شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بين النقد والجمال (1)
(2)
إن لبعض الصور والأشياء قوانين ذاتية لا تفسر اصطلاحاتها ورموزها إلا بمفتاحها الخاص. فإذا التمسنا فهمها بغير مفتاح هذه القوانين اضطرب بنا القياس واختلت الأحكام ونحن لا نطلب أن يكون مزاج كل شاعر صورة لأمزجة الشعراء في دنيا فيها الشيوع وفيها الندرة، وفيها الاتفاق والاختلاف والاستقامة والعوج والصحة والخطأ ونقول الدنيا ونعني بها النفوس وخوالجها ونزعاتها وعالمها الحفيل.
والحياة بغير هذا التنوع والتفاوت والتناقض والتباين خليقة بأن تفقد قوام معناها الفني.
والغلبة ليست دليل الصحة فما خلدت الحياة أحسن آثارها إلا من سبيل الندرة ومخالفة المألوفات الدارجة. فالشعر كلام تدور على ألسنة الناس ألفاظه ومعانيه ولكنه فوق الكلام الشائع. والشعر والعبقري نظيم كسائر الشعر في التركيب والتوليد والافتنان، ولكنه غير سائر الشعر في قيمه ومعاييره وعمقه وندرته. وألماس زجاج في الزجاج مثل بريقه وسطوعه ولكن ليست فيه ندرته وخواصه وصلابته. والهمجي لا يميز بينهما.
والناس يتفقون على حسن الجدول والحقل، ويتشابهون في الارتياح إليهما ويشتركون في تناولهما من ناحية الطلاقة الظاهرة، والجمال المتاح والمتعة الهنيئة ولكن الشاعر المبتكر والفيلسوف المتعمق والعاشق المشغوف، يتناولون في الحقل والجدول ومن معانيهما الخفية وحقائقهما المتخيلة وعلاقاتهما بهوى النفس والفكر، فرحاً وترحاً وطرباً وانقباضاً ما لا يستطيع الناس إدراكه أو الشعور به، فهل يعرف جمال الجدول والحقل بالنظرة الغالية أيهما، أم بالنظرة الفريدة تتخطى حدود النظرة العابرة والشعور القريب؟
ومن يظن أن فرحة الأديب والشاعر والفيلسوف بالجدول والحقل كفرحة الرجل العادي، أو من يرى أن شعور العاشق بنبض الحياة ومعانيها ونسيمها الخافت حوله وفي نفسه في حالات سروره وحزنه ويأسه ورجائه، كشعور الخلي اللاهي؟؟ فالشاعر والفيلسوف والعاشق لا يختلفون عن عامة الناس في هذا إلا بأن لهم حساً فوق حس الناس وأمزجة أدق وملكات أحفل وإدراكاً أخصب. فإن شئنا أن نقارن بين نظرة الفيلسوف والشاعر وبين نظرة الرجل العادي إلى شيء وجب أن نعطي كلا نسبيته وقانونه. ولا يكفي هنا أن تكون النسبة الشائعة القانون المشترك إنسانيته الضدين وتشاكل ظاهرهما وحدة الموضوع.
ورب ناظر يرى الجدول فيرى لغة الجمال تتزاحم فيها المعاني وتتداعى فيدرك كل معنى منها بشتى الحواس، وآخر يراه بالعين المجردة والخيال المحدود فما يجد فيه إلا ما يجد الحيوان السارح أو الطائر المتوثب أو الطفل الطروب من فرحة قصيرة الأجل حنيقة المدى.
هذا فرق ما بين الناس والنظرات. وليست الدنيا هذه الرقعة الواسعة الجامدة، إنما هي هذه المعاني المنطلقة المتجددة في خياله ونفسه وفكره. وبذلك تدفع الحياة من نفوس الشاعرين بها لغوب السآمة، وفتور الملل. فالحياة كما قلنا -حياة بالتغيير الدائم، والتجدد المستمر والتطور إلى أرقى وأكمل معانيها وحوافزها وأفتن مظاهر جمالها بل هو معنى الجمال وسره فيها والسعادة -في رأينا- هي المسرة المتجددة.
والجمال من أغلى غايات السعادة إن لم يكن أغلى غاياتها فلو لم تكن السعادة غاية النفس أكان يكون الجمال مطلبها الذي تريمه وتلتمسه؟ فإذا لم يوح الجمال بالمسرة المتجددة لم يضمن السعادة وهو فخها المنصوب وأحبلتها القائمة.
وكيف يضمن الجمال تجدد المسرة واطرادها إن كان غير قدير على تجديد معانيه وتنويع مؤثراته وتزويدها بالألوان والطيوف والأخيلة الموشاة؟ فهل يطيق الجمال هذا العبء والزمن جزء من معنى الجمال والشعور به؟؟ وأي شيء في الحياة تبقى له روعة جماله، وجدة معناه في نفوسنا وأبصارنا بعد فهمه واستغراقه والتزود بخير ما فيه وأجمله؟؟
إنا لو نظرنا إلى الوجود لما أصبنا معناه إلا في الإنسان، ولو التمسنا معنى الإنسان لما أصبناه إلا في الزمن الدائب.
والزمن ليس إلا إحساسنا بالحركة والتحول ولو وقف كل شيء في أعيننا لا يريم مكانه لما كان الجمال ولا كان الشعور بالسعادة.
ما معنى مظاهر الوجود في ذاتها؟ ما معنى الجدول المترقرق والحقل المهتز والنسمة؟
ما معنى مظاهر الوجود في ذاتها المتألق والبدر المشرق والليل الساجي؟؟
أليست حقيقة معانيها في نفس الإنسان ونظرته وشعوره وما كنه هذه الحقيقة ومعانيها في نفسه إلا أنها جزء من الزمن المتغير وساعاته المتجددة؟
فالمباني تنسب إلى مظاهر الوجود من قبيل التغليب وإلا فهي في حقيقتها معاني أنفسنا وصور أفكارنا ومشاعرنا وتأثراتنا.
وهب أنني رجل أكمه الذوق. فما تكون معاني هذه الصور في نفسي؟
أو هب أنني فلاح يقضي حياته بين حقوله وعلى صفحات جداولها المنسابة؟
تتلون معانيها في نفسي ودخائل فكري هذا الجمال المعبر الأخاذ. الذي يحسه الشاعر ويساجله ويناغيه العاشق ويحدثه الفيلسوف ويستنطقه أم أنها تكون عندي رمز الكد وضرورة الإنتاج والنصب للعيش وضروراته القاهرة؟
ونحن نشير بالاستصفاء والتذوق إلى غير علاج الفكر والنظر، فهل فهم الأستاذ الصديق كناية هذا العلاج على وجهها الصحيح، أم كانت الغيمة أقل شفوفاً عما يحول وراءها، فبقيت للألفاظ مدلولاتها الدانية؟
وحسب الصديق أن يقيس وقع السماء في النفس، في حالاتها الخاصة إلى وقع الجمال الحي النابض في شتى حالاته ليرى الفارق جلياً فوق بداهة النفس والفكر عشرات الأدلة عليه.
ولو افترضنا الدوام والإدمان للنظرة إلى السماء لما كان هذا دليل الفهم والإحاطة بمعاني جزء من مظاهرها المجهولة.
وكلامنا على إدمان النظرة المشفوفة إلى الصورة الجميلة والعكوف على استصفاء معانيها وتركيزها، يعني الفهم والتذوق والتغلغل في أطوائها، والإحاطة بما يفرضه الخيال المتداعي لما يكمن وراء حدودها الظاهرة فما تقاس به النظرة إلى جمال السماء أو جمال الفكرة الفرضية عنها.
والسماء بعد من مظاهر الوجود الثابتة بالنسبة إلى عمر الإنسان المحدود فهي على نقيض الصورة الجميلة الحية، يكون الزمن جزءاً من حقيقتها. وطبيعة الشعور بها وإلحاح الشوق إلى استصفاء معانيها والزمن ولو كان ربيعاً كله ما كان للربيع معنى جدته وسحره وروائه الأخاذ لذلك كان تعاقب الصور وتجددها شرطاً لازماً لضمان تأثير الجمال، وتأثير معانيه. ولذلك كان الزمن جزءاً من حقيقة الجمال أو كان أهم أجزائها.
وقد قلنا إن الحياة تكون جميلة رائعة بالتغيير والتجدد ونحن نرى أن أصحاب الإدراكات الواسعة والإحساس القوي والتذوق العميق أكثر تغييراً أو ابتداعاً وأكثر ميلاً إلى التغيير والابتداع وهذا تقليد لمجرى الحياة الصادقة فهل كانوا هكذا، وإلا لأنهم أفهم للحياة وأفطن لمعاني الجمال وأكثر طلاباً لها وتوفراً عليها؟ وهم بعد أسرع مللاً من ذوي النفوس الراكدة الذين يرون الجمال بحواس لا تختلف عن حواس البهائم السائمة فهم لا يعرفون الملل لأنهم لا يعرفون التوليد ولا تتفجر في نفوسهم المعاني والخيالات والمطالب ولا تتداعى الصور.
وقد نرى إنساناً يسحره البدر لأنه المضيء الساطع. فإذا شبهه بمن يحب كانت الصلة عنده بينهما اللألاء والاستدارة. وإنساناً يرى في البدر حيالة فتنة الحي الرائعة ومشابهة وسهومه وخيالاته وحيرته وسأمه وخفوقه وله عواطفه ونوادره الطريقة إقبالاً وإدباراً ونشاطاً وفتوراً.
أفلا يكون من له هذه المقدرة على توليد الصور والمعاني أفطن لحقيقة الجمال الواسعة وأقدر على التهامها وتذوقها وعلى تركيزها وإذابتها؟
وبعد فهل يسعنا أن نتصور في الحياة جمالاً غير مسؤوم؟ أو جمالاً لا تصرفنا عنه صوارف الفهم والاكتفاء وإدمان التذوق والمصاحبة الطويلة؟
إن تأثير نوازل الشقاء الطارئة أعمق أثراً في النفس من مسرتها بالجمال فأية نازلة في الدنيا لا تخلل معناها السلوى ولا يذهب بفجيعتها الاعتياد والألف.
فذاك حيث زعمت أن إدمان النظرة إلى صورة جميلة يفقدها شيئاً من تأثيرها كلما تجدد إليها النظر المشغوف وارتوى منها الحس المفهوم. وذاك حيث زعمت أن لبعض الأذواق قوة النار واستشراءها ما يستقيم الجمال في لهيبها الجاحم إلا قليلاً.
وذلك حيث يكون الذوق العامل على تحليل معاني الجمال واستساغتها، ذوقاً سؤوماً متحولاً لا ينتهي عنده عمر لصوره الجميلة بانتهاء عمر معانيها فيه.
وهذا كلام يصدق على عشاق الشعر وهواة الفنون، صدقه على عشاق الجمال ومعانيه، وطلاب غرائبه وطرائفه، ورواد مجاهله وأوعاره.
ولقد قرأنا كما قرأ غيرنا أرق صور الشعر، وأجمل معانيه وروائعه، فما زال الإدمان ينتهي بها إلى الإصغاء حتى أصبح عندنا أشبه بالكلام المردد على الألسنة.
والحجر المنحوت بالصنعة المركب في نحو عمود أو عتبة يفقد روعة معناه مع إدمان النظرة فينقلب صورة فاتنة الأداء والجمال مجهود الناحت دليل مقدرته ولكن يبقى في الشعر الجميل بعد انقضاء الإعجاب به أثر قائله وأثر جهده الفني، ولذلك بقي بعض الشعر ببقاء أسماء قائليه واندثر بعضه باندثار أسمائهم.
وقد يلقانا الجميل أول ما نلقاه بحشد من معانيه الفاتنة ليست هي أداءه عن نفسه ولكن أداءنا عنه وعن موقعه من نفوسنا وأفكارنا فما نفتأ ندور بهذه المعاني مطابقة وقياساً ومداً وجذراً وإطلاقاً وتقييداً حتى نشعر بنشوة امتلاكه واحتوائه فإذا الاكتفاء أو التجدد المنتهي إلى انقضاء التأثير فيستحيل شعور بالصورة الفاتنة إلى ما يشبه شعور العاشق بعد إفاقته من غيبوبته واستغراقه.
وقد قلنا الجمال والصورة الجميلة ولسنا نعني المثل الأعلى للجمال حتى يشعر صديقنا الأستاذ بهول الفجيعة في ما نقول على أننا نظن أن النفس متى ألقت ملامح مثلها الأعلى انصرف بها سأمها أو اكتفاؤها إلى مثل غيره فيتصور له الزيادة وتفرض الأرباء، وإن عجزت عن استحضار الصور وتحديدها.
والخلود الموجود أليس هو مثل الحياة الأعلى؟ فقد جاء في تصويره والحكاية عند ذكر السأم واللغوب ونفيهما، فهل نفيهما إلا لأنهما من طبائع النفس الإنسانية وخصائصها، وإلا لأن ورودهما عن النفس في غمرة الخلود ممكن لا مفروض؟ والجميل ذاته لا يروعه أن يكون لجماله لغة يفهم منها الناس ويحسون ما لا يفهم ويحس ألا تراه خطأ أن يظن ظان به الترف والنعمة والثراء العريض، حيث لا يرى هو في نفسه، إلا دون ما يراه موفوراً في الناس أو مثله؟ لذلك كان الحب الفصيح الملذوع جمالاً يؤثر الجميل ويدنيه، فهو لغة قوته في ضعفه، ومعنى اختياره في اضطراره. والجميل يعرف بحاسة الجمال فيه ولا يدهن صديقنا الأستاذ أن تكون للجمال حساسية أم يصطلح عليها الناس بعد ارتواء العطشان اللاظي لا يبقى للماء إلا معنى أنه ماء وقد كان في حرقة الحاجة شيئاً ألوف المعاني تخطر خطراتها الهزاز في النفس والحس وإطواء الفكر وأن الماء في ذاته الماء لا غير، ولكنه في الظامىء أو عنده، المطلب الذي تتجمع فيه معاني الحياة، وأسرارها؟ وحاسة الجمال تعرف بعض من خطرات معانيه في النفوس أنه حقيقة الحب فإذا ظهر لم تكن حقيقته في ذاته إلا حقيقة الفكرة عنه ولم يكن عمره إلا عمرها الآخذ في الإدبار كمعاني الماء في نفس الظامىء، تعيش بعيش الظمأ وتزول أو تختفي بانقضائه.. والماء بعد لم يتحول.
ومن هنا يعرف الأستاذ أني لا أوجب تحول الصورة الجميلة، ولا أرى أن تفقد حقيقة جمالها الظاهرة، ليتم الاصطفاء والفقدان الذاتي الذي راعه أن يكون نتيجة الوفاء للجمال أو فهمه.
وصديقنا الأستاذ يحب الحياة -كما أسلفت- ويحرص على محصوله الفاتن من صور الجمال فيها، فلا يجب أن يفجعه التجريد في ذخيرته منها، ولكن الوفاء الذي تعرفه الحياة لا يصرف الإطلاق الذي تعرفه طبيعة الشاعر العاشق وتألفه ولا يصرف أباطيل الخيال المتدفق وروغاته فما ألوم الأستاذ عن رؤيته يلتمس الدليل على اختلاف نظرتي بشيء من الشعر الجميل يضطرب، المقياس في يدي فما زالت النفس التي تشعر بوفائها للجمال المحبوب، ترى الوفاء ضرورة يتسع بها مدى الشعور بالكرامة والصدق.. ونقول آسفين -إن الحياة لا تكون الحياة إلا بتردد هنة الفجيعة فيها. وقد قال المتنبي الذي استعداه الأستاذ على نظريتي في الدنيا.
ولا خير فيها للشجاعة والندى
وطيب المنى لولا لقاء شعوب
وقال ابن الرومي:
إن من ساءه الزمان بشيء
لخليق إذن بأن يتسلى
ونقول نحن:
ومعاني الحياة تفجع في الحسن
وفي الحب، والمنى والوفاء
نود أن نسأل الأستاذ الآن عن معنى الجمال في الأبيات التي ساقها للتدليل على زيف نظرتنا ما شارته؟ أهي دقة الحقيقة الفلسفية وصدقها؟ أم جمال الصياغة؟ أم من الشاعر قوة تأليفه؟ أم شيء يعرفه ولا نسميه؟
أما نحن فنعرف أن الجمال غير الحقيقة وغير الإتقان، وغير التآلف ولا نرى في أبيات المتنبي من حيث الصياغة الفنية جمالاً يغري بإدمان النظرة ولا من حيث المعنى إلا صحة الحكم.
ولا نرى في بيت شوقي إلا إطلاق الخيال والإحالة وما فيه بعد هذا ما يأخذنا بشعور المفاجأة أو حلاوة المسرة ولعل بيتنا -على بساطة تركيبه وضعف السياق فيه- أضمن لتوكيد هذه المسرة بالجمال والحب، وأحفل بالرموز وأغنى بالمفاجآت وأدق، أداء وتصوير الحقيقة من حقائق النفس في الحياة أو للحياة في النفس.
والحقائق في أبيات المتنبي لا تتغير على الزمان.. فروعتها روعة للصحة والثبات ومسايرة واقع الحياة ومطابقة سيرها فما فيها بعد أن تغدو مفهومة المعنى ما يشيع المسرة في النفس أو ما يشعرها بتغير الصور وتعاقبها.
وقد قال المتنبي:
لو فكر العاشق في منتهى
حسن الذي يسبيه لم يسبه
وما زال كل عاشق يتصور منتهى حسن الذي يسبيه، ويرى نهايته المحتومة ولكن هذه النهاية المتخيلة لا تصرفه عن الحب والانقياد، بل لعلها خليقة بأن تزيده حرصاً على مسابقة الزمن وحماسة الولع ورغبة التزود.
فالحكمة الصادقة لا تنتصر على منطق العاشق، ولا تنال من سلطة الجمال وحقيقته وإن كانت سلطة الجمال أو حقيقته قصيرة العمر ورهن التحول.
فإن كانت حقائق الفلسفة الصادقة في الشعر الرقيق أو الشعر القوي جمالاً فأي الجمالين أجلب للمسرة وأضمن للنصر وأبقى أثراً في النفس، وأقوى سلطاناً عليها؟!
أترانا الآن بحاجة إلى غشيان كهوف الشعور وسراديب النفس ويسألني الأستاذ في لوعة المفجوع المنكر.. عن كلمات العدالة والحرية والحب والجمال ما لها تفعل فعل السحر في العقول؟ وما لها لم تصب بالإصفاء والإفلاس؟
وأنا لم أتحدث عن هذه الكلمات حتى تكون على تبعة جمودها واستعصائها ومغالبتها للفناء والإصفاء، فما أراها جزءاً من الجمال الذي قلت فيه كلمتي المقلقة!..
إنما نتحدث عن الصورة الجميلة تأخذ فيها النفس الذواقة بحظها من المتعة كاملاً فتكتفي أو تتحول، فإن لم يكن ما قلته حقاً نرى موضعه المكين الواضح في النفس والحياة فليكن الزمن لحظة جامدة تقف فيها دورة الفلك المغذى عن السير ولتكن الصورة الجميلة بعد رسماً جامداً لا يعدو حدود إطاره القاهرة، حتى يأمن من مزاج صديقي الناقد، الفجيعة في حقيقة شعوره بالجمال والنفس!
ويقول الأستاذ الصديق "والجديد جدة مطلقة لا يلحظه الإنسان إنما يلاحظ ما يعرفه بعض المعرفة" وساق تجربة استدل بها على صحة نظرته ثلاثة من عمال مطبعة نشر بينهم كتاباً جميلاً ليرى أثر (هذه الصورة الجميلة) في نفوسهم.
أما عامل الصف فقد أخذ بإتقان صف الحروف و (جمالها!) ولم يتحدث عن الطبع والتجليد، ومثله فعل عاملا التجليد والطبع.
وإني أعترف في شجاعة لصديقي الناقد، بأن هذا المثل قد أدار رأسي حقاً فإن أبى إلا أن أتناول بالمناقشة كلامه هذا، فليحدثني أولاً عن فرق ما بين الاتفاق والجمال عنده فقد بدأت أشعر بأني خولطت وتداخلت في فكري حدود الأشياء. فالجمال عندي غير الإتقان ودقة الصف والتناسب وأظنه هكذا عند غيره من أبناء آدم وما بي أن يكون غيره، ولكن بي أني لم أرد أن أتحدث عن شيء آخر في حديثي عن صور الجمال أو الصور الجميلة الإنسانية أو الصورة التي ينفخ فيها خيال الإنسان من حياته ويسبغ عليها من معانيه وما يجعلها وثيقة الاتصال به. أما الكتاب المطبوع؟...
وهنا يحسن أن أقف رحمة بي وبالقراء وأن أسجل تقديري العميق لصديقي الذي أنسب إليه ما في كلامي من حسن أو قبيح لأنه مثيره وباعثه.. وإلى اللقاء إن أتاحته الفرصة، وأسعف به الجهد المضعوف، والذهن المكدود...
 
طباعة

تعليق

 القراءات :876  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 37 من 71
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.