شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفصل الرابع: السلطانة المعشوقة؟!
*وصفْتُك لليل: فَرْحاً، وجرحا
وقدًّا ورمحاً ونفحاً، ولفحا
وعينين للسحر: ضخّاختين
وكَفَّين بالدفء نضّاحتين!
* د/ مصطفى رجب *
* * *
ـ 1 ـ
صار نداؤه على اسمها: ((السلطانة)) هو النداء / السؤال الذي يرتقب إجابته التي تأتي ولا تأتي.
سؤال يتلفع بحرارة أنفاسها في صمتها وبوحها لكنها تُجرِّب القفز فوق حاجز الخوف، و تتردد!
أتعبه هذا الجلوس الطويل أمام قلبه يُحدّق في طيف ((عالية))، ويسترجع أصداء تلك اللحظات الأجمل عبر هاتفها، وذلك اللقاء اليتيم في باريس.
كان يتأرجح في اندهاش أصدقائه ممن حوله يتابعون معاناته وعزلته التي ارتضاها لنفسه، في جفوة ((عالية)) له وهو يرسم عينيها، وضحكة الضوء من وجهها / الزمان.
كان يقرأ في إصغاء وحدته: أشواقه فمن يقدر أن يلمّ أشواقه الآن؟!
هل يخضع لواقع ((اللا عودة)) إلى عالية؟!
هل يثور على ضعفه، ليتخلص من أصغر ذراتها في نفسه وكيف؟!
كأنّ ((عالية)) تفكر الآن في التعامل مع ((علاء)) بأسلوب المراحل:
المرحلة الأولى: كانت الذروة الاشتعال الذي أضاء قلبه ثم دمرّه في حريق اندلع، ولم يقدر على إطفائه حتى الآن برغم أن الحريق لم يبْقِ على شيء في داخل ((علاء)).
المرحلة الثانية: كانت الصدمة صدمته بتعسف قراراتها معه، وعنف تلك القرارات التي تعاملت بها معه لتقصيه عنها، أو ربما لتنتقم من صدمة أحلامها وخيالاتها فيه، وهي أحلام رومانسية ارتبطت بأحلى كلام كتبه لها، وكأنها لم تكن تريد الجانب المادي فيه حتى ظنَّ أنها: أنثى مجوّفة الصدر، نزعت قلبها من ومن بعيد، وبقيت بلا قلب، وبلا خفق!
أما المرحلة الثالثة: فهي الضياع، الآن لا يعرف ما يُخبّيء له القدر معها في الغد لا يريد المزيد من الضعف العاطفي أمامها، هذا الذي يؤدي به إلى السقوط في الذل والمهانة وهي أنثى ترفع شعارات مضادة للرجل إلى درجة العداء له وهي أنثى تصرُّ على استقلاليتها التي تصل إلى استمزاج العزلة والوحدة لتتخذ قراراتها وحدها، وتؤكد أن هذه الاستقلالية تُعمِّق من الخوف من المرأة عند الرجل!
وفي هذا الضياع أيضاً: يريد ((علاء)) الوصول إلى استقلاليته هو عنها، ونَزْعها من بين شغاف قلبه للأبد فيرتاح ويهدأ بالاً!
* * *
* قرر ((علاء)) أن يكسر هذا الطوق الذي فرضه عليه حبه لـ ((عالية))، وأن يحطم القفص الذي حبسته فيه ويحلق بعيداً عن تسلطها على قلبه كطائر النورس الأبيض الحزين منطلقاً إلى كل الدنيا لينسى تجذّرها بين ضلوعه، وشهقة لياليه وشهوة ظلاله يفرُّ من مدينته الساحلية هذه المحمّلة بالطل كنفسه.
فإلى أين يفر، ويُحلّق؟!
لم يكذب عليها عندما صارحها يوماً بأنه: يتوجَّس من سقوطها في عقدة، من خلال ما سمعه منها وهي تلعن الحياة، وتصبُّ جام غضبها على الحب!
يتذكّر الآن تلك العبارة في إحدى رسائل رضاها وحبها إليه فكتبت له:
ـ (أتمنى صادقة أن لا تنقطع المراسلات بيننا)!!
ها هي اليوم مقطوعة كانقطاع الماء، والكهرباء، والنسمة الرقيقة و((عالية)) لم تعد تُحس بما ارتكبته ضد ((علاء))، لأنها لا تهتم بانقطاع كل هذه الأسباب التي تحييه فلديها: مياه ارتوازية، وكهرباء تضيئها حسب حاجتها، ونسمة ((تتخيلها)) وهي وحيدة بينها وبين نفسها فقط!
فكَّرت ((عالية)) ذات يوم أن تهاجر بعيداً عن وطنها / مسقط رأسها، وبعيداً عن وطنها العربي الكبير الذي طالما حلمت بوحدته الكبرى، ولكنه كرّس إحباطات في نفسها وعقلها من تراكم الخلافات فيه بين الأنظمة السياسية وتعدد شعاراتها، واكتشاف عجز تلك الشعارات عن الارتقاء بالإنسان، وتثبيت حقوقه!
فكأنها قررت أن يمضي بها زورق الأيام وهي: تجامل قلب عقلها، وتُهادن عقل قلبها بعيداً هناك حيث الغربة التي اختارتها أو الهجرة، حيث تفكر، وتتأمل وتعمل فلعلها تستطيع أن تُنهي الأيام (الملوثّة) كما سمّتها، وترحل إلى أيام جديدة تبدو - في بدنها فقط - أشد نقاء من الحلم!
ولكن كيف يمكنها أن تهاجر وتتغرب؟!
وكيف يمكنها أن تعمل خارج وطنها وتتغرب وعمرها أخذ ينزلق بها إلى التعب: بوابة الهدوء القادمة؟!
يومها قال لها علاء: أنت لن تطيقي مع الهجرة والغربة صبراً سيتكثّف حنينك إلى لغتك وأهلك، وحتى إلى وقوف واقع مجتمعنا الذي نعيشه باستشراء الماديات فيه، وجنون الذات فتجدين نفسك تركضين: آبيه!
ـ فأجابته: ممكن أن يحدث هذا الذي تقوله أو تتوقعه... ولكنَّ التجربة تغريني بالاندفاع إليها، ولديّ القدرة التي تمكِّنني من مواجهة التجربة فأنا بعد لم أدخل إلى سن الشيخوخة أو العجز، ما زلت شابة قادرة!
* * *
* وتبقى ((عالية)) بعد لهفة الحب، وبرودته في نفسها، وانكسار هذا الحب في نفس ((علاء)): هي هذه الأنثى الأضعف، وهو الرجل الأقوى لكنَّ الحب ليس اعتسافاً ولا قسراً، فليس هناك قسر في الرضا والحب و((عالية)) في رأي ((علاء)): مثل الموجة، تندفع بأقصى طاقتها لتحمله إلى أعماق محيطاتها، وأحياناً تتحوّل هذه الموجة إلى دوامة مائية عنيفة تلقيه بين فكيّ حيتان بحرها أو تدفعه نحو حجارة الشاطئ ليرتطم عليها ويتحطم.
الآن بادرت ((عالية)) إلى إدخال ((علاء)) في النفق البارد فصارت الأيام تعبر به ولا تريد!
هي الأنثى / شهرزاد التي ذبحت / شهريار في الليلة الواحدة اليتيمة بعد الألف ووقفت تصرخ بأعلى صوتها: مطالبة بإنقاذ شهرزاد من سيف شهريار!!
هل هو الموت إذن؟!
لم يقل إنه يخاف من الموت بل أحياناً يفكر فيه بصفاء، لأنه سيمنحه الحب الذي افتقده عند الأحياء في أكثر مراحل حياته!
ولم يعترف أن المرأة هزمته إلى درجة القتل بل هو يتحسس ضلوعه ويحاول أن يُحصي عدد طعنات المرأة لقلبه، ولطيبته المتناهية لكنَّ هذه الطعنات لم تقتله وإنما جعلته يفكر في كبريائه، وفي طبيعة المرأة / الكريستال يبدو محيط عقلها أحياناً كمحيط خصرها إن كانت نحيلة، او كانت متضخمة!
((علاء)).. لم يرفض الحياة، لكنه واصل زراعة بذرتها في محاولات متلاحقة في عمق طينة الحب الذي يتشبَّث به والألم لا يتولد من الحب ولا من الحياة، بل من الذين يدّعون الحب أو يوظفونه، ويقفزون على الحياة!
لا يمكن لـ ((علاء)) أن يُسقط من حياته تلك التجربة العصبية التي عانى فيها من عزلة فرضت عليه!
أمسك ((علاء)) بالصحيفة التي أخذ يقلب صفحاتها شارداً عن ما كتب فيها حتى استوقفه خبر عن: جمعية فرنسية أنشئت لحماية الرجل من عنف المرأة والأرقام تقول: إن نصف مليون زوجة يعتدين على أزواجهن جسدياً مرة على الأقل كل أسبوع!!
لقد استطاعت شهرزاد أن تستولي على سيف شهريار وتقطعه إرباً وتضعه في أكياس بلاستيك!
ورمى بالصحيفة وعلى شفتيه ابتسامة حزينة باهتة.
كان سؤال يُدوّي في رأسه، ويتوه ساقطاً في أعماقه:
ـ تُرى مَنْ كان الغبي؟!
هو الذي عشقها حتى الدموع والموت فيها وبها؟!
أم هي التي عبثت بمشاعره بعد أن تأكدت من عشقه لها؟!
هو العاشق لها؟!
أم هي العاشقة لنفسها؟!
* * *
ـ 2 ـ
* أتعبه هذا الجلوس الطويل وحده يُحدِّق في طيف ((عالية))، ويسترجع أصداء تلك اللحظات الأجمل في لقاء التعارف اليتيم.
كان في اندهاش الناس من حالته وعزلته التي سوّر بها نفسه، وفي جفوة ((عالية)) له: يرسم أبعاد النظرة في عمق عينيها، وضحكة الضوء من وجهها.
كان يقرأ في إصغاء وحدته: أشواقه. فمن يقدر الآن أن يلملم أشواقه؟!
وكان حبيساً - ما زال - في أصداء صوتها وضحكتها في أصداء كلماتها له:
ـ ((أنت يا علاء تُحمِّل المواقف معانٍ مغايرة لها أو أكبر منها وتقول: إنني أظلمك))!!
* هذه العبارة كانت محور محادثة هاتفية قصيرة، فوجئ بها ((علاء))!!
ـ معقول (!!) أنت بجلالة قدرك تطلبينني بالهاتف ما هذا التنازل العظيم؟!
* قالت له: لا تسخر أردت أن أطمئن على صحتك، وأعرض عليك اتفاقاً فما رأيك لو بقينا أصدقاء؟!
قهقه ((علاء)) عبر سلك الهاتف وقال لها:
ـ أولاً: أنا سعيد بإطلالتك هذه وبتعطُّفك، وتلطُّفك، وتكرّمك بالاتصال دون طلب مني ياه، ما هذا الرضا العظيم؟!
* قالت: تجاوز السخرية، وهات ثانياً!
ـ قال: أنتِ بادرت سيدتي إلى جعل الصداقة: جدراناً أربعة، أو قضباناً سميكة لأنك أردت اعتقال ((الحب)) وسجنه بين هذه القضبان التي وضعت لها تعريف الصداقة حدَّدت إقامة الحب، ووقفت سجّانة!
حسناً سميتك السلطانة، فالسمع والطاعة، ولكن ما هي المدة التي تقدرين فيها أن تصمدي سجّانة للحب، أم تراك عمدْت إلى اعتقال أية لمحة قد تُعبِّر عن بادرة حب منك لي؟! ولكنك لن تعتقلي الحب لو جاءك من رجل يُرضي مزاجك (تفرق كثير) يا عالية!
* قالت: دعنا نختصر حوار السخرية، وأطلب منك أن تحجز مقعداً في الطائرة، وتأتي فلديّ كلام كثير أقوله لك!
ـ قال: حلم أن أراك ولكن هل تضمني لي أن لا أعود مطعوناً كما كانت عودتي من باريس؟!
* أرسلت ضحكة خافتة أو متحفظة، وقالت له: أضمن لك بس تعال يا أخي!
وضع سماعة الهاتف وهو يتذكر ذلك الانطباع عندها الذي سخرت به من الحب ونسفته فهو - كإنسان - يبدو في نظر مَنْ يعرفه لأول مرة: غير مريح ومرة قال له صديقه ((حامد)) أمام ((عالية)) وهو يسعد بارتشاف فنجان قهوة أمام وجهها: صاحبنا هذا - علاء - غير مقنع!
ربما كان وصف ((حامد)) لاقى هوى في تلك اللحظة عند ((عالية)) لكنها لم تُعلِّق، بل رسمت ابتسامتها الموناليزية النصفية الغامضة.
ومضت ساعة على حوارها الهاتفي معه.. حتى فوجئ بهاتف من صديقه ((حامد))، وصوته الذي تغرق نبرته في الغموض دائماً وهو يقول له:
ـ تِسْلِّم عليك السلطانة!
* هل حادثتك؟!
ـ شيء لا يعنيك.
* حقاً لكنها كانت تحادثني قبل ساعة.
ـ هل ما زلتما على اتصال؟!
* أنت أدرى وأعتقد أنه شيء لا يعنيك ولا يخصك.
ـ ها ((ردّ القازوز)) يعني؟! معليش.
* لا عليك لقد تساوت أشياء كثيرة بعد الارتطام.
ـ ولكنها تعزّك جداً، ولا ترضى فيك كلمة خارجة.
* لا بأس يا صديقي لو لم تعزّني لأصرّت على القطيعة النهائية.
ـ وبماذا تشعر بعد محادثتها الهاتفية معك؟‍
* أشعر أنها أدخلتني نفقاً بارداً فصارت تعبر بي ولا ترد، لأن ((عالية)) وضعت الحد الذي قررته أو رغبت فيه، وأصدرت ((فرمانها)) السلطاني ‍
ـ هل اتهمتك بأنك رجل ((ماسوشي)) ترتضي تعذيبها لك؟!
* كنت ذات مرة - واحدة فقط - أعذّب نفسي بحب ((عالية)) لكني في هذا النفق البارد الذي وضعتني فيه، ووضعت عليه لافتة: الصداقة أشعر بما أُسمِّيه: لذّة الحزن، أو برودة الخوف.
* * *
* وقرر ((علاء)) أن يكسر هذا الطوق الذي فرضه حبه لـ ((عالية)) وأن يحطم القضبان الذي طلبت أن تحبسه داخلها وأن يحلق منطلقاً إلى كل الدنيا، لينسى في تجذّرها بين ضلوعه: شهقة لياليه، وشهرة ظلاله.
وفي كل يوم أخذت أسئلته عنها تتدثر بأصداء ضحكاتها.
كانت كل ضحكة تُطلقها في سمعه هي: إضافة إلى دمه.
وما زال اشتياقه لها يتسع أكثر، حتى يختلط بفيضانها المحبوس في صدرها.
صار لا يتّقيها أبداً لكنه يُفاجأ بالشوق لها.
وما زال يحلم بوجهها في سمرة ((نهرها)) بشعرها المجنون / شلال الليل.
وتبقى هي هذه الأنثى: المرهَقة بخوف لياليها من الوحدة التي حاصرت نفسها بها، ومن هاجس الشَّعْر الأبيض، وبدء التجاعيد على وجهها هي التي كان دخولها إلى قلب ((علاء)): حدثاً، وانتشارها في عمق نفسه: زماناً وقال لها في إحدى همساته في أذنها:
ـ ما أكثر الذين يهتمون بالحدث يا سيدتي لكنهم يخسرون الزمان!
وهُيِّء لـ ((علاء)) أن حبيبته اهتمت بالحدث في حياتها بأنانية مفرطة، وباستعلاء ملحوظ فخسرت الزمان أخيراً!
وفي هذه الخواطر والمشاعر إشتاق أن يكتب إليها بعد محادثتها الهاتفية المفاجئة فكتب لها:
* (يدفعني للكتابة إليك: هاتفك، أو إخباري بأنك ما زلت تذكرينني!!
لا بأس - يا صديقتي الجديدة! - كأنني لم أعد أعرف هذا الصادق / قلبي، بشدة ضرباته مع مفاجأة صوتك إلاّ لك، ومن أجلك، وعنك!
طوبى لأيام اللهفة الجميلة تلك التي كنت ألكز خاصرة الوقت ليركض فتصل رسالتك إليَّ وكنتِ تطلبين مني أن أبعث الرسالة الجديدة بالبريد السريع جداً لأنك لا تحتملين الانتظار لأحلى كلام يدخل شغاف قلبك!
هل ما زلت تذكرين هذا أيضاً، مثل ذكري لك؟!
طوبى للأيام الحلوة تلك التي صارت ذكريات يا سيدتي، وعمرها: أيام قصيرة فقط كقِصَر الفرح!
لا عليك هذه أنّات ناي حزين مجروح، متروك لأصداء الريح.
من زمان لم أكتب لك لكني أحسست أن وراء اتصالك الهاتفي: خبيثاً، أو خبراً خاصة وأنت تطلبين مني القدوم إليك.
وما زالت تُطلعك ((قمراً))، ولياليّ تُطلعك شجرة ((نيم)) فوّاحة، ترتقب الصباح!
تُراكِ هل أنت سارقة عمري، أو فرحي أم أنني المتجنّي على بهائك بعمق تجربتي، وبسريّة تجربتك؟!
يسرني إذن - في هذا البدء الأخر معك - أن أتجنب الاقتحام لك، وأن أرفض التسلل، وأن أصر على تثبيت المعرفة لك وبك!
الليلة يراودني حنين ظامئ إلى التدفؤ بك لعلك تجدين ((فسحة)) بين ضلوعك لتستطلعي انتماء خفقك، وتستوحي صدق انتماء خفقي!
لا أتوقع منك رد الفعل السريع أم المباشر على رسالتي هذه لذلك لا أنتظر جوابك، لأني لست مُصرًّا على إرغامك الثاني لي: مغادرة عقلي!
الذي كان بدءاً من الصعب أن يكون انتهاءً، يا صديقتي الجديدة.
فهل يطيق مَنْ كان يعشق حبيبه أن يحوّله إلى ((صديق))؟!
البدء بيننا كان: عقلاً، وإعجاباً بإبداع، وهو إعجاب لا يعادرني أبداً.
أيتها العينان السخيّتان كالسماء حين تمطر، البعيدتان كالسماء حين تعلو القريبتان كخفق القلب الحبيبتان كالشروق حين تحمل البشرى.
سوف لن تكون لحظة اللقيا الجديدة: حلماً ذلك أن اللحظة الأولى في باريس كانت هي الحلم وستكون اللحظة القادمة: تعارفاً آخر).
* * *
* حاصرته أسئلة الحيرة: هل يشد الرجال إليها وكيف ستقابله ومَنْ هو الآن بالنسبة لها: الحبيب، أم الصديق، أم ((الرجل لعبة المرأة))؟!
لقد قرر أن يسافر إليها والكثير من المشاعر تخترقه، والأكثر من الهواجس عن ((عالية)) في داخله: كيف أصبحت الآن ومن ستكون بعد هذا اللقاء الثاني؟!
هل سيرتطم قلبه الارتطام الآخر. ليتحطم؟!
هل سيُبصر قلبه مدارج الهوان له عند ((عالية))، فيجتازها، ويشفى منها؟!
هل تقوم صداقة حقيقية بعد عشق جنوني؟!
طوى كل هذه الأسئلة، والمشاعر، والهواجس بين ضلوعه لتنفجر بعد ذلك حين لحظة لقياه لـ ((عالية))، وحصيلة ذلك اللقاء!
* * *
ـ 3 ـ
* إستلقى ((علاء)) على كرسي الطائرة المتجهة به الآن إلى نهر الحب بلد ((عالية)).
أغمض عينيه وعاودته صور جميلة عجز عن تمزيقها في ذاكرته أو حتى إحراقها وهي ((ألبوم)) كامل ليوم واحد ما زالت أصداؤه، حين اقترح فيه أن يذهبا هو و((عالية)) وصديقتها وصديقه إلى الغابة في أطراف باريس كان يوماً دافئاً بالشمس وبالنجوى، حتى نسفته ((عالية)) في اليوم التالي ومعه نسفت كل اللحظات الحميمة التي كان يظن أنها غرسة لأصدق مشاعر عشق بين إثنين.
ها هو الآن ((يطير)) إليها، ملبياً دعوتها له بالحضور فكأنه في هذه اللحظات: يحمل قامته نحو الشروق من جديد / زمنها، وهو يفرّ من الغروب الذي حبسته ((عالية)) فيه!
يحمل كلماته إلى ((عالية)) نحو الدروب الطويلة وسيدعوها أن تُغني معه، حين تسمعه هو يُغنيها؟!
يحمل خفقته إلى رحاب فرحها هي ((عالية)): الواحدة التي ما زالت إنسانة قلبه الصاخب الآن بطبول الفرح للقائها في هذا الزمان الذي صرنا فيه نفتش عن لياقة ضمائرنا، وعن ((تفقيط)) قلوبنا!
كأنّ ((عالية)) أصبحت: حارس ليل ((علاء)) الذي سرقه من انبعاثه، ورماه في الضباب، وسر البحر وحيتانه!
ولم ينتظر بعد دخوله إلى غرفته المحجوزة له في الفندق أن يسترخي، أو يرتاح قليلاً من وعثاء السفر بل ركض ملهوفاً إلى الهاتف، وطلب ((عالية)):
* أفْ مشغول.
بعد نصف ساعة جاءه صوتها كأنه مبلل بالطل:
ـ أنت جيت؟! حمد الله على السلامة.
* حتى الآن لا أعتبر نفسي ((جئت)) مجيئي، وحضوري هما في لحظة لقائي معك.
ـ أُو أُو أُو خلاص نتعشى الليلة مع بعض.
جميل أنا صاحب الدعوة، وأنت التي تختارين المكان.
* * *
* إختارت ((عالية)) مطعماً كلاسيكياً يطل على نهر النيل، ويستمتع زوّاره بعشائهم على ضوء الشموع ورشات الموسيقى كالعطر.
ـ قال لها مبتسماً: لماذا اخترت هذا المطعم الرومانسي الذي يصلح لعاشقين ولم تختاري مطعماً آخر يصلح لصديقين أليست رغبتك أن نبقى صديقين؟!
* قالت: لا أدري ربما أردت أن أكتشفك من جديد.
ـ قال: أرجو أن لا يكون ((العشاء الأخير))
* قالت بوميض عينيها العميقتين السوداوين: بل اعتبره العشاء الأول فنحن لم نلتق هنا أمام النهر في بلدي، وقد يكون اختيارنا باريس لأول لقاء هو خطأ.
ـ قال: أتفق معك بالإضافة إلى خطأ أساسي ومؤثر، وهو: أننا لم نحتفل بلقائنا الأول وحدنا... فقد كان معي صديقي، وكانت معك صديقتك وهذه غلطة، كأنني كنت أتصرف برقابة صديقي وربما بتوجيهه أحياناً، وأنت أيضاً.
* قالت: لكنَّ صديقتي لم تؤثر عليّ ضدك بالعكس، كانت دائماً في صفك وتدافع عنك!
ـ قال: أعلم بعكس صديقي الذي كان يقف في صفك أمامي و.. أمامك!!
* قالت: بالمناسبة ما هي أخباره؟! كان يحادثني هاتفياً، وأصرّ أن نلتقي هنا، ودعاني إلى العشاء واندهشت أنه لم يحاول ذكر اسمك طوال بقائنا معاً!
ـ قال: هذا شخص مولع بالوصاية على الآخرين ولا يقدر أن يبتكر إلاّ ذاته فقط!
* قالت: أما صديقتي فقد افترقنا، ولا تسألني عن السبب.
ـ قال: أشكرك على منحتك هذه اللقاء الجديد، أو الاكتشاف الآخر فطالما حلمت بوجهك وبابتسامتك تحتضنهما عيناي إن وجهك يزداد عمقاً وتجذراً في حدقتيّ عيني وضلوعي لن أنساك - عالية - مهما أصدرتِ أنت من قرارات أو ((فرامانات)) فلم تحبك عيناي فقط، ولم يحبك قلبي فقط، ولم يحبك عقلي فقط كلنا أحببناك في داخلي.
كأنه لمح دمعة لمعت في اتساع عينيها، وأدارت وجهها نحو النهر: صامتة.
في خطواتهما من المطعم إلى سيارتها ركضت يده وراء يدها محاولة اللحاق بها، حتى احتضنها وسرت رجفة خفيفة من كفها في حضن كفه حتى استكانت كفُّها.
وأمام باب الفندق مدَّت ((عالية)) يدها إلى المقعد الخلفي، وتناولت لفافة مغطاة بورق الهدايا المزركش، قدمتها إليه وقالت:
ـ أرجوك إقبل هذه ذكرى، واقرأ معها هذه الورقة المرفقة بها.
أخذ يدها ورفعها إلى شفتيه قبّلها، وقال لها:
ـ غداً أنا مدعوُّ عندك.
* قالت: إنت مجنون!
* * *
* وسَّع ((علاء)) في خطواته ليصل إلى المصعد، أو يجرى إلى غرفته كأنّ أحداً يلاحقه.
إتّكأ على وسادة السرير، وفتح الورقة ليقرأ بخطها:
ـ ((إلى السلطان.. الحائر:
في ذكرى إعادة اكتشافنا لقارَّتيْ أعماقنا، في مدينة القسوة والحنان / القاهرة مع عميق سعادتي لزيارتك الخاطفة السلطانة))!
تناول هديتها و قبَّلها، وكأنه استغرق في تفاصيل رائعة من الأحلام مع ((عالية)) عن الغد ومَنْ يدري؟!
حين كان يُبدل ملابسه جاءه رنين الهاتف، وسرى في إصغائه دفء صوت عالية وشجنها المكثف:
ـ شكراً على العشاء الأول وليس الأخير!
* وأنا الذي أشكر السلطانة المغرورة بحبي لها.
ـ تعرف صحيح، كان خطأ أننا لم نجعل لقاءنا الأول هنا، و أنا وأنت فقط!
* هل سحبت أوراق اعتماد الصديقة، و أعدت تقديم أوراق
ـ قاطعته: أصمت من فضلك عندما تستيقظ في الصباح، هاتفني، تصبح على خير!
وضع سماعة الهاتف وقد أصابته رعشة خفيفة.
هذه ((عالية)) إذن ما زالت تجيء شراعاً كالفجر الأبيض.
تباعاً تلاحقت خفقات ((علاء)) سرب عصافير، تبحث عن عش دافئ في صدر ((عالية)) / السلطانة.
بعادها عنه. كان زمناً يسقط به في الشقوة.
ولقاؤهما معاً أشرق حلماً، لعله يكبر بالعهد ويشعل أول خطوة.
* * *
* أخرج من حقيبته ورقه الأبيض، وحبره الأخضر وكتب إلى ((عالية)):
ـ من السلطان الحائر إلى السلطانة الجائرة:
أما قبل فقد كنتِ حبيبتي، وستبقين حبيبتي حتى يزول الحب من الوجود.
ذات لحظة ضوئية صارت كل العمر تفتّحت ورود حدائقي على صوتك، وعبقت أمسياتي بكلماتك، وتناغمت أغنياتي بصوتك.
طفتُ بك على عيون الناس كلهم هربت بك إلى أسراري، وأحزاني، ووحدتي.
كنت أقتحم قلاعك، وأقفز على حيتانك، و.. أناديك.
وذات لحظة حزينة مفجعة كنتِ تقتلينني في كل نداء عليك، وأنت تعلمين أنك (وحدك) القادرة أن توعدني بالفرح!
أما بعد... فقد صرتِ الليلة: حبيبتي للمرة الثانية.
الليلة الأولى: كانت ليلة واحدة على حفافي السين.
الليلة الثانية / هذه: جاءت عمقاً في ليلة اكتشاف وستصبرين ((غفراني)) لكل ذنوب الحياة معي.
أطفأ المصباح يستعجل رحيل الليل وقدوم الصباح، و نام.
ـ 4 ـ
* هذه السلطانة الحائرة: سرقت من عينيه اللفتة أنجبت بين أضلعه بنفسجة، وقصيدة، وخفقة.
هذه الأنثى: بعينيها أشرعت ((علاء)): سيفاً عربياً فقد صولاته وهو يبتغيها، يناجيها، ويطرد خلفها هي ضفاف عمره المائجة بألف لحظة وسنبلة.
إستيقظ في العاشرة صباحاً وهو يعرف أنها تُبكّر في الصحو سمعها ترد بنبرة صوتها المميزة: آلو.
ـ صباح الورد الأبيض كنهارك.
* صح النوم فكّرت أن أتصل بك لأوقظك، إسمع أنتظرك في بيتي الساعة الخامسة بعد الظهر.
مفاجأة لم يكن يتوقعها إضطرب حقاً، وهو يهذي:
وأخذ يلكز الساعات حتى بلغ الخامسة وتأنق وتشذّب، واستقل سيارة أجرة متجهاً إلى بيتها.
قرع جرس الباب فأشرعت أمامه وجهها الضحَّاك الشفاف:
ـ أهلاً تفضل.
إنساب في رحاب حرمها / بيتها كان يتلفَّت، ويخفف من وقوع خطواته، مخافة أن يجرح ذلك الإصغاء الرائع الذي كان ينبعث من أرجاء عش ((عالية)) الأنيق وأن يشوش على الأنغام.
وتمنى ((علاء)) لحظتها أن يبقى هنا داخل هذا العش الذي يحتاج إلى رجل وهي باقية بجواره.
حلم أن تُتوَّج جلسته بجانب ((عالية)) بسكتة قلبية يموت بها قريراً مع آخر وأجمل أمنيات العمر.
حدّجته ((عالية)) بنظرة كابحة لئلا يفعل ما كان يفكر فيه، وكأنها تقرأ أفكاره وهي تقترب بجانبه وتهمس في أذنه: يا مجنون.
شعر ((علاء)) أنه اضطرب - حين خروجه - وكم تمنى لو بقي - هنا - بين عالية وبيتها الصغير، وهو قادر على نسف الحواجز والغربة التي بعثرت الناس.
* * *
* في المساء الثاني كانا معاً في ليل فيّاض بنداوة مشاعرهما وقد تملكه إحساس عجيب.
تخيل ((علاء)) أن السيارة التي تقودها ((عالية)) وهو يجلس بجانبها: قد زيَّنوها بالأوراق الملوّنة واللامعة وهي بجانبه تضع الطرحة البيضاء فوق شعرها الغجري وقد تزوجها بطريقة جيل جديهما وجدتّيهما!
والتفت يتأمل وجهها كأنه يراها لأول مرة وكأنه يحبها لأول مرة وكأنه يكتشف أسرار نفسها لأول مرة.
* همس بجانبها: آهٍ - ما أضْيع العمر بدداً، حين نبعثره في محاولات الاكتشاف في كل مرة، والعثور، والفقد، والتجاوب ونطعنه بالعناد!
ـ إبتسمت، وهمست: لا تكن خيالياً الواقع أكثر قسوة، وأعتى بوابّة تمنعنا من الدخول إلى مساحات عشقنا الخاصة.
* قال: اختلفت فيك أشياء كثيرة. حتى تسريحة شعرك تغيّرت من الغجري الليلي إلى ((السلطاني))!
ـ قالت: إلى الأحلى والأجمل. ما هو كده؟!
* قال: لقد ملأتني حباً في رحلة غفراني هذه لكل ذنوب الحياة معي بعد أن رأيتك.
ما أجمل التوحُّد عندما يُكرِّس الثقة والحنان أريد أن أكون لنفسك هذه الإسفنجية / الفلتر أن لا أحاكمك بسلبيات أي ((سالومي))، وتعدينني أن تخرجيني من طقس الرجال السيّافين الشهرياريين.
أخلدت ((عالية)) إلى الصمت لم ترد على كلمة مما فاضت به مشاعره نحوها.
وفي أصداء صوته التي لم تلق إجابة منها شعر أنه تسرَّع وهو يبثَّها لواعجه وعشقه الذي نفخ الرماد من فوقه فصار جمرة قلبه أو كأنها وهي تحدق في وجهه تسأله: إلى أين المفرّ منك؟!
لكنَّ الحرية - كما ردّدت دائماً في سمعه - هي: قدرتها على تحقيق ذاتها وذلك بخلْق الفرص أو انتزاعها من مجتمع تشعر المرأة فيه أنها: مواطن درجة ثانية.
ـ قالت له مرة: ((قضية المرأة أعتبرها الوجه الآخر من قضية الديمقراطية))!
سألها: ألا تعتقد سيدتي أنها تبالغ قليلاً؟!
ـ أجابته: دعك من المناصب، والفرص العملية، والكم والكيف لكني كإمرأة عربية أفتش عن مبدأ ((التاكافؤ)) بين الرجل والمرأة، خاصة وأن الإسلام لم يغمط حقوق المرأة أبداً، بل قدمها في كثير من تشريعاته وأحكامه!
وكأنّ شرودها أغرقه معها في الصمت ومرت لحظات بينهما، كل واحد منهما دخل إلى أعماقه لعله يستفتيها.
لكنَّ ((عالية)) تبدو قوية بضعفها الأنثوي فما لبث أن أفاقت من شرودها، وابتسمت تقول له:
ـ ها رحت فين، اللي واخد عقلك؟!
* قال: تعرفي؟! كنت أتأملك فأراك إمرأتين، (عاليتين)!
ـ قالت بدهشة: كيف فسِّر تأملك؟!!
* قال: ألست الآن ((صديقتي))، كما عرضْتِ وقررت، وألزَمْتني بالصداقة بيننا كأنك قد ثُرْتِ على الحب؟!
ـ قالت: ما تريد من تعريف المهم ليتنا نصبح أصدقاء يا علاء.
* قال: لذلك إليك هذا الـ ((بيان خاص إلى صديقة)).
ـ قالت: تقصد أن بيانك الخاص هذا موجّه إليّ أنا / الصديقة؟!
قال: بالظبط. و. دعيني أقول لك فيه، آه - إسمعي:
يا صديقتي الحبيبة ((مفيش فكة، برضه حبيبه!)): أشكو إليك حبيبتي الأجمل، والأعند، والأبعد، و إني أحب من جديد، تاني، وثالث، ومليون وحبيبتي ((إمبراطورية حب)) هي من أصحاب الخفقات التي تملك القدرة على حبس نفسها في نفسها يمنتهى الصدود عن المحبين لها، أو ربما عني أنا فقظ!!
يا صديقتي عالية: أحب، بل أعشق حبيبتي ((عالية)) وليس في هذا الإعلان/ البيان: جديداً عن خفقات قلبي التي امتلكَتْها حبيبتي من وقت طويل، وأرادت مني تحنيطها كجثث أجدادها الفراعنة الجديد: هو في هذا التدفق - الآن - الذي أرعبتني مني إليها.
يا صديقتي ((عالية)) الثانية، أشكو إليك حبيبتي ((عالية)) الأولي.
خوفي الآن: أن أحب (الصديقة) أيضاً وقد وجدتها: الأرق، والأقرب فإذا كان الحب بعد الصداقة، فلا بد أن أخاف إنبعاث ((عالية)) الأولى لتمنع ((عالية)) الثانية، أو تقتلنا معاً.
ـ قالت له عالية: ياه دا إنت خيالك خصب جداً، ولكن خبث منك أن تضرب ((عالية)) الحبيبة بعالية الصديقة!
* قال: لأن الصداقة بعد الحب خرافة في الغالب، إلا في حالة الشعور بالعجز لكن من الممكن أن يأتي الحب بعد الصداقة.
ـ قالت: وأنا - الصديقة - مَنْ أكون الآن بالنسبة لك؟!
* قال: ((بتْونّس بيك)) أغنية وردة التي دعَيْتِني لسماعها من كاسيت سيارتك مساء أمس، وقلتِ لي: هذه الأغنية مهداة مني إليك!
ـ قالت: صحيح أنا بتْوّنس بيك أنت بالنسبة لي هذا الشخص المميز في مشاعري، وفي أمان نفسي معه.
* قال ضاحكاً: إذن ((خذني لحنانك خدني))، كما غنت أم كلثوم يحتاج الرجل المرهق المحبط في داخلي إلى حنانك إلى حنان الأنثى التي تنسيه الإرهاق والإحباط تغسله بالحنان، وتفجّر دفء الرجولة فيه نحوها.
ـ قالت: تأخر الليل دعنا نذهب.
* قال: و كما قال شاعر نسيت إسمه:
((متى أُنيخ على الواحات راحلتي
وحدي وإيَّاكِ لا ماضٍ، ولا غادِ))؟!
ـ قالت: الله هذا شعر جميل جداً.
* قال: المعنى فيه، أو الطلب يبدو أكثر جمالاً.
ـ قالت: غداً تُعقد ندوة عن ((ظاهرة الإرهاب))، فهل تحضرها معي؟!
* قال: حلو حقاً أتمنى أن أسمع مثل هذا الحوار الهام، الذي يهتم بحدث مزعج جداً أخذ يتفشّى إلى أنحاء الوطن الكبير بعد تفجُّره من الجزائر، ثم مصر وما اتضح عن الدور الغامض لمليشيات ((أفغان العرب))، أو العرب الذين كانوا يحاربون بجانب المسلمين الأفغان ضد الروس وحوّلوا ((جهادهم)) اليوم إلى: حرب عصابات، وتخريب، وقتل الأبرياء.
ـ قالت: إذن... موعدنا غداً في السادسة مساءً، سأحضر أمام باب الفندق بسيارتي، ونذهب معاً.
* قال: أحلاماً سعيدة يا سلطانتي يا حبي!
ـ قالت: والله مجنون.
* * *
- 5 -
* إحتفل شوق ((علاء)) المتجدد للحبيبة ((عالية)) وكأنه لم يصدق عودة هذا الدفء من صوتها إلى رعشة الخفق القديم في صدره!
من مواسم عطشه... جاءه صوتها ووجهها: بوصلة... كأنّ حنانها المفقود يحتضن حنينه المتواصل إليها.
ـ قال لها ((علاء)) في صباح اليوم الثالث، وهي توقظه: دعينا نفتتح حضارة العشق، ونكون معاً
ـ أنت وأنا - هذا السطر الجديد في تاريخ هذه الحضارة!
* قالت: تعرف - يا علاء - أنني أنثى طاردها عشّاق كُثْر، ولكنّ حياتي كانت تخلو من ((رحلات)) اللقاء، أو التواجد، أو التَّجمع مع الآخرين... حياتي قامت على: رحلة هروب واحدة... تسببت على امتداد عمري في توسعه الشقة بيني وبين الفرح، أو حتى اللذة المؤقتة.
ـ قال: كأنك تقولين أنك هذه الأنثى التي احترفت التلفُّت في الوقوف / مكانك سِرْ، في المشاعر، وخفقة القلب؟!
قالت: لا تطاردني من فضلك بالأسئلة... إستيقظ الآن، وعش يومك... ولقاؤنا في السادسة مساءً أمام باب الفندق.
أعاد سماعة الهاتف إلى موضعها... ورغبة اللهفة تدفعه إلى التمنِّي عليها!
حلمه: أن يأخذ ((عالية)) إلى صدره... يحتضنها... يهصرها بعد كل ذلك الظمأ الذي شقَّق أضلعه.
لقد قدم إليها، ملبياً رغبتها، إن دعوتها في لقائهما معاً... وهو يعرف أنها بارعة في إفساد حلمه معها ولها... كعادتها معه دائماً!
ورغم ذلك... ركض إليها، يأمل أن تمنحه ((ثانية)) يدفئ فيها صدره برأسها، ويضيء بها عينيه بليل شعرها!!
في المساءين الجميلين... وفي أحضان همسهما، وحواراتهما: كان يصغي إليها ويتأملها... ولا يدري بماذا يسمي كل هذه النبرة المتكسِّرة كأمواج البحر... يعلنها صوتها الفيّاض بالشجون وبالمعاناة.
هل قال: ((عودة)) دفئها؟!
عودة ماذا... فقد قالوا: إن الماضي لا يعود؟!
أم تراه الوفاء... يرتبط بذلك التوجه الربّاني الحكيم في محكم التنزيل: (ولا تنسَوَا الفضل بينكم)؟!
لا..... لعلّه الحنين حنينهما معاً - إلى ذلك الذي غرساه برسائلهما، وبتواصلهما الهاتفي قبل لقاء باريس اليتيم... وسقياه من ماء أحلامهما؟!
* * *
* آثر ((علاء)) أن لا يبرح غرفته بالفندق، خوفاً من طقس القاهرة الصيفي وشمسه اللافحة... وطلب من مكتبة الفندق إرسال الصحف اليومية التي يحرص على قراءتها كل صباح... ليتفرغ بعدها لأوراقه وكلماته التي يسجل من خلالها: حركته الإنسانية، ودورته النفسية مع الدموية!
صوت ((عالية)) ووجهها يؤطرانه في الغرفة... فهي الأنثى التي سكنت في وريده مع دمائه، ويشعر دائماً: أن تعب أمواجه يستريح عند شاطئها، أو حتى يتكسّر ذلك الموج... كأنّ عمره ينتهي مع انسدال جفنيها وهي نائمة.
هي رفضت مشاعر الحب منه، وطالبت بنصوص الصداقة... وفي كلتيهما: يبقي لها، وتبقى أمواجه تتلاحق........ في مكانها!
لقد أعلن عليها: تعبه وانهزامه أمام مراوغات قلبها........ وكأنها في كل مرة: تغادره نحو التناسي، وتطلب منه أن يغادرها إن أمكن!
وفي ذكرياته، وتخيّله الدائم لها... يرى شالها الحريري يتدلى فوق مقعدها هناك في غروب باريس داخل الغابة... وهنا، وهناك في وطنه، وفي أي مكان: لم يبرح ((علاء)) مكانه بجانبها منذ ذلك المساء الصيفي الباريسي الذي غضبت عليه فيه، ومزقّته في داخلها، وتركته: تمثال رخام بالنسبة لها!
وعندما تكرّس فقْدُه لها... صار الفراغ محيطه... لفَّه الصمت، وهذه الاسترخاءة في العمر الحزين... لا يغيب عنه وجهها والنيل خلف شعرها الأسود المتطاير... وهو يتخيل في عينيها الآن لمعة عمره!
هي - وحدها - التي عشقها بهذا الجنون، ولمس في أُنمل أصبعها: وردة ميلاده.
جاء إليها - هنا في القاهرة - ليتشّرد في سمعها، وفي صحاري نفسها... ويجدها تقبض عليه في داخلها!
* * *
* فرغ من ارتداء ملابسه، وقد شارفت الساعة على السادسة إلاّ ربع.
غادر غرفته... وهبط إلى صالة الفندق، يقف خلف زجاج بوابته يترصد وقوف سيارتها ليهرع إليها حتى لا تقف طويلاً.
يعرف أنها دقيقة جداً في مواعيدها... بعكس ما يقال عنها هناك: إذا أعطاك أحد موعداً تنتظره فيه، فتوقع حضوره بعد ساعة من الموعد الذي التزم به!
ها هي داخل سيارتها... وهو يدلف إلى جانبها:
ـ أحد الشعراء سمَّى حبيبته باسم مذكّر، فقال لها: يا ((هلال الأرض))... أحبك!
قالت مبتسمة: هل ما زلت تراني ((هلالاً))؟!
ـ قال: مددت يدي إليك ومعها مددت دروبي: حقل ورود لك.
* قالت: جمّع ورودك لتنثرها لي على مائدة العشاء... الآن نحن في طريقنا إلى حضور ندوة عن ((الإرهاب)) يا صديقي.
قال لها: ألآ تعتقدين أنّ تنامي ظاهرة التطرف الديني، خلقت مكانة إضافية للمرأة؟!
* قالت: مَنْ قال لك ذلك؟!... إن الفكر الديني المتطرف: أخذ يأكل المجتمعات المسلمة من الداخل... وكانت المرأة - بصفتها الطرف الأضعف - هي الأكثر تأثراً بتنامي نفوذ هذا التيار.
لمّا كانت قيادات هذا الفكر تصرُّ على الخلط بين الدين والدولة، فإنهم أعطوا لأنفسهم بهذا الإصرار: الحق أن يُمْلوا على النساء كيف يفكّرن، ويتصرفن، ويلبسن، ويعيشن... ونشروا بهذا الحق الخاص بهم: الأفكار التي تدعو لقهر المرأة في المجتمع... فقد استخدم المتطرفون المرأة كطرف أضعف وأداة مساومة، كما طوّعوا الدين لخدمة نزواتهم ورغباتهم ومصالحهم الذاتية... مهملين تماماً أن المرأة مخلوق متساوٍ في الحقوق حسب تشريع الإسلام، ولكنهم ينتقون ما يرغبون!
ـ قال: المحنة قاسية... ولكنَّ مواجهتها لا تتم بالسلاح فقط، بل بتوعية أفراد المجتمع، وبتحسين مستوى المعيشة.
* قالت: هل تصدق أن المتطرفين وراء الحملة التي تقول: إن النساء المصريات خلف المضايقات التي يتعرَّضن لها في الشوارع من الأساس؟!... وحتى المرأة التي تتعرض للاغتصاب في مصر يُحمِّلها المتطرفون مسؤولية إغراء الرجل وإخراجه من وعيه، تصور (!!) لأنها لا ترتدي الملابس الإسلامية المناسبة... وبالتالي تبقى المرأة في عرف المتطرفين دائماً هي المسؤولة لما يحدث لها... وبالطبع فإن هذه الأحاسيس لا تنتشر بين أوساط المتطرفين فقط، بل يرددها غالبية الرجال... وكأنَّ الجميع فقدوا الوعي!
ـ قال: ولكن... ألا تعتقدين أن المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية - السلبية - أحد الأسباب الهامة التي أدت إلى هذه الظاهرة؟!
* قالت: أعتقد أننا كمصريين لم نُعدّ مجتمعنا الجديد أو الحالي، ولم نُعدّ أنفسنا للحياة اللائقة بنا وبتاريخنا العريق بمستوى إنتاج العالم فما زلنا نحاول أن نجد مجرد الطعام لأفواهنا
ـ قاطعها ضاحكاً: الطعام لكل فم... عنوان كتاب توفيق الحكيم.
* استطردت جادة: نعم... صدقني ما زال هناك من يشتري سيارة بمليون جنيه ويقول: إنه حر في ماله، ونحن نصدقه... وما زال عندنا مريض بالفشل الكلوي، وعندنا أطفال يعانون من القلب - تصور - ومن سوء التغذية... وما زال عندنا مناخ صالح لتحويل الأجيال القادمة إلى وقود للعنف... ولا مفر من أن نقول الحقيقة: بأن الأعوام القادمة تعني التقدم بالنسبة لغيرنا فقط... أما نحن فعلى الشباب أن يمتلك ناصية المهارات المتعددة ليجد موقعاً لأنفه من أجل أن يتنفس الهواء في الزمن الصعب!
ـ قال حزيناً: ياه يا عالية أين التفاؤل أين المفهوم البسيط للمصري ابن البلد وهو يقول: ((بكرة تتعدل))؟! ثم إن هذا الواقع ينطبق على كثير من الأقطار العربية اليوم، خصوصاً تلك التي اكتوت بنار الانقلابات وحكم العسكر!
* قالت ودمعة تنزلق على وجنتيها: بكرة تتعدل كلمة لا بد أن تُلغى من قاموس المواطن المصري اليومية، فأنا من الذين عاشوا الثلاثين عاماً... وفي كل يوم منذ عامي الثالث عشر لا أتذكر أنني حظيت بشيء يجعلني أتقبل هذا المفهوم البسيط، ولم أصادف إنساناً إنعدل مستقبله دون أن يضع هذا المستقبل على نار الإصرار، والترصد، والمعاناة، والثقة... ودراسة الظروف المحيطة به وبالمجتمع، ومعرفة ما الذي يحتاجه العالم من مواهب، ثم التقدم إلى الأمام بروح التحدي والواثق من نفسه... فالتفاؤل بدون سبب هو صنعة أبناء الذوات وليس المصري البسيط الغليان، فهؤلاء يولدون وفي أفواههم ملاعق من ألماس، وغالبية عقولهم: فالصو... هم يبحثون عن جواب لسؤال صعب: هل الذين حولي يحبونني لصفاتي الشخصية أم لمالي الوفير؟! وهو السؤال الذي ضغط على أنفاس أشهر تربة في الربع الثالث من القرن العشرين وهي: كريستين أوناسيس، وكان أبوها المعروف لا يدفع للحكومة اليونانية سوى ما يعادل (18) قرش صاغ مصري كضرائب كل عام، ولكنه كان قادراً على رشوة كثير من الحكومات في العالم!
ولماذا نسافر إلى اليونان... يكفي أن نتلفت حولنا هنا إلى الذين قفزوا من سنوات الهم إلى مصاف أصحاب الملايين من دم الفقراء، وكانت فضيحة لهم... وقيل أن زعيم أحد أولئك القافزين: أصيب بالعجز الجنسي، وصار يتزوج كل ليلة امرأة، ثم يطلقها بعد دفع المهر والشقة... ويبكي كل ليلة في انتظار إبرة المخدر، حتى مات بجرعة مخدر زائدة... بعد أن اكتشف أنه غير محبوب من أحد، ولا من نفسه!
إذن... فالتفاؤل يأتي بالاعتماد على الصُّدف، أو أن يجمع الإنسان أكبر قدر من المال بأية طريقة تمطر بها السماء بيوتاً أو سيارات له، أو رجالاً لعوانس، أو نساء لمن لم يتزوجوا... هذا النوع من التفاؤل هو: قلة أدب بل هو نوع من احتقار الإنسان لنفسه، ولن ينعدل حال ((بكره))، أو يبتسم المستقبل إلاّ لمن يملكون الإصرار، والثقة، والترصد للصعاب فأنت - يا إنسان - الذي تُغيّر كل شيء، ولا أقصد بالتغيير هنا عن طريق السلاح والمتفجرات... فهذا تغيير لا يخدم وطناً ولا قضية!
وصلنا... دعنا ندخل إلى الندوة فقد تأخرنا.
* * *
* أمضينا أكثر من ساعتين في مناخ الندوة عن الإرهاب، وأسبابه، والتوقعات المستقلية... وهمس ((علاء)) في أذن ((عالية)):
ـ لقد اختفت... دعينا نخرج.
وداخل سيارة ((عالية))... قال ((علاء)) تعقيباً على الندوة:
* لم أستمع إلى حلول، ولا إلى حوار... فالكل متشنِّج، وهؤلاء الإرهابيون يدّعون أن أفعالهم الإجرامية تخدم الإسلام، تزويراً لتعاليم الدين... وأن هذه الأفعال هي الحل الوحيد للقفز فوق القيود، باعتبار أن التشريع الإلهي يتجاوز الأنظمة السياسية، ومن ثم فهو استثمار للأرضية الاجتماعية المسلمة، واستثارة للمشاعر الدينية!
ـ قالت: علاء حبيبي... لنسأل: كيف يخدمون مجموعة الإسلام - حسب إدعاءاتهم - وهم يقومون بتصفية من يقول - ((لا إله إلا الله محمد رسول الله))؟!... لقد تبنَّت هذه الجماعات: الإسلام كقناع لتوجّهات سياسية علمانية، وهذا التوجه ليس خياراً ديمقراطياً، بل هو تلاعب بالمشاعر، واختلط الموضوعي بالذاتي، والسياسي بالديني... وانزلقت هذه الجماعات في محاولة فرض نمط اجتماعي تحت شعار الإسلام، لا يوجد حتى في الدول الإسلامية الأولى، وتجاهلت المتغيرات الكثيرة التي يعيشها العالم المعاصر... وكأنها بذلك تريد أن تضع المجتمعات الإسلامية في دائرة مغلقة... كما أنها تُعمِّق مشاعر العداء تجاه الآخرين، أياً كانوا... وهذا يجسد الإخفاق الفكري القائم على فضيلة مصطنعة، دون تقديم أشكال سياسية جديدة، ولا حلول تتناسب ومشكلتي كمصرية... هذه الجماعات لم تقدم لي شيئاً يُذكر، يجعلني أثق بهم!
آسفة... أكلت دماغك، لكنني مثل أي مواطن مصري أعاني... إلى أين تقترح الاتجاه للعشاء في معية عاشقي المجنون؟!
* قال: أظن... أحسن مكان على النيل.
* * *
ـ 6 ـ
* نفس المكان... نفس الجلسة: ((عالية)) أعطت نصف ظهرها للنيل والأضواء المنعكسة على سطحه، وشعرها الأسود يختلط بتلك الأضواء.
وعلاء: أعطى ظهره لمدخل المطعم... لتحتويها عيناه من كل جهاتها، وتحتوي من ورائها النيل، والكتل الأسمنتية الشاهقة، والساطعة بأسماء الفنادق.
تصاعد ((علاء)) أمام عشقه... تصاعد في زمان ((عالية)) المسروق منها، والسارقة منه... يفتش عن وجهها الضاحك / الحزين.
لحنه منسكب أبداً في مسافاتها.:.. وكلماته التي أخذ يهمس بها: ترحل إلى تدفقها الهاجر!
دائماً يوقظه صوتها من شروده فيها... من ابتعاده الممتزج بها.
ـ قالت: ((محدِّش يِسرح... وهُوِّ قاعد معايا))!
* قال متنبّهاً: حتى لو كنتُ سارحاً فيك؟!
ـ قالت: ((ما هو أنا هنا... قدَّامك)).
* قال: ما زلت أنتظر منك عمقاً واحداً... إمنحيني الثقة، الثقة... وخذي أنقى ما تحمله ضلوعي وأتعس: خذي قلبي!
ـ قالت: لو تعلم أنني ما أعطيت رجلاً بعمق ما أعطيتك... فأنت في حياتي: معنى، أجرّدك من الماديات، واللذة المؤقنة.
*قال: أسألك الآن... هل يُغضبك أن يعرف أحد أنني أحبك... وحدي؟!
لحظة من فضلك... أعرف أنك هناك من يحبك، ومن يحلم بك، و..... لكن ليس هناك من يحبك، وسيحبك مثلي! جاءوا بالطعام... ((بونو بيتِّي)).
حوّم صمت قصير مع بدء تناولهما للعشاء... وأراد ((علاء)) أن يُخرجها من إطار العشق لها الذي حاصرها في داخله، فقال لها:
* ندوة اليوم عن الإرهاب... لا أعتقد أنها ستكون الأخيرة، لو أردتم توعية المجتمع، خاصة البسطاء... ولكني - بهذه المناسبة - أريد أن أعود إلى كارثة الزلزال التي حلت بمصر قبل أكثر من شهرين، وأسألك: ألآ تعتقدين أن الزلزال كان دعوة لإعادة الوعي، والعودة إلى الحق دون قناع؟!
ـ قالت: حتى هذه جعلوها نكتة ولا أعلم فقد تكون النكتة عند الكارثة تدل على صلابة روحية هائلة، وقد تكون وسيلة للدفاع عن الصجة النفسية للشعوب فبعد ساعة واحدة من الزلزال، كان المصريون في الشارع يتبادلون هذه النكتة: بنى أحدهم عمارة كبيرة، فمالت بزاوية حادة لخطأ في أساساتها... وعندما حدث الزلزال، استقامت في مكانها، وأصبحت صالحة للسكن... فصاح صاحبها مبتهلاً: يا رب زلزال كمان يبيَّضها!!
* قال: ألم تكن هناك طريقة علمية للتنبؤ بموعد الزلزال؟!
ـ قالت: الطريقة الوحيدة لمعرفة الحدث... هي ملاحظة سلوك الطيور وبعض الحيوانات والأسماك، وهناك من يقول: إن واقعة الزلزال أنعشت تجارة طيور وأسماك الزينة... ولا تستغرب إن وجدت المصري يسير في الشارع وهو يحمل في يده قفصاً صغيراً بداخله عدة عصافير، أو يحمل حوض سمك زجاجي أنيق.
* قال: أنت تبالغين... أهي نكتة أخرى؟!
ـ قالت: إطلاقاً... لقد قبضوا على أحد الدجّالين يبيع للناس أحجبة مضادة للزلزال!
* قال ضاحكاً: هذه نكتة ثالثة.
ـ قالت: النكتة الحقيقية... ما قاله الشارع المصري عن سبب إيقاف أغنية ((عبد الوهاب)) يا دي النعيم اللي إنت فيه يا قلبي!
* قال: وما هي النكتة؟!
ـ قالت: فقد الشاب إبنته وزوجته وأمه، وكسرت ساقه، وظل تحت الأنقاض بصحبة الموت (48) ساعة، وبعد إنقاذه سألته المذيعة في التلفاز: ما هو شعورك بعد أن اكتسب اسمك هذه الشهرة العالمية... هل كنت تتصور ذلك؟!!
ثم وضعت له بعد المقابلة: أغنية عبد الوهاب!!
* قال: ألآ تظنين أن الثقافة الزلزالية انتشرت بين المصرين؟!
ـ قالت: فعلاً... وهل تعلم أن كثيراً من المثقفين صار يردد أو (يؤلف) الكتب أكثر مما يقرأ، ويكتب؟!.... لقد أصبح حديث المصري لا يخلو من كلمة (ريختر)، ومن الهزّة الأرضية، ومن الإرهاب... وفي حفل زفاف: إضطرب المدعوون واستولى الفزع على الفرقة الموسيقية، فغنت المطربة: ((إتمختري يا حلوه يا زينه))!
* قال: حتى هذه الكارثة تتعاملون معها بالنكتة؟!
ـ قالت: لنصمد، لنلتقط أنفاسنا اللاهثة... لنُهدِّئ هذا الرعب والخوف من عدوّين شرسين
الزلزال، والإرهاب... فالاستعداد للكوارث ليس بحجم الإعلام، والتغيير حدث في نفسية الشعب... فهل ما حدث يؤدي إلى صحوة المواطن، أم إلى مجرد وقفة، أم كشف مواطن الضعف للبحث عن القوة... وهل الجماعات الإرهابية: رد فعل للفساد الإداري؟!
كل هذه الأسئلة والمعاني تتداعى... خلاص، لنغيّر الموضوع!
* قال: هل تلبين لي رغبة؟!
ـ قالت: أنت تعرف أن رغباتك معي........
* قاطعها ضاحكاً: غير مجابة... أعرف، ولكني أريد منك أن تأخذيني بعربتك إلى ((ميناهاوس))!
ـ قالت مندهشة: ولماذا؟!
* قال: أريد أن أكون معك أطول وقت... حتى لو قلت لي: أنك لا تسهرين.
ـ قالت ضاحكة: والله مجنون... عندك قدرة أن تقلب كل شيء.
* قال: إلى الأحسن... من فضلك!
* * *
* إمتدت يده تفتش في أشرطة السيارة.
ـ قالت له عالية: من فضلك... سأخرج لك الشريط الذي تبحث عنه، لحظة.
* قال: وما هو... هل تقرئين أفكاري؟!
ـ قالت: بل أقرأ نبضك وخفقاتك... أليس هذا هو الشريط؟!
ولفهما صمت آخر... يصغيان إلى المقدمة الموسيقية لأغنية وردة: ((بتونِّس بيك))... وكأنّ الكلام فد انتهى بينهما، أو أن الكلام يبدو في هذه اللحظات تافهاً، لا يرقى إلى حميمية هذه اللحظة.
ـ وانساب صوتهما نغماً يخالط لحن الأغنية: علاء... أرجوك أن تُبقي على أحلامك، وتتمسك بالأمل... لا بد أن تستعيد أحلامك، تحتضنها، تتواءم معها... رغم كل إحباطات الواقع - حتى إحباطاتي أنا لك! - ورغم قبح نفوس البشر من الذين فقدوا القدرة على الحلم، ولا يميزون بين اللون الرمادي وألوان قوس قزح!
قبل شهور... أخبرتك عن رحلتي إلى الدانوب الأزرق، يومها كان إصراري عجيباً على الذهاب إلى قاعة مؤتمر حقوق الإنسان، والاستماع إلى ما يقولونه عن هذه الحقوق... واكتشفت: أن المؤامرة ضد (الأحلام) عالمية ودولية!!
* حدق في عينيها اللتين أضاءت سواد الليل، ووقال: منذ وقت طويل... علقت على لساني عبارة قرأتها وحفظتها عن ((البير كامو))، قال فيها: ((لا أحد يعيش في ضوء الشمس... يمكنه أن يودي بحياته إلى الفشل))... حقاً المهمة صعبة في هذا الزمان: أن يفكّ الناس إسارهم من ظلمات تلاحقت، لينطلقوا إلى ضوء الشمس.
* * *
* وعاد الصمت يلفهما... وهي تعود بالعربة إلى القاهرة من جديد.
فجأة قال لها: تعالي هنا... كل شوية تفتحي قضية ألم، أو مأساة، أو معاناة... هل تبعديني بهذا عن حديثي عنك إليك؟!
ـ قالت: بل أنا مثلك أتعطش إلى مثل هذه الحميمية... لكنك لا تريد أن تفهم: أن الظروف معاكسة، ومضادة للحلم، والأمنية، ولجنون العشق... وأخشى أن ما أخشاه عليك: أن تستغرق طويلاً وبعيداً في حالة جلد الذات بدون أسباب موضوعية!
* قال: لست ماسوشياً يا من كنتِ حبيبتي، بالعكس... أنت سادية جداً معي، وماسوشية مع نفسك عني... وحق العاشق أن يهنأ بعشقه، هذا يخصني، أما أنت فما طلبتيه أعطيته لك: الصداقة، واحتفظت بالعشق لك داخل صدري الذي أحلتِه أنت إلى وجار يلتهب بالجمر.
ـ قالت: أستأذنك يا صديقي في السفر إلى لندن بعد أسبوعين.
* قال متحمساً: هل نلتقي هناك؟!... مستعد دائماً للقائك في أي مكان.
ـ قالت: لأ....... ذاهبة لشيء خاص.
* قال: علاقة جديدة؟!... لم أقل: حباً جديداً، فأنت لا تعطيه أبداً.
ـ قالت: أنت لن تتغير.
* قال: وأنت لن تكوني واضجة!
بلغ بهما الليل الواحدة بعد منتصفه، والعربة تقف أمام بوابة الفندق.
مدّت (((عالية))) يدها إليه قائلة:
ـ إلى اللقاء... نراك على خير، ولا تختفي طويلاً في سُحبك وغيومك... دعنا نراك قريباً هنا؟
قال: باوّدعك - ورده برضه! - واللقيا نصيب يا صديقتي... أشكرك على اللحظات الجميلة، التي أرغدت نفسي بقربك وبدفئك.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1294  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 168 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الثاني - مقالات الأدباء والكتاب في الصحافة المحلية والعربية (2): 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج