شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
كلمة الأستاذ ياسين رفاعية
أشكر معالي السفير على هذا الحديث الجميل الذي وضعني في موقع حساس كما أشكر الدكتور الصبيحي الذي جعل من هذا المركز جهة إعلامية حضارية مثل ما جعلها سعادة السفير جهة حضارية ثقافية وأشكركم. وإنما قصص عشتها، وكان شاهداً على بعضها زميلي الأستاذ عبد الله الشيتي. ثم وجه كلامه للأستاذ الشيتي قائلاً: ((أستاذ وأنا مش زميلك رفيق الصغر والشباب)) ثم قال: القصص التي سأرويها هنا هي قصص حب، حب سري وحب علني عاشها شعراء، معظمهم أو جميعهم أصبحوا في ذاكرة التاريخ باستثناء شاعرنا الكبير نزار قباني الذي تعاهد قديراً حول قصصه وعلاقته الشعرية بالمرأة لذلك فإن هذه القصص التي سأرويها أصبحت ملكاً للتاريخ ليست مقالة وليست كشف عورات إنما هي قصص حقيقية عاشها الشعراء. هناك حديث شريف ((إن الله جميل يحب الجمال)) إنه ودود والود من أسماء الحب والحب عاطفة شخصية أكثر مما هي عاطفة غربية نسبة إلى الغرب إنه حديثنا اليومي في الأماسي والشعر والإذاعة إلى آخره. سأل أعرابي أعرابياً آخر التقى به مصادفة من أين أنت؟ فرد عليه: أنا من قوم إذا عشقوا ماتوا. فقال السائل: أنت من بني عذرى ورب الكعبة. وليس وحدهم بني عذرى إذا عشقوا ماتوا بل كل أعرابي وفي أي وقت. قبل أشهر عقد في برلين مؤتمر بعنوان (الحب والشرق) وكل ما قيل فيه إن الحب عاطفة شخصية تنتقل في كل نفس عربي وشرقي بينما انطفأت شعلته في الغرب تماماً وتحول الغرب إلى مجتمع مادي. وأصبح الحب فيه موجة من الماضي. فقد أجريت بحوث في هذا المؤتمر منها بحث للدكتورة سعاد الحكيم حيث تقول (ارتفعت عن أعين الكائنات براقع سترتي وارتفعت عن عيون قلوبي حجب وأخباري) فوقعت العين على العين فطاش من طاش وغاب من غاب وذهب من ذهب ولم يعد.
في هذه الليلة سأقص عليكم حكاية من طاش ومن غاب ومن ذهب ولم يعد. في الماضي، قرأنا لسلطان العاشقين ابن طارق المتوفى سنة 632هـ قوله: إن شئت أن تحيا سعيداً فموت فيه شهيد وإلا فالغرام له أهل. والقسطلاني المتوفى قبل ابن طارق بأربع سنوات قال:
شربت الحب كأساً بعد كأس
فما ذهب الشراب وما روته
أما الشاعر المصري فيقول:
أموت وما ماتت إليه سرارتي
ولا رويت من صدق حبك أوطان
يوسف أبو سعيد المتوفى سنة 279هـ إلى العشاق يقول:
وأجسامهم في الأرض قتلى بحبهم
وأرواحهم في الحب نحو العلى تسري
أما شاعرنا العربي الكبير غازي عبد الرحمن القصيبي فيقول:
خير شعر ما قيل والقلب طفل
خير حب ما مات وهو جميل
لأن الحب إذا شب على التو أصبح أقرب إلى الجنون.
فإذا نظرنا إلى الشعر العربي في جميع مراحله وجدنا الحب والعشق سمة هذا الشعر مع جوانب من الرثاء والهجاء والحكمة. فالحب عصب الشعر العربي. والشاعر مهما تقدم به العمر فإنه يبحث عن الحب في ضلفيه، كما يقولون، يسعى إليه بشتى الوسائل حتى ولو أدى به إلى التهلكة. ولا أريد أن أرجع بكم إلى الوراء ففي حياتنا المعاصرة من المآسي التي عاشها شعراء معاصرون ما يجعل الدموع تنهمر في المآسي ـ فالمآسي سببها العشق والحب وهنا الفرق كبير بين الحب والعشق. فالحب هو التعاطف بين اثنين يستمر زمن ربما بضعة أشهر ثم يبرد كما يبرز الحديد المحمى تحت مطرقة الحداد. أما العشق فهو الوله الشديد الذي يوصل العاشق إلى الجنون، ففي أقل الأحوال إلى الخطر. فعند الشعراء يكون الحب أشد مغبة ومعاناة وليشكو عنده أحياناً جنوناً، لكنه جنون محبب وخروج من الحدود. وقصص التاريخ ملأى بمثل هذا الشعر العظيم خصوصاً في التراث العربي. في حديث الحنين هنا لا أريد أن أكشف أسراراً بقدر ما أريد أن أروي قصصاً عايشتها عن قرب بسبب علاقتي الشخصية مع هؤلاء الشعراء. فقد أعلنت بعض وسائل الإعلام مؤخراً عن قصة حب سرية عاشها الشاعر الراحل عمر أبو ريشة، وانتهت إلى زواج سري ظل مخبوءًا أحد عشر عاماً. وأنا شخصياً كنت أعرف هذه القصة منذ بدايتها. الحبيبة السرية هذه اسمها سعاد الفردي مسيحية من لبنان تعرفت إلى الشاعر في عام 1977 في رومانيا. هي تقربت إليه وهو منعها من ذلك. لكن الأنثى الجميلة عندما تقرر الصولة على رجل فإنها تتبنى كل الوسائل لإغراء رجولته، عكس الرجل تماماً، إذ لعبت الأقدار لعبتها المعروفة في تركيب المصادفات فإذا بهذه السيدة صديقة لآل قبيع وهم عوائل درزية كانوا في الوقت نفسه جيران العمر في منطقة البريستول في بيروت وتكررت اللقاءات إلى أن اعترفا بعشقهما العاصف وكان له أن يتخذ قراراً بالزواج، تم هذا في نيوجرسي في الولايات المتحدة وبعد أن أشهرت العاشقة إسلامها. ثم ثبت زواجهما في المحكمة الشرعية في دمشق وبيروت لكن كل هذا كان أمراً لم يعرفه إلا قليل من المقربين إلى العاشقة.
أذكر حادثة عجيبة تذكرتها، فقد كنت مراسلاً في مجلة الدستور في بيروت أثناء الحرب الأهلية بالمدينة. وفي أثناء الغزو الإسرائيلي وحصار بيروت هتف بي الأستاذ حكيم الشمع رئيس تحرير مجلة الدستور آنذاك وطلب مني إجراء مقابلة عاجلة مع الزعيم الفلسطيني صلاح خلف وكان عليّ ترتيب اللقاء بأسرع ما يمكن. فاتصلت وأجريت بعض الاتصالات إلى أن تم الاستشعار وحضر إلى بيت الشهيد الذي كان أميناً عاماً لاتحاد العرب الشاعر الفلسطيني بشار ميشور ومعه مجموعة من المسلحين لحمايته. وقالوا لي: الآن سنذهب إلى صلاح خلف لإجراء المقابلة وكانت بيروت تقصف من البر والبحر والجو بمختلف أنواع الأسلحة والقذائف والصواريخ. ولكن كان علي أن أنفذ أمر رئيس التحرير وأجري المقابلة. وفي طريقنا إلى منطقة اسمها الطريق الجديدة، عبرنا شارعاً يطل عليه فندق ما، فإذا بعمر أبو ريشة يستغيث من الشباك وهو يخرج يديه. الشوارع كانت صامتة، لا أحد يخاطر بحياته في مثل تلك اللحظة واستغربت، وقلت: لا بد أن في الأمر خطراً. فطلبت من السائق التوقف. قال: لا لا أستطيع. قلت: يا أخي أرجوك أريد التوقف لأرى ماذا حدث للرجل فقال: لا أستطيع عليّ التواصل قلت: إذا لم تتوقف سأضطر إلى النزول. طلبت منه العودة إلى الشاعر والشاعر عندما رأى أن المسلحين يقتربون منه خاف وابتعد وظهرت عليه علامات الخوف لكن ما إن لمحني حتى اطمأن قليلاً وقال: ياسين! ماذا تفعل هنا؟ قلت: أنت ماذا تفعل؟ قال أرجوك إني أبحث عن تكسي. قلت: أي تكسي؟ ومن سيأخذك؟ قال: أرجوك إن استطعت أن تأخذني إلى منطقة اسمها فلش أبو حيرة. فقلت له: ماذا هناك؟ لا أستطيع الكلام. فطلبنا منه الصعود فهو لا يعرف أسماء الشوارع فبدأ يلف بنا إلى أن قال أحد المسلحين يا أخ ياسين ما بيصير. وبالفعل استمر الوقت إلى أن استطعنا الوصول إلى البيت الذي يريده، فقبلني وتركناه هناك وسألت عمر بعد يومين: ما بك؟ كيف تضحي بنفسك من أجل إنقاذها فقال لي: الحمد لله من أجل الحبيبة يهون كل شيء. والسيدة سعاد هذه هي التي أعلنت أنها زوجة الشاعر بنشر قصة حبهما في كتاب.
بعضهم عرف قصة هذا العشق الجميل من خلال مقابلة أجريتها مع السيدة سعاد ولم تورد فيها أي تفاصيل كثيرة. ولكن الكثير من عشاق الشاعر عمر لا يعرفون أن عمر عشق في أوائل الستينات الكاتبة السورية كوليت خوري التي كانت قد خرجت من قصة حب مدمرة ومحبطة كانت من نتائجها الرواية (أيام معه) وزياد بطل هذه الرواية هو الشاعر نزار قباني وهذه القصة أصبحت معروفة ولما كانت مقولة (لا يفل الحديد إلا الحديد) صحيحة فقد اتجهت (كوليت) إلى حب شاعر كبير ينجيها من حب شاعر آخر وصلت ضمن هواها إلى طريق مسدود فقد كتب عمر حبه لكوليت وكتب فيها شعراً مثل ما كتب فيها نزار. وهي قالت لي في آخر لقاء معها في دمشق في أيلول الماضي أنها تكتب حالياً مذكراتها وستنشر في هذه المذكرات الشعر الذي قيل فيها ليس من نزار وعمر فحسب بل من شعراء آخرين لكنها كانت تعتبرهم أصدقاء لها. والشاعر بدوي الجبل هو الآخر قد عاش قصة حب في جزء كبير من حياته، ومع ذلك لم يقل فيه إلا قليلاً من الشعر لأن البدوي كان مشغولاً في معركة الاستقلال وكانت لديه طموحات سياسية إلا أن حبه للشاعرة عزيزة هارون أصبح معروفاً في الخمسينات والستينات. كانت عزيزة هارون جميلة وشاعرة وعمرها في الثلاثين وهو في الخمسين وراح يكتب فيها شعراً وكانت تتدلل عليه مشيرة إلى فارقة العمر حتى قال قصيدته الشهيرة التي أذكر بعض أبيات منها :
يا من سقانا كؤوس الهجر مترعة
بكى بساط الهوى لما طغى
على أن بدوي الجبل في بداية شعره في بداية شبابه عشق فتاة لبنانية اسمها مادلين سمعان في هذه الرسالة المحببة كتبها إلى صديقه الشاعر الراحل صلاح أبا ديب الذي كان رساماً للمحامية اللامعة وكان الشاعران يصطافان عادة في زحلة عندما التقى البدوي بأول امرأة حبها ولم تحبه لصفاته.
وأما مادلين سمعان فكانت جميلة جداً إضافة إلى كونها لها علاقة بالأدب. ولكنها كانت ترفضه رفضاً فظاً قائلة: إنه رجل هزيل وغير جميل. ولم تكن تلك الفتاة تدرك أن عاشقها هذا سيصبح من أكبر الشعراء العرب في العصر. هذه الرسالة اسمحوا لي أن أرويها أستاذتي: الغالية لقد بدأت أحب زحل بردونها وأطرح في خمائلها الملفتة ذات الجمال الأسمى. زرت بالأمس اللبنانية المعروفة مادلين سمعان فاستقبلتني في غرفة النوم وهكذا تسنى لي أن أجلس ساعتين في سريرها كانتا من أجمل ساعات الدهر كانت النافذة مفتوحة وكان النسيم عليلاً بجانب شعرها المتموج والفتاة في أكبر درجات الجمال ومزيتها الكبرى أنها في الثامنة عشرة من عمرها الله من عينيها دابلتين فيهما كثير من أسرار اللانهاية العميقة وابتسامتها وحق قائل في وادي شفتيها الحمراء على ثناياها البيض المنسوقة مظهر من مظاهر الجمال الإلهي الأعلى يفتن ويسحر وهناك معصمين ليتك رأيتهما والنسيم الهادئ والغطاء الرقيق الملقى عليها فيرفعه عنهما ويظهران حتى الكتف لأعلى المنكبين لا أستطيع إذن هذا جزء صغير وصغير جداً من محاسنها الساحرة الفتّانة، لا أدري إذا كنت بدأت أحبها ولكن الذي أدريه تماماً أنني ظللت أفكر بها طيلة الليل وأنني كنت أراها بعين خيالي ماثلة أمامي دوماً. وها أنا الآن وأنا أقص إليك تلك السطور أشعر كأن أنفاسها العذبة تواجه أنفاسي وأن شعرها المتموج يتدلى على وجهي خصلاً خصلاً فإذا كان هذا الحب يهتف لها فأنا أحبها وأحبها وأحبها.
وقد اعترى قلب هذا الهوى العذري شاعر آخر يكاد يكون الآن بعيداً عن الذاكرة الشعرية هو الشاعر السوري الراحل عبد الباسط الصوفي الذي نشر شعره بعد انتحاره في الكومتري في ثلاثة مجلدات (مجموعة إعصار). وهو من مدينة حمص في سوريا. كان شاعراً موهوباً منذ صغره ولم يتجاوز الثلاثين عندما وضع حبلاً حول عنقه لإنهاء حياته. جاءت دراسات من بعده تفسر انتحاره تفاسير مختلفة تشبه التفاسير التي قيلت بعد ذلك بعشرين سنة عن انتحار الشاعر اللبناني خليل حاوي لكن الحقيقة عند الشاعرين هي المرأة فالحب والفشل والإحباط فحبيبة عبد الباسط الصوفي كانت متحللة العواطف مزاجية الطبع فاعتزت بنفسها إلى حد الغرور. وكنت قد تعرفت على هذا الشاعر في الخمسينات عندما تخرج في الجامعة السورية وتقدم عن العشرات بالفوز بوظيفة مذيع في الإذاعة السورية. وقد تم اختياره مع الشاعر السوري يوسف خطيب كمذيعين من واحد وثلاثين رجلاً تقدموا لهذه الوظيفة فتوثقت علاقتي به إلى درجة أنه كان يروي لي معاناته مع هذه الحبيبة المتقلبة. عبد الباسط كان مسلماً وحبيبته كانت مسيحية من الطائفة القسطنطينية. وأذكر أن اسمها (سهى) وكانت تقيم في مدينة حمص لقد تعرض كل منهما لضغط مشترك من الأسرتين فلا أسرتها موافقة عليه ولا أسرته موافقة عليها. كما أنها هي نفسها كانت تهدده جداً حول قضية حبهما وعدم اتخاذها أي خطوة جريئة متضامنة معه كما روى فيما بعد صديقنا المشترك الشاعر ممدوح الستار. وكان لهذا كله أثره العميق المؤلم في نفس عبد الباسط ودفعه إلى الرحيل بعيداً لعلّه ينسى هذا الحب الحقير وأحس أن لا جدوى من هذا الحب. فبدأ يفكر في السفر خصوصاً عندما عرضت عليه وظيفة أستاذ اللغة العربية وعتقد أنه بهذا الباب سيثير خيالها برسائله لها وبقصائده كما أنه سيجمع مالاً قد يغريها أكثر خصوصاً عندما تمنت عليه ذات يوم أن تهرب معه من مدينة حمص التي كان يسميها مدينة الضريح الكبير. فقد كان في رسائله إلى بعض أصدقائه ينعى لهم هذه المدينة ويصورها بأسوأ الصور إنها مدينة تنعي كل شيء فيها. كان وضعهما الاجتماعي معاً مربكاً في خصوصيته ونعوميته المتشددة لكليهما ولا ذنب لهما فيه ولا علاقة اختلافهما في الدين وقال فيها لوحات شعرية كانت تدل على موهبة عظيمة.
وبعد سفره كتب رسالة يقول فيها: قد تدهشين حقاً حين تعلمين أن ذلك الإنسان الذي جلس أمامك ذات يوم كان طفلاً صغيراً لا يعرف حتى أن يتكلم بوضوح عن نفسه ذلك الإنسان الضائع الممزق الذي لا يستطيع أن ينتهي إلى قرار حاسم بل لا يستطيع أن يسيطر على ذمام نفسه كيف يجلس الآن في رحم منعزل وهو يشعر أنه خرج سليماً من تجربته القاسية التي امتحن فيها رجولته.
انتحر عبد الباسط وأنقذ مرة وأخرى، أما في المرة الثالثة فقد سبق السيف العذل ولم يتم إنقاذه لأنه ألقى بنفسه من الطابق الخامس في المستشفى الذي كانوا يعالجونه فيه من انتحارين. ثلاث محاولات في أربع وعشرين ساعة فرحل الشاعر وتزوجت الحبيبة تاركة خلفها كل تلك الذكريات. انتحار عبد الباسط يطرح أمامنا تساؤلاً آخر: هل انتحار خليل حاوي يمت بالصلة لأمسية شعرية عن الحب. لقد كان حاوي يعاني كثيراً من الحياة المزيفة كان صادقاً مع نفسه إلى حد أنه كان يرفض حتى المجاملات. فهو إذا أحب أحب حتى الموت وإذا كره كذلك كره حتى الموت. فكيف ما تلفت حواليه وجد الابتسامات المزيفة والعلاقات الاجتماعية المبنية على المصالح. لربما اخترقه ذلك الحب الفاشل من تلك السيدة العراقية وطبعاً نعرف اسمها فقد نشرت مؤخراً رسائله إليها بدون أي أمانة أدبية إذ حذفت معظم عبارات العشق التي كان يكتبها لها في سياق هذه الرسائل وكان أحرى بها أن لا تنشرها بهذه الصورة. أما الأسباب التي أدت إلى فشلهما بعد عقد خطوبتهما فكان اختلاف الأمزجة لكونها سيدة اجتماعية يحلو لها الفساد هنا وهناك وأن تقيم المعازف في منزلها وأن تصبح نجمة بحجم نجومية حاوي. وكانت تكتب القصة ودرست في نفس الجامعة نفسها التي درس فيها خليل حاوي جامعة كمبريدج في بريطانيا وبسبب اختلاف أمزجة كل منهما ظلت علاقتهما متوترة إلى أن حسمت.
فانفصلت عنه لتقترن بشاعر آخر سرعان ما انفصلت عنه هو الآخر ومنذ ذلك الحين ظل حاوي يعاني من الحصول على المرأة التي تعطيه الشعر تخرج عبارته الشعرية من جفافها من صخريتها وكان في كل مرة يفشل. وكان أحياناً يلمح لبعض أصدقائه بأنه ليس رجلاً محظوظاً بالنسبة للنساء. فهو ليس وسيماً ولا نجم سينما إنه شاعر. وغالباً ما كان يصدم من هذه المرأة أو تلك. وبسبب رفضه للمحاكاة الاجتماعية بدأ خليل في أيامه الأخيرة كأنه وحيد. وجاءت الإحباطات القومية والوطنية في كثير من شعره إلى أن أطلق الرصاص على نفسه عشية الغزو الإسرائيلي على بيروت عام 1982 ميلادي.
من يعرف الآن الشاعر كمال خربيت هذا الذي اغتيل في بيروت لذروة عطائه وهو الذي مزج حياته بالشعر والنضال كما يعجن الطحين بالماء كمال خربيت من جيل أدونيس وكان يعد نفسه شعرياً لأن يكون بمستواه نال الدكتوراه في فرنسا باللغة الفرنسية برسالته الجامعية عن الشعر الحديث وشعراء مجلة شعر وجمع شعره بعد اغتياله كما أصدره الحزب القومي الاجتماعي وأشيع أنه أشرف بنفسه على عملية منظمة أيلول الأسود في مدينة ميونيخ الرياضية عام 1972م والتي أودت بحياة الفريق الإسرائيلي وهذا ما يفسر لنا ظروف اغتياله. كان متزوجاً من رفيقة له في الحزب وله ابن منها يكتب الشعر الآن. عندما عاد من فرنسا كنا نلتقي معه في منزل السيدة ميشلين الأشقر شقيقة رئيس الحزب القومي الاجتماعي يوسف الأشقر لعدة دورات. وهناك تعرّف على فتاة جامعية اسمها (خزاما) ساحرة وجميلة فهام بها حباً وهامت به، لكنه حرص أشد الحرص على عدم إيذاء زوجته أو تدمير حياته الزوجية. لكن الحب تحول بعد ذلك إلى جنون. تعب غاب سافر لكنه في كل مرة كان يعود أكثر شوقاً إلى خزاما فلما كان صادقاً مع نفسه يأبى أن يخادع ويلف ويدور هذا هو الشاعر الصادق الحقيقي صارح زوجته وشكا لها مشكلته، فهونت عليه الأمر، وطلبت الطلاق، فافترقا، فتزوج كمال المسلم من خزاما المسيحية. إلى هنا نقول إن الأمر عادي. أما الزوجة الأولى فبقيت أشهراً بعيدة، وكانت تعرف في حدود رفيق كمال بشيره عبيد الذي كان ينطق حباً لها. فبشير وكمال كانا صديقين وهي متزوجة من رفيقه. ولما أصبحت حرة صارح بشير رفيقه أولاً فما كان من كمال إلا أن وافق قائلاً إنها: سيدة عظيمة فلماذا لا تسألها؟ فسائلها فلم تمانع فتزوجا. وحتى هنا والقصة هادئة ولكن تحولت العلاقة بين الأربعة الزوج وزوجته السابقة والزوج الآخر ليس هي رفقة حزبية بل إلى صداقة عميقة يخرجون معاً ويسهرون معاً ويتناولون العشاء. أما في منزل هذا أو منزل ذاك كل هذا حدث أثناء الحرب الأهلية في لبنان. وذات يوم اشتعل الصدام بين تنظيم محلي اسمه المرابطون والحزب القومي بين سائق بشير وبائع خضار أدى إلى مقتل بائع الخضار. فنشبت معارك في شوارع بيروت الغربية استمرت عدة أيام وجاءت مجموعة مسلحة وحاصرت منزل بشير فاتصل هاتفياً بكمال طالباً منه المساعدة فأسرع كمال وتسلل إلى منزل بشير. ثم حاول محاورة المسلحين بأن لا يقدموا على عمل يندمون عليه فيما بعد. وكادت المحاورة تثمر غير أن مسلحين آخرين وصلوا للتو إلى المكان واقتحموا المبنى. فقاوم بشير مثل ما قاوم كمال إلى أن ضرب رصاص من مسدسيهما فاقتحم المسلحون المبنى فقتل كمال على التوثم بشير عبيد وأزلية شقيقة بشير عبيد التي خرجت في محاولة لمساعدة أخيها، هكذا انتهت حياة هذين الرجلين اللذين أحبا امرأة واحدة هذه النهاية المأساوية ففقدت زوجها الأول وزوجها الثاني في اللحظة نفسها وقفت المرأتان معاً زوجة كمال الأولى وخزاما زوجته الثانية تشيعان الشهيدين. أما الذي قاد عملية الاقتحام من المسلحين فقد كان معروفاً لدى الأجهزة الأمنية بأنه اختفى بعد هذه الحادثة تماماً. وعندما غزت إسرائيل بيروت ودخلت مدينة بيروت 1982 ميلادي ظهر ذلك الرجل ضابطاً في الموساد الإسرائيلي أي بعد سنتين من الاغتيال.
القصة الأجمل في ختام حديثنا قصة عشق أمين نخلة الستيني في ذلك الحين بفتاة دمشقية في السابعة عشرة من عمرها. كان أمين نخلة من بين الشعراء الذين أحبهم الزعيم الراحل جمال عبد الناصر اعتبر ضيفاً على الجمهورية العربية المتحدة آنذاك ومن قبل على مصر فصار في أيام الوحدة السورية المصرية يتردد على دمشق كثيراً وينزل في فندق سميرا ميس الذي كان وقت ذاك من أكبر فنادق دمشق وفي كل مرة كان يذهب إلى القصر الجمهوري ليسجل اسمه في سجل التشريفات. وفي ذلك الوقت تعرفنا عليه بعد أن كنت من المعجبين بشعره. وكنت وقت ذاك من العاملين في المكتب الصحفي بالقصر وكان مدير المكتب الصحفي المعروف وقت ذاك نشأت. أما زملائي في المكتب فكانوا ثلاثة غادة السمان واسكندر بلوفه الذي كان بمثابة نائب المدير وفتاة من عائلة محافظة في دمشق مهمتها أن تطبع التقارير الصحفية المرفوعة للرئيس أو لنائبه على الآلة الكاتبة وكنت أنا بالذات مسؤولاً عن تقرير الصحف اللبنانية فيما كانت غادة السمان مسؤولة عن تقرير الصحف التي تنشر باللغة الإنجليزية. في هذه الأثناء كان أمين نخلة يزورنا قبل أن يستقبله المقدم حسني عبد المجيد مدير مكتب الرئيس ثم كلفنا الأستاذ عطية وهو مصري من الضباط المصريين المعروفين ثم بالاعتناء بشكل دائم، بجرائد الشعر والانصراف بكل ما يريد معرفته من معالم سياحية وإقامة ندوات شعرية له، وكذلك تكريمه الدائم في الأندية الثقافية وبالفعل قد شغلناه إذ كلما شعرنا بعدم رضائه أعددنا له برنامجاً ثقافياً واسعاً كزيارة المرافق الثقافية العربية وإقامة ندوات شعرية فيها أو إقامة الولائم التكريمية له في العشيات وكان يحضرها لفيف من كتّاب وشعراء دمشق.
هناك قصة ظريفة وأنا مضطر أن أقطع لحديث لأن المقالة موجودة من الأستاذ عبد الله الشيتي، دخلت أنا وأمين نخلة إلى مقهى الخزامى في دمشق وهو مقهى يجتمع فيه كتّاب الشعراء الفنيين فإذا عبد الله يجلس في زاوية. قال لي أمين نخلة: هذا عبد الله تعال نشوف إيش صار. فاقتربنا منه التفت أمين وقال لعبد الله أنت دعيتنا إلى العشاء طبعاً فوجئ عبد الله وقال له طبعاً أهلاً وسهلاً بك وعبد الله كان محرراً في جريدة أيام الفقر الآن أصبح غنياً جداً. وعندما يأتينا لندن ينزل بالفنادق الفخمة وقت ذاك كان كل راتبه 200 ليرة في الشهر بس جلسنا وأثناء جلوسنا جاء علينا الجزائري جاء وليد وجاء كتّاب، عشرة أو خمسة عشر، وبدأ عبد الله يتصبب عرقاً جاءنا حوالى عشرين شخصاً يجلسون على الطاولة يقول له أمين نخلة: الأستاذ عبد الله حشر. وهو ينظر إلينا حوالي عشرين شخصاً فهذا وقع في حرج عجيب كان نحيفاً جداً، نصف هذا الشكل ولكن كان يعرق كثيراً. أخيراً قال أمين نخلة: هيا إلى المطعم الأستاذ عبد الله تفضل فدخل إلى المطعم متواضعاً وانتحى جانباً في ساحة المطعم الضيوف هنا أرجوك لا تحرجني فقال له صاحب المطعم: هذا المطعم ملكك أطلب ما تشاء وخذ راحتك ومع ذلك ظل مرتبكاً إنما أمين نخلة فقد أخذ يقول: أعطونا بالفراريج مشوية أعطونا باللحم بعدين ماذا تريد أن تأكل عبد الله الساحة فاضية المهم لا نطول الحديث المائدة غالية يعني تكلف شيئاً لكن هون عليه وهو مضطرب قبل ما تنتهي الجلسة كان عبد الله إلى جانب أمين نخلة. فركزه تحت الطاولة ومد يده بمبلغ من المال. عبد الله استعاد وعيه نظر إلى المبلغ رآه ضخماً وضع يده في جيبه قال: أنا ما أتعشيت أتيني بفروجين يا أستاذ، تردد أمين نخلة على مكتبنا الصحفي في القصر فقد بقي في دمشق شهرين ظل يتردد علينا فيهما يومياً إلى أن اكتشفنا السر، فقد كان أمين نخلة يعشق فتاة الآلة الكاتبة في مكتبنا التي لم تبلغ الثامنة عشرة. إذ بدأ الشاعر الكبير يخرج عن طوره كلما دخل مكتبنا صار إذا وضع يده في يدها مصافحاً يغيب كأنه في رحلة حلم. وكانت الفتاة أشد حرجاً هل تصده أم هل تتساهل معه فإذا صدته ماذا يحدث لها فقد تفقد وظيفتها قد تسيء إلى الشاعر الذي هو ضيف كبير على الجمهورية. فاتفقنا أسكندر بلوفه وأنا في معزل عن زميلتنا غادة السمان أن نتصرف إلى حد نحفظ فيه مكانة الشاعر ولا نسيء بحال من الأحوال إلى الفتاة الدمشقية، وكان حرصها شديداً، وحذرنا أشد خوفاً من أن يحدث أمر لا يحمد عقباه وفي الوقت نفسه انتبهنا لجمال الفتاة، ما كنا منتبهين لجمال الفتاة إنها جميلة جداً جمال مميز لم نكن ننتبه إليه من قبل، فتاة رقيقة وجه صبوح عينان مذهلتان في اتساعهما وسوادهما شعر أسود مجعد فوق الكتفين حقاً إنها فتاة جميلة. دائماً عين الشاعر تكتشف الأمور غير العادية كيف لم ننتبه لهذا من قبل؟ فيما كنا على طاولة عشاء أمين نخلة أنا إلى يمينه والشاعر عكاش إلى يساره ويمينه خليل خوري ومحمد حريري وعبد الله الشيتي مال علي آنساً وقد قطرت من عينيه دمعتان: أيها الحبيب أين هي الآن أنها نائمة يا سيدي صدقاً أريد أن أراها أريد أن أراها الآن أريد أن أراها الآن ولم يدر الذين حولنا ماذا يريد أن يرى الشاعر. لو أن خبيراً قال لي من هذه التي يريد أن يراها والله لو كنت أعرفها أحضرتها له من وراء البحر إلا أنني رددت في أذن أمين نخلة الصباح رباح يا سيدي في الصباح في المكتب، أفصحت أمام اسكندر بالذي حدث البارحة وقلت له: إننا على أبواب فضيحة أخشى أن يقدم على أمر لا نرضاه. ماذا نفعل؟ اقترح أسكندر أن يعطي الفتاة إجازة ولكن من يطبع وينظم ويرتب التقارير الصحفية؟ استطاع اسكندر بذكاء أن يجد البديل وهذا ما حصل وكنا نلمح في عيني أمين أطيافاً من الحزن كلما زارنا ولم يجد الفتاة.
أعد أصحاب الثورة الأردنيون في جامعة دمشق أمسية أدبية كان ضيف الشرف فيها أمين نخلة نفسه في تلك الأمسية ألقينا قصص الكاتب الأردني أحمد خطيب وعبد الله وأنا، وفجأة قدم عريس الحفلة أمين نخلة ليلقي شعراً واعتقدنا أن هذا كان إحراجاً للشاعر، وعرفت فيما بعد أنه هو الذي طلب ذلك بعد أن لمح الفتاة إياها بين الحضور بكامل زينتها. وهذه المرة بكامل أناقتها وكامل حلاوتها وكان أمين نخلة يرقص وراء المكرفون رقصاً وهو يلقي شعره الجميل بصوته الخطير الناعم وعيناه منصبتان عليها، وكان التصفيق الحار أنها وقفت بين الحضور وأخذت تصفق طويلاً ثم يلحق بها الجمهور تصفيقاً أكثر حدة ثم الصمت العميق حتى إذا رميت بإبرة على الأرض لسمعت إيقاعها وأخذ يكرر شطرا من قصيدته مراراً وهو ينظر نحوها وقد لمحتها أنها كانت تذوب على مقعدها من السعادة والفرح والخجل أيضاً ألم يكن الخجل سمة النساء في دمشق.
بعد انتهاء هذه الأمسيةلبيَّنا رغبة طلب الأردنيين في حفلة عشاء كان الأمين على رأسها وأكلنا فيها أيضاً ولم ندرِ من دعاها بل ولم ندرِ من نظم الجلوس حول طاولة عشاء فإذا بمقعدها بجانب مقعده كانت سعيدة به وكانت في الوقت نفسه خائفة أما الأمين فقد كان كالطفل الذي يطل على الدنيا لأول مرة سعيداً فرحاً يمسد ثوبيه الأسودين الأشيبين بكلتا راحتيه بين الحين والآخر وعطر البنفسج يفوح منه حتى لكأنك تعرفت من خلاله على ما يوضح إليه. كان هذا هو اللقاء الوحيد الذي جمع الأمين وفريان على طاولة واحدة وقد التقطت للأمين مع مجموعة من الحاضرين صور عديدة ومن بينها صورة تجمعهما ثم إن الأمين بعد ذلك انتبه إلى اختفاء الفتاة أننا فعلنا ذلك حرصاً على سمعة محبوبته وحرصاً على اسمه الشعري فهو ضيف الجمهورية ولا يجوز أن يقال عنه أشياء تصبح مجال سخرية فيما بعد. تظاهر الأمين بالاقتناع كان وقت ذاك قد تلقى دعوة من أمير قطر فقرر الذهاب على طول هرباً من ذلك الحب الذي جاء في آخر العمر ومن هناك كتب إلي تلك الرسالة التي عبرت عن هواه طبعاً سنلاحظ تلك الرسالة بأسلوب أمين في التعبير كاتب بين الصفحات خصوصي الدوحة 27/10/1960 يقول: أيها الحبيب أكتب إليك في هذه الساعة الفجرية وأنا لا أزال في ضيافة أمير قطر في الدوحة عاصمة الخليج وصلت بالطائرة في أول النهار إلى دبي، سفري أريد به الترويح عن نفسي ولخاطري بين هذه الديار النائية ولله ما بي لله أحاديث ونظرات وكلمات ومواعيد على التلفون وموافقات في السيارة كنت أظنها لعب لاعب فإذا هي شغل شاغل وإذا هي هوى هوى أن يعصف بنفسي عصف الريح في الشجرة المنفردة لا يقيها شيء ولا يساندها شيء ثم ما يدريني فقد يكون موقد نار قد أوقدها وطلب زهرة ومضى في سبيله لا يسأل عما فعل قول يا عمري فمن تراه يعاتب هذا الفاعل لتارك؟ ومن ذا الذي يكلفه الولوع في الشعر الأبيض؟ ويسأله الجمع: أين الرد والهشيم؟ ثم إني أنا نفسي أقدمه على نفسي فتراني أسأله أن لا يفعل، أن لا يلتفت إلى حب لا غاية له ولا عاطفة فيه ولا شق باب منه يفضي إلى السبيل وليكتب الله له السعادة برفيق عمر يكون خير رفيق وبسقف بيت يكون آنس البيوت. أما أنا فإني أحمل لوحدي هذا الحب أنا وحدي أقاسي هذه اللوعة وأشرب بهذه الكأس المرارة حتى تفعل بي الدنيا ما تشاء أن تفعل. أقل من أن أهدي في الحب حبيبي وأما هو يستطيع القضاء عَلَيْ. وقلت فيما سبق هشيم وشعر أبيض وما لي أيها الحبيب بالهشيم وبالشعر الأبيض فالحب ربيع وإن جاء في أعقاب الشتاء.
وهكذا اختتم الأستاذ ياسين رفاعية أمسيته حول ذكرياته مع الأدباء والشعراء.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :811  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 87 من 155
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.