شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أبو ريحان السقا

* * *

كنا نشهده ونحن مصعِّدون في ضحوة النهار المبكر إلى مدرستنا (الراقية) على كتف جبل هندي (1) .
نشهده في أغلب أيامنا منحنياً تحت قربته (الشعارى) الكبيرة ينقل خطاه في تثاقل تحت وطأتها متوكئاً على عصاه القصيرة كأنها رجل ثالثة أرادها ليُخالف بها من يمشي على رجلين أو على أربع.
وربما بلغ أبو ريحان منتصف "الدحديرة" الصاعدة إلى جبل هندي قبلنا، فيقف إلى دكة هناك هيأها السقاةُ لراحتهم، وهي على ارتفاع خاص يسامت ظهورهم إذا وقفوا إليها وجعلوها كمحطة تستريح عليها "قربهم" لبينما تهدأ أنفاسهم من عناء التصعيد؛ ثم يستأنفون صعودهم.. إلى بيوت الجبل.
وكنا شلة من صغار الطلبة تجمعنا الشقاوة وحب العبث بعم ريحان دون جميع السقاة الصاعدين أو الهابطين في جبل الهندي.
كان أبو ريحان يمتاز بقربة تتعدَّد ثقوبها بشكل غريب فلا تفتأ ترش الشارع خلفه وجميع ما يتصل بالشارع من مشاة أو بضائع تحتل الطريق أمام دكاكين أصحابها.
وكان من عبثنا أن ننتظر عم ريحان آتياً من "بازان الشامية"، يحمل قربته الرشاشة.. ننتظره في مطلع الجبل إلى جوار دكان هناك كان يفترش جزءاً من الشارع ببضاعته.. حتى إذا أقبل وقف أحدنا لاصقاً بالحائط وفي يده شيء من النبق ماداً يده: "خذ يا عم ريحان".
وعم ريحان (نفسه رتعة)، لا يكاد يرى النبق في يد أحدنا أو قطعة من "الجزر اليماني" حتى يميل بخطوة ناحية الواقف في لهفة فيتصوب الرشاش إلى بضاعة الدكان وينال زنبيل الدقيق منه الكثير الذي يعجنه.
ولا يكاد أبو ريحان يشعر بالمقلب الذي نسوقه إليه فنحن نعرف أن صاحب الدكان شرير وأنه يكفي لإثارته ضد عم ريحان أن نسوق عم ريحان بقربته الرشاشة إلى ما يقرب من الحائط ليتصل رشاش القربة ببضاعة عمنا الشرير.
لا يكاد أبو ريحان يشعر بمقلبنا فالقليل من النبق يذهله وينسيه ما قاساه أكثر من مرة من أهوال الرجل.
ويمضي أبو ريحان في تصعيده، فنتكتل خلفه معرضين أثوابنا النظيفة ودفاترنا وكتبنا لرشاشه اللذيذ، وربما تدافعنا خلفه ووقع بعضها بين رجليه فتعثرتا واختل توازنها فيصرخ فينا مهدداً متوعداً، ولكن قطعة من الجزر نضعها في فمه وهو يمضي منحنياً أمامنا تحت القربة كافية لأن تنبسط أساريره وربما استغرق في الضحك.. وهو يقضمها بشره.
ويزيد ضحكه إغراقاً إذا "مسكنا الزومان" خلفه على حركة أيدينا وهي تصفق: "أبو ريحان.. يا ساقي العطشان.. شفتك في الدرجان.. تغالط رمضان".
أنا شخصياً أشهد أن الرجل لا يفطر رمضان رغم ما يعاني من ثقل القربة ومشاوير الجبل ولكنه طيب إلى أبعد حدود الطيبة والتغفيل، ولا يهمه من أمر هذه الحياة إلاَّ أن يجمع الهللة فوق الهللة، وأن تسخو يد الصغار له بشيء من "الفشار"، أو "طبطاب الجنة"، أو حتى "فوفلة" يضعها بين فكيه في غير وقت الصيام؛ فتسبيه وتسري عنه كل الهموم التي يعانيها من شقاوة الأطفال..
وكان لفرط سذاجته كثير الإساءة إلى عملائه وزبائنه.. إنه لا يقصد إساءة الناس ولكن سذاجته كثيراً ما تسوقه إلى أذى الناس كما شهدناه يرش دقيق صاحب الدكان بدافع من شراهته لقطعة من الجزر لوحنا له بها.
وقد يشاغبه طفل فيرميه بعصاه التي يتوكأ عليها، فتصادف رأس الطفل أو أنفه فيمضي باكياً إلى أهله أو ترتطم عصاه بأحد المارة أو ببضاعة أحد الباعة أو بمرآة معروضة في السوق، فيركبه الخطأ وتنهال عليه الشتائم ثم تتصل الشكاوى بشيخ السقاة "بعلولة" فيطبق عليه القوانين دون أن يثبت له شيء لفرط عيِّه وضعفه في الدفاع.
وكان السقاة في مكة جلهم أو كلهم بالأصح عبيداً أو عتقاء أو مولودين من العبيد والعتقاء على غرار عم ريحان، وقلما يوجد بينهم من بدو الحجاز الذين التحقوا بهم فيما بعد ليحملوا الماء في صفائح.. كان حمل القربة وقفاً على هؤلاء السود، فحملها لا يرقى لاحترافه البدو الطارئون.. يكفي أن يبيحوهم العيش على هامش البازان، دون أن يربطوهم بقواعد السقاية وقوانينها.
ربما أخطأ البدوي على زبون فحسب شيخ البازان توبيخه أو منعه من السقيا، أما إذا أخطأ الأسود من أمثال عم ريحان فعلى شيخ البازان أن يعامله معاملة الأصيل فلا يستبيح توبيخه أو منعه من السقيا حتى يحيل قضيته إلى الجمعية العمومية لتسمع له أو عليه ثم تقرر ما يفرضه القانون.
وتتكون الجمعية العمومية من سائر سقاتنا السود ولا يجوز لحامل صفائح "مهما بلغ شأنه"، أن يحضرها فهو ليس من فصيلة العبيد الأصلاء في البازانات.
وتتكون الجمعية عند اللزوم بدعوة من شيخ البازان في حلقة على التراب مستديرة على خطوات من البازان، يتصدرها شيخ البازان على يمينه وشماله أعضاء الميمنة والميسرة حسب أصالتهم وأقدميتهم في البازان، ثم يأتي بعدهم بقية السقاة يحتلون مقاعدهم حسب ما يعرفون من مراكزهم وربما أبيح لبعضهم أن يأخذوا مقاعدهم من بعض الحجارة التي يصادفونها إذا كانوا كبار السن أو المقام، ويتورك الباقون على بساط الله فوق التراب.
وتتوسط الحلقة فروة مسجاة يقف نقيب البازان بجوارها على العصا.. عصا القانون الخاصة بالتنفيذ، وعندئذ تفتح الجلسة.
يفتحها الرئيس: "هذا أخوكم أبو فرج الله، أو أبو سنكيت، أو أبو ريحان، أخطأ في حق الشيخ فلان.. أخر عليه (المويه) أو كسر له الزير أو داس في بطن الغنمة أو أطال لسانه على الولد الصغير.. وقد وصلني الشيخ يطلب الحق.. ايش تشوفوا"؟
وهنا يميل أعضاء اليمين ليتهامسوا، وأعضاء اليسار ليتخافتوا ثم يهيب أحد الكبار: "طيب يا شيخ نسمع منه..".
وهم يقصدون أن يسمعوا من المتهم لأن المدعي لا يلزم بالحضور وحسبه أنه رفع حجته إلى شيخ البازان وعلى المتهم أن يدفعها.
والغريب في أمر المدعي أنهم يفرضون صدقه في أكثر الأوقات لأنه زبون وللزبون حرمته وقيمته، ولأن قانونهم لا يحب التهاون في ملاحقتهم ولو للشبهة أو الظنّة مبالغة في تربيتهم على الأدب في معاملة الزبائن وغير الزبائن من آحاد الناس.
بهذه الروح تستمع الجمعية إلى دفاع المتهم فلا تقتنع إلاَّ بتأديبه وعندئذ يدعى إلى الفروة التي تتوسط الحلقة فيتوسَّدها مبطوحاً على وجهه ويشرع النقيب عصاه ويبدأ الجلد.
وأي جلد هو؟؟ لقد كنت أتمنى إلى مشايخنا في المدرسة أن يتعلموا تقليده.. فليس ثمة خيزرانة لدنة تترك أثرها في الجلد بين اللازوردي والأزرق كما كان الحال في مدارسنا، بل هي قطعة من الغاب أو ما يشبه الغاب يوازي ثخنها ثخن المواصير ذات البوصة؛ لو ضرب بها الأطفال من أمثالي يومها عشرة لما وازت لسعة واحدة مما كنا نذوقه من أيدي مشايخنا.
ولهم في الجلد أساليب رحيمة.. إن يد الضارب لا تنفصل عن أبطه وهو إذا ضرب ثلاثاً في الإلية اليمنى انتقل إلى الجانب الآخر ليضرب مثلها في الإلية اليسرى ولا يطول الجلد في الغالب إلى أكثر، لهذا فقانونهم الصارم يبيح للمتفرجة حول الحلقة أن يقدموا إلى الحلقة أي عود أخضر ولو من حزم البرسيم ليشفع العود الأخضر للجاني فيتوقف الجلد.
وكان قانونهم بقدر ما أراد أن يكون صارماً محتاطاً للشبهة أبى إلاَّ أن يمد للرحمة في أسلوب الجلد وتعطيله عند أي رمز يقدم للشفاعة.
وكان صاحبنا أبو ريحان وافر الحظ في حلقة التأديب فلا يكاد يقضى يوم أو اثنان حتى نسمع أنه مطلوب "للبداية"، والبداية في عرفهم هي الجمعية العمومية التي تدينه لأتفه الشكاوى، ويعجز لفرط عيِّه وقسوة القانون عن الدفاع فيفترش الفروة وسط الحلقة مستعيناً بالله على حكم الجلد، ولكنه لا يكاد يذوق الجلدة الأولى أو الثانية حتى تتهافت أعواد البرسيم على الحلقة من المتفرجة وأكثرهم يعطفون على بلاهته ويعرفون أن شراهته لما في أيدي الصغار من حلوى أو "نقل" وحرصه على ملاحقة الكسب الرخيص وإمساكه على (الهللة) بعد الأخرى، كلها أشياء تعرضه بالإضافة إلى بلاهته إلى الشغب وعبث الناس به حتى يقابحهم أو يتورط رغم ضعفه في مضاربتهم.
ومضت سنوات طويلة ابتعدت أثناءها عن المدرسة ونسيت (أبا ريحان)، حتى كنت في أحد الأيام أزور مستشفى أجياد فإذا جلبة عالية.. وإذا أناس يتجمعون حول سيارة الإسعاف عند باب المستشفى فوقفت أنظر فإذا أبو ريحان منقول على حمال الإسعاف في حالة يبكي لها الفؤاد، وإذا طائفة من كبار السقاة على رأسهم شيخهم (بعلولة) يتبعونه في أسى صامت فوجدتني أتابعهم بدافع من علاقة الطفولة حتى إذا استوى فوق أحد الأسرة فتح عينيه في ضعف فلما رآني بين الوقوف انفرجت شفتاه في ألم بالغ: "يا ولد سيدي.. شوفي الله يخليكي ليش جابوني هنا.. أنا ما سويت شي!!".
مسكين.. لقد اصطلحت عليه السذاجة وهذيان الألم فاختلطت عليه الأمور.
وملت إلى أحد "سناديله" أستفسره الأمر فراح يشرح لي ما أصابه: عاش أبو ريحان محروماً من لذة العيش يجمع الهللة إلى الهللة، ولا يسخو لنفسه بلقمة طيبة يشتهيها، فاستغل أحد الشطار لؤمه وراح يدعوه إلى أطايب الأكل في براءة جازت على سذاجته حتى إذا تمكن من قلبه وسيطر على عقله استطاع بأسلوبه الخلاب أن يستولي على ذخيرة أبي ريحان حصيلة العمر على أن يحفظها له ويقدم له من أرباحها ما يشتهي من لذائذ العيش فلما باتت في يده لم يبرح حتى تنكر له ومنعه حتى رغيف العيش الحاف.
واحتدم أبو ريحان غيظاً وارتفعت عقيرته فألهب حماس الشاطر وصاح به: "روح.. مالك عندي شي".
فكانت صدمة نقلت أبا ريحان إلى المستشفى ليواجه ذهول الموت.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :812  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 8 من 156
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

محمد سعيد عبد المقصود خوجه

[حياته وآثاره: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج