شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ثانياً: العروبَة والإسلام
على أن دائرة شعر عبد الله بلخير تتسع -كما رأينا- لتشمل دائرة أرحب، تستوعب كل العرب والمسلمين.. تنداح عواطفه الوطنية وتفيض لتصب في بحر عواطفه القومية والدينية، وإنها لمشاعر ثابتة ومستمرة، تدب في وجدانه بكل صفاء وحرارة منذ مرحلته الأولى، وحتى الآن، فيظل صوته الشعري متماوجاً بالعروبة والإسلام.. أصداء: يعرب، العرب، الوحدة الكبرى، الإسلام، محمد، مكة، يثرب، الحرمين.. لا تفارق آذاننا.. إن هذا الصوت عربي الأداء والروح والهدف.. أصالة القيم والمثل والتراث التي يتمتع بها الشاعر هي التي تسود أجواء شعره.
وتتجلى عواطف الشاعر القومية، في المواقف التي تجمعه بشباب العروبة من أي بلد كان.. فهي مواقف تزخر بالحب والتعاطف والتجاوب.. ومن خلالها يغمرنا بالأفكار والأحاسيس، والمبادئ والرؤى، فإن شعره القومي يلامس منا القلب والوجدان، والفكر والروح. فيقول الشاعر من قصيدة حيا بها (وفد بنك) مصر عندما زار الحجاز عام 1353هـ:
(طلعة) الخير للعروبـة مـن أمـ
سى لـدى شعبـه عزيـزاً نبيـلا
أنت نظمت (بنك مصر) وأهديـ
ـت إلى الشعب (زمزماً) و(النيلا)
يتغنى به (المقطم) و (الأهـ
رام) رمزاً للتضحيات جليلا
وتباهي بـه (الجزيـرة) و (الشر
ق) افتخاراً بيـن الشعوب طويـلا
إن هذا القدوم قد أنعـش العـر
ب جميعاً شبابهم والكهولا
وازدهت (مكة) بذلك حتى
غمر الأنس نجدها والسهولا
وهي إن تحتفِ بكم تحتـفِ بالمـ
ـجد، مجد الإسلام عرضاً وطولا
لو مشت (مصر) نحو (مكة) شبراً
لمشت (مكة) إلى (مصر) ميلا (1)
وتأخذ عواطفه مع القطر العراقي تعمق وتسخن أكثر- وهو في تحية الكشافة العراقية- ثم تمتد أحاسيسه القومية الشمولية، لتلاحق جماهير أخرى تضم كل أنحاء العروبة (2) . على أن القيم والمعاني الروحية والدينية تخالط عواطف الشاعر، وتتناغم في لحن عربي إسلامي:
يا مرحباً ببني (العراق) ومن بهم
يعتَزُّ كل موحد (بالضاد)
رسل السلام إلى (العروبة) كلها
وبناة (وحدتها) بكل بلاد
مد (العراق) إلى (الحجاز) يمينـه
فمشى (المقام) مهنئاً بوداد
وترجلت (صنعا) وقـام مرحبـاً
(بردى) يصفق بين دوح الـوادي
وتخللت (شبه الجزيـرة) صيحـة
هي (حضرموت) تئن في الأصفاد
يا وحدة العرب التي نسعـى لهـا
حتى نشيدها على الأعماد
ومشت مواكبها وأقبل جمعها
و (الله) قائدها و(أحمد) حادي
وتبث (زمزم) للفرات حنينها
و (الكرخ) يبعث شوقه (لجياد)
وتهب من (مهـد النبـوة) نسمـة
تغشى (الرصافة) كالشعاع الهادي (3)
ولقد كان من نقاء وأصالة وعروبة هذا الشعر أن قررت وزارة المعارف العراقية تلك القصيدة في جميع مدارسها الثانوية وعممها فخري البار ودي في كثير من مدارس سورية، كما تحفظ في مدارس اليمن وحضرموت، ومن حفاظها ورواتها الدكتور يوسف عز الدين، والأستاذ محمود شيت خطاب الذي كان أحد أعضاء وفد الكشافة يومئذ. وممن يحفظها الزعيمان اليمانيان: أحمد محمد نعمان، والشاعر المفلق محمد محمود الزبير.
كما أن إعجاب الشاعر محمد حسن عواد بعبد الله بلخير بدأ منذ أطلق صيحته بالدعوة إلى الوحدة العربية في قصيدته (تحية الكشافة العراقية)، ولاسيما قد كان العواد آنذاك ينشر مقالات في الوحدة العربية (4) تتفجر بالحس القومي الصادق.
وإن مشاعر عبد الله بلخير القومية لتتجلى في فرحته وعزته وإجلاله، ساعة شهد أحاديث العروبة بين شباب قطرين عربيين، تلاقيا على بطاح مكة. ومن هنا جاءت صيحته:
شبه الجزيرة موطني وبلادي
من حضرموت إلى حمى بغداد
تكبيرة مدوية هزت بطاح مكة وشعابها، وهزت الحفل الزاخر الذي ألقيت فيه. إذ كان بين الحاضرين الأستاذ محمد الغنيمي التفتازاني أبرز وجه مصري في أيامه يجيء إلى الحج، ومن بين الوفد السوري جميل مردم بك، وفخري البارودي، والشاعر شفيق جبري.
وفي خطابه وتحيته الشباب "بمناسبة سفر البعثة الثانية للطيران إلى أوروبا" (5) ، تبرز لنا مشاعره الوطنية والقومية والدينية بشكل أوضح، بحيث يستمد من نفوسهم وعزمهم وتضحياتهم أصالة العرب والإسلام، عبر الأرض والشعب والدين، ودور الشباب في مسيرة التقدم والحضارة والتاريخ. وإنها لتظل دائماً - في ساحة فكره ونفسه- حقائق عن الشباب وطاقاتهم:
نهض (الحجاز) وصحت الأحلام
ووفى الزمان فبرت الأقسام
فعلى النفوس الطامحات تحية
منا يرتل آيها (الإسلام)
وعلى الشباب الناهضين إلى العلا
السائرين إلى الأمام سلام
البائعين لشعبهم أرواحهم
من كل حـر فـي الوغى ضرغام
بوركت يا عزم الشبـاب وقدسـت
روح الشجاعة فيك والإقدام
أمل الجزيرة قـد أنيـط بعزمكـم
(بغداد) ترقـب نـوره و ( الشـام)
متطلعين إلى (الحجاز) فإنه
في ظل عصر قائد وإمام
أبناء يعرب والنفوس فداؤكم
ما للشبـاب علـى الهـوان مقـام
الشعب يحيا بالشبـاب فإنـه الـ
ـروح التي تنمـو بهـا الأجسام
يا من يعز علـى البـلاد فراقهـم
وهم البـزاة الصيـد أيـن أقامـوا
الله في حسن السلوك فإنكم
عرب ودينكم هو الإسلام
فالله يرقب كل ما تأتونه
و (الشعب) و ( التاريخ) و ( الأيام)
ونراكم سربا يهز دويكم
قمم الجبال فتصعق الآكام
إذا عرفنا أن هذه القصائد قيلت منذ نصف قرن، وعلى لسان فتى لما يتجاوز العشرين، أدركنا أنها ما زالت تتمتع بحرارة وحدة انفعال وصدق ورؤية لا حدود لها، وأننا ما زلنا نسمع صوتاً عربياً ذا إيقاع متميز يتسرب في طيات الروح والوجدان، ومعزفاً يصدح ما بين المشاعر والعواطف، وأن أوتاره أوتارنا.. وأنغامه لها منفذ واحد هو آذاننا، وروحه لها مستراح واحد هو قلوبنا. وإننا لنزداد إعجاباً وتقديراً إذا عرفنا أيضاً أن ذلك المعزف ما زال في عزفه وأنغامه، بذات الحرارة والانفعال والصدق رغم القدم وطول الزمان، وبخاصة في قصيدته (صحافتنا على هضبات نجد)، التي نجد فيها تجدد المشاعر الوطنية، والسمو في آفاق جديدة من أجيال الشباب الذين يرى فيهم رؤى شبابه الذي ولى وشاب، وكأن عشرات السنين التي خطفت من عمره لما تطفئ فيه وقدة الانفعال وتألق الروح والوجدان.. فقد أعاد إلينا وميض الشباب وحيويته وقدراته وعظمته بسلاحه المعهود، سلاح الشباب وهو مزود بالأقلام والمصاحف والحراب.. إنها لقلادة سامية -قلادة العلم والدين والقوة- تزين صدر أمته كي تبلغ المعالي:
أحيي في بني وطني الشبابا
وأبصر فيهم العجب العجابا
وأرفع هامتي عزاً وفخراً
بهم وأراهم الأمل المجابا
شباب جزيرتي وصقـور سربـي
ومن ركبـوا إلى العليا الصعابـا
طووا بعد المدى كالنـور يطـوي
طباق الكون يشـرق حيث غابـا
وينتشرون في الآفاق حتى
ترى فـي كـل عاصمـة شهابـا
وقد عرفوا الطريق إلى المعالي
وقـد جعلوا لهـا (الأقلام) بابـا
يسير المسلمون على هداها
وقد حملوا (المصاحف) و (الحرابا)
أحيي في الشباب رؤى شبابـي
تراءى بعدما ولى وشابا
فيا عزم الشباب إذا تعالى
وحلق صاخباً يطوي السحابا
وهز مناكب الجوزاء هزاً
وذلل دون ما يرجو العقابا
عنيت بما عنيت شباب قومي
الأباة المستحقين الثوابا
على خلق من الإسلام يأبى
المثالب والشتائم والسبابا
ولا أعني بهم من قد أساؤوا
إلى الوطن العزيز ولا الذئابا
أولئك في هدى الإسلام رجس
سيجزون الجحيم لهم عقابا
وإن أكثر المتألمين للواقع العربي المعاصر، هم رواد الأدب العربي الأصيل.. الذين تشبعوا بكل قيمه ومثله، وتمثلوا كل مناهجه وسبله، وعاشوا مع أعلامه وأفذاذه. كان التراث العربي -الأدبي والديني والحضاري- هواء يتنفسونه، وشمساً يستدفئون بها. فامتلأت نفوسهم بأجواء التاريخ وامتزجت بدمائهم حرارة الماضي وقوته، وسرت في أرواحهم نفحة من عظمة الأبطال، وسمو الأجداد، والتمعت مخيلاتهم ببريق الأمجاد، وروعة الانتصارات، وامتداد الفتوحات.. ولهذا كله، كان شاعرنا واحداً من أولئك الرواد الذين عاشوا بأرواحهم وقلوبهم تألق العرب وحضارتهم التاريخية الماضية.. كما عانوا وعاشوا -في الوقت نفسه- مرارة الواقع، وكلحة المصير الذي آل إليه العرب في تاريخهم المعاصر.
ومن هنا جاءت تجربة الشاعر عبد الله بلخير، تجربة وجدانية وشعورية عنيفة، ومعاناته حسية وفكرية عصرية.. تمخضت عنهما شاعرية متميزة، وشعر عربي أصيل نقي.. يحاول فيه أن يعيد للإنسان العربي كرامته، من خلال العودة إلى الماضي المجيد، والاعتبار بالحاضر المشين. ولذلك -وكما سنرى- ستكون ملاحم بلخير العربية والإسلامية والحضارية رداً وترجمة للمصير الأسود، والإحباط الذي عم النفوس، واليأس الذي استبد بالإيرادات، والضعف الذي استولى على القلوب.
وحتى في قصائده الأخرى ذات المناسبات المحلية والوطنية والإخوانية، كان بلخير لا ينسى الواقع العربي والإسلامي المحزن.. فيلتفت إليه ويعيره بعض وجدانه ومشاعره.
وأكثر ما يؤلمه من هذا الواقع المر، هو الفرقة التي تعيشها الأمة العربية والإسلامية.. والعدو ينصب لهم المكائد والمخططات المعروفة -منذ بدأ الاستعمار يهيمن على أرض العروبة- التي تزيد من فرقتهم وعداوتهم.
وقصيدته [لبيك يا أم القرى] (6) التي بلغت ستة وثمانين بيتاً، يفرد منها أكثر من ثلاثين بيتاً في واقع العرب والمسلمين، ومخططات الاستعمار، وإثارة النخوة واليقظة للعمل الوحدوي على ضوء الإسلام، وبناء الحضارة يقول منها:
والمسلمون على اختلاف ديارهم
في الأرض، في مرمى السهام لمن برى
في محنـة كبـرى، تكالبت القـوى
مـن حولهـم بطشاً بهـم، وتسيطـرا
فتفرقوا شيعاً يحارب بعضهم
بعضاً، وأكثرهم يباع ويشترى
طفئت مصابيح (الهداية) بينهم
فإذا بهم أدنى الشعوب تنورا
فقدوا (القيادة) وهي في (قرآنهم)
كالشمس مشرقة الضياء لمن سرى
كانوا بها في الأرض سادة من بها
عدلاً، وعلماً يجتلى، وتحررا
* * *
لا عذر بعد اليوم، فانهض واتخذ
من (وحدة العرب) العظيمـة معبـرا
بلغت شعوب الأرض غاية مجدها
أما تفرقنا، فخلّفنا ورا
وفي قصيدته [زرعوا الحديد] (7) يعرج ثانية على فرقة العرب والمسلمين. فإذا كان سبب تلك الفرقة -كما ذكرنا في قصيدته السابقة- هو الاستعمار، وتخلي المسلمين عن دينهم، فإن للفرقة أسباباً أخرى، إذ زرع بذورها العرب والمسلمون أنفسهم، وبوسائل إعلامهم. فيقول:
فوسائل الإعلام، أكثرها
مما أساء ودمر العربا
كانت وما زالت أساس بلا ألـ
.. إسلام، فيما ساء منقلبا
نسفت (عقائدنا) و (وحدتنا)
فغدت أخوتنا بها حوبا
كانت، وما زالت تشب لظى الـ
.. أحقاد، تشعل نارها حطبا
كم أسعرت حرباً مؤججة
خاضت بها البهتان والريبا
كم شتتت شملاً وكم رفعت
من هب من نكراتنا ودبا
* * *
ويقرن الشاعر عبد الله بلخير مع عروبته وإسلامه، شباب وطنه وأمته ودينه -كما رأينا- من خلال مدحه وفخره.. ليظل الشباب المخلص المجد المتعلم -في نظره- رمزاً لقوة الإسلام والعروبة، ورمزاً لنهضة الأمم وبناء أمجادها وحاضرها ومستقبلها. ولنسمع مدائحه وافتخاره بشباب (مدرسة الفلاح)، ولنر كيف يركز، ويحث الشباب على قيم: العمل، والإخلاص، والتضحية والعزم.. التي تبلور قدراتهم المنتجة:
نريد رجالاً عاملين تهمهم
حياة بني الإسلام إن نابهم شر
نريد رجالاً مخلصين لقومهم
يسد بهم في كل مملكة ثغر
نريد رجالاً يبذلون نفوسهم
ليشروا بها عزاً إذا ذعر الذعر
نريد نهوضاً للمعالي بهمة
وعزم كحد السيف ليس به خور (8)
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2088  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 9 من 36
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الخامس - حياتي مع الجوع والحب والحرب: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج