شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
وغمضت جفنيك يا عزيز القوم
استيقظت كعادتي مع كل صباح ولكنني في هذا اليوم لم أسمع النداء يأتيني من أسفل الدار كما تعودته منذ ما يقرب من أربعين عاماً، تسللت في شيء من الذهول إلى حيث تجلس، وكانت النفس مني يملؤها الحب لك والمهابة منك، كان كل شيء في المكان يغطيه الصمت، كان المكان فسيحاً فأضحى في ناظري صغيراً، كنت أملأ العين من محياك المشرق.. لم يذهب البهاء من ذلك المحيا وأنت تدلف يا أبتاه نحو التسعين من عمرك، واليوم أجيل البصر في المكان فلا أجد من ألقي عليه تحية الصباح.. ولا ألقى من أطبع القبلة على جبينه ولا أسمع أعذب عبارة في حياتي كلها: ((الله يرضى عليك ولا يريني فيك وفي إخوتك السوء)) دعاء كنت - يا أبتاه - تخرجه من أعماقك وتصوغه من وجدانك، ورجعت بذاكرتي إلى الوراء، تذكرتك وأنت تجلس وسط أصدقائك في ذلك الحي الفسيح في ((المناخة)) أو عند منعطف باب المصري، تأخذ بيدي وتقول لي: هناك كنت أستأنس بالحديث إلى الرجل العارفة ((ذياب ناصر))، ثم تأخذك العاطفة فتبكي.. هنا في ((دكة الترجمان)) كان المرحوم ناصر حمزة غوث لا يفارقني ولا أفارقه.. نشأنا سوية ولكن العمر يا بني لم يطل بابن غوث، وتروي لي الحديث مفصلاً: صعدت مع ناصر ووالده إلى بستان ((أم الشجرة)) قبل ما يقرب من نصف قرن إلى حفل يقيمه ((ذياب ناصر)) لحمزة غوث. سمعت الشيخ ذياب يقول: عندما ضحكت الدنيا للسيد عبد الله مدني أقام بستان أم الشجرة، ثم تشير إلى الدار التي كانت ترتفع فوقها القبة المصنوعة من الحجر، هناك كنت أجلس إلى الشيخ عبد العزيز الخريجي - رحمه الله - لقد كان الرجل يحبني ولا يسافر خارج المدينة إلا ويصطفيني بين الآخرين.
وجاءك رجل يوماً يهمس في أذنك وأنت تنعم بالجلوس في ((مركازك)) فإذا بك تضع عمامتك الصفراء فوق رأسك، ترتدي عباءتك.. لقد تعوّدت ألا أسألك إلى أين أنت ذاهب؟ ولقد تعوّدت أن أصمت في حضرتك كبقية إخوتي أدباً واحتراماً، فإذا أنت تنعطف في مسيرتك إلى حي سيدنا مالك بن سنان - رضي الله عنه - وتصعد داراً عالية.. تدنو من الرجل فيقول لك: لقد اشتقت إلى حديثك - يا أبا علي. كان الرجل نحيلاً وكنت أحس من عباراته أنه مودع هذه الدنيا، تتوجه بالقول لي: هذا يا ابني الشيخ محماس الدخيل، جدهم في الحقبة الماضية - على وجاهته - كان لا يحلو الجلوس له إلا مع رجال الحارة. وأسألك عن رجل كان يقصد مجلسك بين الحين والآخر ولكنه كان قليل الحديث.. تبتسم وتقول لي هذا ((علي كاموخ)) كبقية المطاليق في المدينة المنورة الذين كانوا يرعونني إبان نشأتي منهم ((درويش سعد))، ((يوسف صيادة))، ((قاسم مراد))، ((حمزة محرم))، ((حمزة نور))، وفي فترة لاحقة من حياتك كان لك أحباب اصطفيتهم، أو اصطفوك، أدنيتهم من نفسك كما لم تدن أحداً من قبل، في مقدمتهم عثمان أبو عوف، والسيد عباس سقاف والسيد عبيد مدني، وهاشم كماخي والسيد أديب صقر، وإبراهيم شاكر، وحليت بن مسلم، والسيد صالح حلواني، وإبراهيم صبيحي، ومحمد علي بن عساف، وشاهر بن حمد، وعبد الله بخيت، والسيد أحمد محضار، وعبد العزيز ساب، وعبد الحميد المعيقل، وعبد الرحيم عويضة ومحمد علي عبد الرحمن المويلحي.
لست أدين لك بعد الله.. بلقمة العيش الحلال التي كنت تكدح ليلاً ونهاراً لتوفرها لي ولإخوتي، ولكننا يا أبتاه ندين لك كذلك بتلك المثل الرفيعة التي كنت تؤمن بها.. تعتنقها ولا ترضى أن تحيد عنها. لقد سمعتك يوماً تقول لمن سألك عن قوم في البلد الطاهر وكان رجلاً من أهل العلم والفضل. تقول له: يا فضيلة السيد، لقد عاش في المدينة المنورة بيننا أقوام لم يكونوا أبناء الأحرار ولكنهم بصنيعهم كانوا يفوقون أبناء الأحرار، وسألك يوماً شاب: خؤولتنا يا عم حمدان واحدة. ترى ما هو أصلهم؟ تصمت ويأتيه الجواب حاسماً وموجزاً: (الأصل طيب يا بني وكفى).
لم يكن يسوؤك شيء في هذه الدنيا كما كان يسوؤك الحديث في شؤون الناس بما يكرهون، بل كنت تحتد إلى درجة الغضب ويبلغ بك الأمر إلى ترك مجلس تكون بضاعته تجريح الآخرين والخوض في خصوصياتهم.
أنت خريج مدرسة الحياة الذي لم يكن همه جمع المال ولكن طموحاته في الحياة كانت شيئاً آخر، كنت تدعو إذا رضيت بالتوفيق، وبالهداية إذا أصابك شيء من الغضب، وكنت تحذر البعض من الدعاء على أبنائهم، وكان ذكر الله أنيسك في السراء والضراء وكان حب المصطفى صلى الله عليه وسلم متغلغلاً في أعماق نفسك.. تذرف الدمع إذا ذكر اسمه الشريف، وتقف على ضريحه المشرف في وقار وسكينة.
لقد ورثتنا، يا أبتاه، حب الله وحب رسوله وأصحابه وآل بيته، وإننا لنتشرف بما ورثتنا إياه، فنم قرير العين أيها الحبيب في الربوة الطاهرة، حيث ينثر رب العزة والجلال في يوم الميعاد أهل البقيع في الجنة نثراً كما ورد في الأثر الصحيح.
إنهم جيران المصطفى نشأوا على التأدب معه ومع صحابته وآل بيته - رضوان الله عليهم - ونشأوا أبناءهم على هذا المسلك الإيماني القويم، فهنيئاً لقوم ناصر أجدادهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - في دعوته - ففازوا بالقرب منه وحظوا بالرعاية في كنفه الشريف، وهنيئاً لأحفاد أولئك القوم العظام الذين تفتحت عقولهم وقلوبهم وأبصارهم على ذلك النور المضيء وتلك الشمس المشرقة، إن حياتهم يا صديقي لتختم بالإيمان الكامل وما أروعها من خاتمة وأكرمها من نهاية.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :829  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 302 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الثاني - مقالات الأدباء والكتاب في الصحافة المحلية والعربية (2): 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج