((كلمة سعادة الشيخ عبد المقصود محمد سعيد خوجه))
|
ألقاها نيابة عنه معالي الأستاذ الدكتور رضا محمد سعيد عبيد |
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: |
بكثير من السعادة ألتقيكم عبر الكلمة، إذ يحول استمرار وجودي في رحلة علاجية خارج المملكة دون تشرفي باقتعاد مقعدي بينكم، الأمر الذي يؤكد من ناحية أخرى أن استمرار اثنينيتكم في إطار المؤسّساتية يسير بوتيرة طيبة، وينبئ بتقدم أتمنى أن يكلل بالتوفيق والسداد. |
سعداء جميعاً أن نلتف الليلة حول ضيفنا الكبير معالي الأستاذ الدكتور عصام الدين أحمد البشير، المفكر المعروف ووزير الإرشاد والأوقاف السابق في جمهورية السودان الشقيقة.. وصاحب النشاطات الثقافية والفكرية المميزة التي أصبحت رقماً مهماً في خريطة العطاء الإسلامي. |
إن نشأة ضيفنا الكريم تشير إلى تأثير البيئة في تكوين وتوجهات من يمتحون عذب نميرها.. فقد شب معاليه في أواسط السودان في مدينة تزاوج بين وداعة القرية وروح المدينة المتعطشة للنمو الاقتصادي والصناعي المرتكز على معطيات البيئة الزراعية التي تحيط بها من كل مكان.. ملأ رئتيه بعبق المطر الذي يختلط بذرات الرمال.. ثم انطلق في دروب العلم بروح وثابة، وعقل متفتح، وذكاء فطري تدعمه حافظة قوية، وحاسة خيرة قادته نحو مرافئ الجمال أينما كان، وكل ذلك مدعوم ببيئة علمية ترتكز على الكتاتيب التي خرج منها رجال أفذاذ في مختلف ضروب العلم والتجارة والقيادة والريادة.. إلى أن صقل موهبته ومداركه بما أتيح له من تعليم نظامي.. ثم تفوق دائماً على نفسه وأبى إلا أن يقرأ الكتب الواحد تلو الآخر، حتى أصبح الكتاب رفيقه ونديمه في حله وترحاله، نهل منه ما شاء الله له أن يستوعب بنور البصيرة.. كما نشط في الاحتكاك بمختلف الثقافات العربية والأفريقية والأوروبية والآسيوية.. فجعل منها بوتقة صهرت مكوناته الثقافية والفكرية.. واستطاع أن يشكل منها أسلوبه الخاص في التحليل والدرس والاستنباط، عارضاً كل ما يتوصل إليه على خلفيته الثرية في الكتاب والسنة المطهرة، تأصيلاً لما يموج في نفسه من علم وفضل. |
وأحسب أن تفكيره المنظم قد هداه إلى عدة مفاصل في التيارات الإسلامية المختلفة، بدءاً بما أطلق عليه "الصحوة" ومروراً بجناحين شكّلا قطبين متناظرين أحدهما متشدد يأخذ بكل ما من شأنه تأطير الفكر في قوالب جامدة، والآخر متسيب في دهاليز اللامبالاة وعدم إدراك ما يحيط بالأمة من مخاطر ومحن وفتن.. وبين الجناحين خليط من الأفكار المتصارعة والمشوشة.. إلى أن طغى الفكر الضال بكل أسف على المشهد الاجتماعي والثقافي بدرجة كبيرة خلال العقدين الماضيين، ثم تطاول على ثوابت الأمة وبدا مشهداً مأساوياً من الفوضى ونشر الفتن والضغائن بين أفراد المجتمع، بل والأسرة الواحدة، وطال ذلك العديد من مؤسسات المجتمع المدني.. الأمر الذي دعا المهتمين إلى استنهاض الهمم والعمل بجهد يسابق الزمن للجم هذه الفوضى العارمة، ووقف حمامات الدم التي بدأت تطل هنا وهناك بحماية وجرأة ترتكز على الفتوى التي يدلي بها بعض طلبة العلم وأنصاف المتعلمين.. فتجد آذاناً مصغية وسط مجموعة من الشباب المغرر بهم، والذين يعيشون فراغاً فكرياً عريضاً أودى بهم في النهاية إلى الوقوع بين براثن من استغلوهم لتحقيق أجندة خاصة وأعينهم على كراسي السلطة قبل كل شيء. |
من بين هذا الضجيج ظهرت مجموعة من العلماء الأجلاّء، من بينهم ضيفنا الكريم ولا أزكيهم على الله، هدفهم الخروج من وهدة الإرهاب والتضليل والتكفير، إلى مرافئ النور الذي جاء به الإسلام النقي، وبشر به الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ثم تناوله علماء السلف الصالح شرحاً وتوضيحاً وبعداً عن التلبيس والتدليس.. فكان منهجهم الوسطية، وكبح جماح العنف وإراقة الدماء وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.. ووضع الضوابط التي تفرق بين الجهاد وفوضى التفجيرات اللامسؤولة، وكم أعجبني ما أشار إليه الدكتور محمد عمارة بخصوص الوسطية التي قال عنها: (الوسطية الإسلامية تعني ضرورة وضوح الرؤية باعتبار ذلك خصيصة مهمة من خصائص الأمة الإسلامية والفكر الإسلامي، بل هي منظار للرؤية وبدونها لا يمكن أن نبصر حقيقة الإسلام.. فقه وسطي يجمع بين الشرعية الثابتة والواقع المتحول.. ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالى جعل وسطيتنا جعلاً إلهياً جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً (البقرة: 143) أ. هـ. مجلة المنهل عدد 608 شوال 1428هـ/أكتوبر 2007م. |
هذه المدرسة التي فرضت نفسها على الواقع السياسي والاجتماعي في كثير من الدول الإسلامية، استمدت قوتها من أصول الإسلام وطبيعة تكوين المجتمعات التي يقوم أغلبها على تمازج ديني وعرقي وثقافي يكرس للأقليات-مهما كانت- جوهر مقوماتها التي تحفظ كيانها من الذوبان، ومن ناحية أخرى تثري التنوع الذي يصب في النهاية في حقل العطاء الإبداعي للأمة، ونظرة عجلى في تاريخ الحضارة الإسلامية تشير بوضوح إلى ما تمتعت به الشعوب المختلفة التي دخلت في دين الله أفواجاً دون خوف على تركيبتها الاجتماعية وخلفياتها الثقافية، ثم امتزجت بمرور الزمن في هيكل الدولة الموحد، ونتج عن ذلك التزاوج أرقى الحضارات التي سادت العالم وقدمت للبشرية أوليات لا ينكرها أحد.. وللتذكير فقط أشير إلى بعضها: |
- ابن النفيس أول من اكتشف الدورة الدموية. |
- ابن سينا المعلم الأول والطبيب الفيلسوف. |
- أبو الوليد محمد ابن رشد الذي له مصنفات غير مسبوقة في الطب والفلسفة. |
- ابن خلدون (مؤسس علم الاجتماع). |
- ابن الهيثم (أول من ألف في البصريات وشرَّح العين وأشار إلى الكاميرا). |
- عباس بن فرناس (أول من حاول الطيران وصنع السيلكا). |
- أبو بكر الرازي أول من أدخل المواد الكيميائية في الصيدلة وتحدث عن الأصل النفسي للروماتيزم. |
- الإدريسي أول من أنشأ خريطة كروية للعالم وصنف النباتات في سبع لغات. |
- جابر بن حيان أول من استحضر حمض الكبريتيك واكتشف الصودا. |
- محمد البيروني أول من وضع معادلة الوزن النوعي ومحيط الأرض وخطوط الطول والعرض. |
- أول من أدخل رقم (الصفر) في الحساب هو العالم المسلم "محمد بن موسى الخوارزمي". |
- خلف الزهراوي طبيب أندلسي ألف "التصريف لمن عجز عن التأليف" كان يدرس في جامعات أوروبا ومنها جامعة مونبلييه في فرنسا، حتى القرن الخامس عشر الميلادي، وابتكر الأدوات الجراحية الحديثة. |
إن هامات الرجال عندما ترتفع عن الصغائر، فإنها حتماً ترسم آفاقاً من الرؤى تقود الأمة نحو مدارك الحق والخير والعدل والجمال.. وهكذا نجد ضيفنا الكريم مع غيره من علمائنا الأفاضل يضحون بالغالي والنفيس من أجل غد ينشد التحول المنطقي نحو الأفضل، ويضع الأمور في نصابها ويشحذ همم الشباب لينهلوا من ماضيهم العريق، ويبصروا حولهم ما صارت إليه أمم الأرض شرقاً وغرباً.. ويزنوا أنفسهم ويضعوها في مسارها الذي ينبغي أن تضبط عليه إيقاع حياتها عملاً منتجاً، ورخاء يعود بالخير على الحاضر والمستقبل بإذن الله. |
لقد أشرت آنفاً إلى موهبة ضيفنا الكبير وما يمتاز به من حافظة قوية، سخرها لخدمة مشروعه الفكري الذي نتمنى له كل التوفيق والسداد، فحشد من الشواهد القرآنية، والأحاديث الشريفة، ورصين الشعر والأدب ما يؤهله ليفرد أمسيات خاصة فيمتع الحضور بالثراء المعرفي الأدبي، وتدفقه السلس في أحاديث تشنف الآذان وترتفع بالوجدان إلى ألق الثريا، ونمارق المتعة الذهنية الخالصة. |
إن ضيفنا الكريم أنموذج للعالم الموسوعي الذي أرجو أن يطلق العنان لأفكاره ومخزونه الثقافي، والأدبي، والشعري، وروائع ما يحتشد لديه من ذكريات تشكل إضافة نسعد بها هذه الأمسية إن شاء الله. |
وهكذا أيها السيدات والسادة، تمضي الأيام سريعة لتطوي بهذه الليلة الشطر الأول من نشاطنا هذا الموسم، وعلى أمل أن نلتقي بعد عطلة الحج وعيد الأضحى المبارك، لنحتفي جميعاً بمركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الذي يقف على قمة هرمه صاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل، كفاء ما قدم ويقدم من أعمال جليلة لهذا الوطن المعطاء. |
وقبل أن ينقل لاقط الصوت إلى معالي الأخ الأستاذ الدكتور رضا عبيد، مدير جامعة الملك عبد العزيز الأسبق، وعضو مجلس الشورى السابق، ليرعى هذه الأمسية كرماً وفضلاً.. يطيب لي أن أغتنم هذه الفرصة لأهنئكم بعيد الأضحى المبارك، سائلاً المولى عز وجل أن يعيده عليكم مع من تحبون بالصحة والعافية، وعلى الأمة الإسلامية بالنصر والتمكين. |
|