحقيق المعرفي والموضوعي والشامل. ويذكر الشيخ الجاسر في مقدمة كتاب (تذكرة الألباب في أصول الأنساب) عنايته بالمخطوطات الفريدة التي عثر عليها بين جدران مكتبة (عارف حكمت) بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيقول ما نصه: ((في سنة أربع وخمسين وثلاث مائة وألف، كنت مدرساً في مدرسة ينبع الابتدائية، فأمضيت جزءاً من صيف تلك السنة في المدينة المنورة، وكنت في ذلك العهد شغوفاً بالمطالعة، فكنت أتردد على مكتباتها، وكان من أحفلها بالمخطوطات (مكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت)، وكان مما نسخت من مخطوطات تلك المكتبة كتاب (النبات) للأصمعي، ولخصت كتاب (الروض المعطار) للحميري، ولخصت جزءاً من (معجم ما استعجم) للبكري (انظر: العرب، ج 7، و 8، س 15، محرم - صفر 1401هـ). |
هذه الصلة العميقة بين الشيخ ومكتبات المدينة هي التي دفعته فيما بعد لتحقيق كتاب (المغانم المطابة في معالم طابة) للفيروز آبادي، الجزء الخاص بالمواضع. وأخال أن الشيخ - رحمه الله - حصل على النسخة الخطية لهذا الكتاب من الشيخ النمنكاني - رحمه الله - ولا يعرف مصير الأجزاء الباقية من هذا الكتاب الهام. |
كما قام الشيخ بنشر كتاب ((رسائل في تاريخ المدينة المنورة ضمن سلسلة دار اليمامة بالرياض سنة 1392هـ وكان من أهمها رسالة ((وصف المدينة المنورة في سنة 1303 - 1885م)) لعلي بن موسى، وقد عهد ((الجاسر)) للمؤرخ السيد عبيد مدني - رحمه الله - بكتابة ترجمة ((علي بن موسى)) وقيمة الكتاب العلمية، ويبدو أن الدكتور ((العلي)) مهتم بتاريخ المدينة المنورة ويعتبر بحثه الموسوم ((المؤلفات العربية عن المدينة والحجاز)) والمنشور في مجلة المجمع العلمي العراقي ((المجلد الحادي عشر، سنة 1384 - 1964م، من المراجع الهامة في تاريخ البلدة الطاهرة. |
ونظراً لانتساب الشيخ لقبيلة حرب، ولبني علي خاصة، فقد كان مهتماً بمخطوطة كتاب ((الأخبار الغريبة في ذكر ما وقع بطيبة الحبيبة)) للسيد جعفر بن هاشم الحسيني المدني لاحتوائها على أخبار تخص بني علي والذين يقطنون - أيضاً - المدينة وما جاورها من المناطق، وفي مداخلته العلمية على صفحات ملحق الأربعاء الأغر لما كتبتُه عن نسب السيد أحمد العربي وأبناء عمومته في المدينة ((الشريف عبد الله بن حسين وعائلته وذريته)) أشاد بما بذله العبد الفقير إلى الله بالتحقيق العلمي الذي قمتُ به لهذا الكتاب كجزء من رسالة الدكتوراه المقدمة لقسم الدراسات الشرقية بجامعة مانشستر بالمملكة المتحدة سنة 1406هـ - 1986م، وبعنوان: |
(The, Literature, of, Medina, in the, Twelfth, Century. A.H, Examine, from, Contemporary Sources). |
(أدب المدينة المنورة في القرن الثاني عشر الهجري - الثامن عشر الميلادي دراسة نقدية اعتماداً على المصادر المعاصرة). |
لقد اهتم الشيخ الجاسر - رحمه الله - بعلم الأنساب قديماً وحديثاً، وقاده هذا الاهتمام لتحقيق كتاب ((الإيناس في علم الأنساب))، وكتب مؤلفه المعروف ((جمهرة أنساب الأسر المتحضرة في نجد)) 1401هـ - 1981م، كما أخرج كتاباً عن أنساب القبائل أسماه ((معجم قبائل المملكة العربية السعودية)) 1400هـ - 1980م. |
وخرج المرحوم ((الجاسر)) بنتيجة هامة بعد رحلة طويلة في علم الأنساب دوَّنها في بعض مؤلفاته فقال: ((ولقد عنيت بالأنساب عناية حملتني على مطالعة كثير من مؤلفاتها مطالعة بحث ودراسة، وجمعت كثيراً من تلك ونسخت ما لم أستطع اقتناءه منها، وحاولت أن أؤلف في هذا الموضوع الذي أدركت اهتمام الناس في بلادنا به، وللحياة الاجتماعية أثر كبير في ذلك فلا يزال جل سكان قلب الجزيرة تقوم حياتهم على التكافؤ في النسب، ويشددون في هذا الأمر تشديداً كثيراً ما سبب مشكلات وأموراً صعبة)) ثم خَلُص المرحوم الجاسر لنتيجة هامة يوافقه عليها كل مسلم يؤمن بالميزان الذي وضعه الإسلام للتفاضل بين الناس، ألا وهو التقوى والأعمال الصالحة، يقول في هذا الشأن الفقيد ((الجاسر)): ((وأخْلُص مما تقدم على أنني أنظر الآن إلى علم الأنساب باعتباره من تراثنا القديم فهو جزء من تاريخ الأمة يُنظر إليه كما يُنظر إلى ذلك التاريخ، لا أن تبنى عليه مقوّمات الحياة الاجتماعية في هذا العصر، أو يعتبر من الأمور التي يميز بها بين الناس تمييز تفاضل، بصرف النظر عن أسباب التفاضل الصحيحة وهي الأعمال)). (انظر: العرب، ج 7 - 8، ص 15، محرم/ صفر سنة 1401هـ، ص 483 - 484). |
يُحمد للشيخ، في تاريخه العلمي والثقافي والفكري، ريادته للصحافة في المنطقة الوسطى من بلادنا العزيزة، فلقد أصدر أول صحيفة من قلب الجزيرة العربية وهي اليمامة وكان صدور العدد الأول من اليمامة في شهر ذي الحجة 1372هـ الموافق أغسطس 1953م، ويذكر السيد عثمان حافظ - رحمه الله - ((أنها صدرت على شكل مجلة في 42 صفحة على مقاس 28 - 18، وقد أشارت اليمامة إلى أنها صحيفة أسبوعية جامعة تصدر - مؤقتاً - في أول كل شهر)). (انظر: عثمان حافظ، تطور في المملكة العربية السعودية، ج 1، ص 181 - 183، شركة المدينة للطباعة والنشر). |
ويعدُّه الأستاذ الناقد عبد الله عبد الجبار ((من مقدمة الكتّاب الاجتماعيين المعنيين بدراسة نواحي الضعف في الجزيرة العربية، والتنبيه عليها، ووضع الأسس القويمة لعلاجها)). (انظر: عبد الله عبد الجبار: التيارات الأدبية الحديثة في قلب الجزيرة العربية، النثر، فن المقالة). |
ولقد تشعبت الميادين العلمية والفكرية التي كتب فيها الفقيد حتى أضحى مرجعاً في تاريخ هذه البلاد، وجغرافيتها وسكانها وآثارها، وكان أوَّاباً عندما يعرف ويتيقن من الصواب أو الرأي المجمع عليه دراية وبحثاً. فلقد كتب بعد وفاة الأستاذ الكبير عبد القدوس الأنصاري - رحمه الله - يرثيه رثاءً حاراً، ويعترف بأن الرأي الصحيح في اسم مدينة ((جُدة)) هو الضم - وهو ما كان يذهب إليه المرحوم الأنصاري - ومجموعة من مجايليه - كالأستاذ الأديب عبد الرحمن المعمر - أمد الله في عمره ، وقد اختلف مع المؤرخ الكبير السيد ((أمين مدني)) حول بعض القضايا المتصلة بالتاريخ العربي، فسأل عنه ذات مرة فقال إنه ((أديب وقور)). |
واليوم وقد نضجت فكرة إنشاء مجمع للغة العربية بمهد العروبة والإسلام، فحبذا لو حملت قاعته أو قبته العلمية اسم هذا الرائد الكبير فذلك من حقه على بني قومه أن يكرِّموه ميتاً كما كرَّموه حياً. |
|