الإنسان.. الدلو |
ـ إن البدايات لا تبدأ من أسفل الإنسان، وإنما من أعلاه!!
|
ـ نام الساعات اللأخيرة من النهار... |
وصحا مع حلول المساء.. |
كانت ليلة صيف.. وكل ما في نفسه |
وما في إحساسه، وما في ذهنه قد |
أصابه ((الصيف)).. كل ما فيه يرشح ويخنقه!!.. |
كانت ليلة صيف.. بلا بداية، فالبدايات مفقودة في عمره.. متغربة في اكتشافاته. لقد ولدته أمه ((سباعياً)) فلم تكن ولادته بداية.. لأن كل العائلة كانت تنتظر قدوم الجنين في الشهر التاسع.. كانوا يريدون بنتاً وجاء ولداً. ويتوالى ضياع البدايات في حياته.. وفي رأسه، واقتحموه من حوله، وكل الناس تجمعوا في رأسه، واقتحموا قلبه وهدموه!! |
ولا أحد أمامه.. ولا المستقبل، فهو لم يتحصل على شهادة تعطيه جواز المرور للمناصب الرفيعة، والمجتمعات الكبيرة، والفتاة التي تبني له بيتاً.. |
أمامه الآن فقط: منفضة السجاير.. وخيل إليه أن وجدانه قد سقط في المنفضة.. تحول عقباً، ورماداً!! |
لا أحد يسأله.. ولا يجد أحداً يجيبه، أو يردّ عليه.. |
وأغفى قليلاً.. هاجساً من داخله انتصب يسأله: |
ـ من أنت؟! |
حاول أن يجيب. تلفت حواليه، وزم شفتيه: |
ـ لا لزوم لتعرف من أنا.. إذا كنت أنا لا أعرف! |
ـ ولكنك تعرف وتهرب!! |
ـ هل تصر أن أشق لك عقلي من منتصفه، وأطعن صدري؟! |
ـ إذا فعلت ذلك فسوف ترتاح قليلاً. إنني جئت لأريحك!! |
ـ تريحني.. أيها المعتوه. إن أكثر ما يعذبنا هو ما في نفوسنا!! |
ـ إذن تحدث ليبلغ بك التعب منتهاه.. أليس الألم العميق هو راحة العذاب؟! |
ـ أنا نيرون.. لقد أحرقت روما، أحرقها في جنوني، والسبب تريستا. |
ـ من تريستا هذه؟! |
ـ أية امرأة تعشق مجنوناً، أو يحبها رجل مرهف وحساس جداً. |
ـ ولكن... ليس العذاب كله امرأة! |
ـ ولكن دائماً تكون المرأة هي كل العذاب. هل تعرف تشارلز مايسون؟.. |
إنه قتل كل امرأة في شخص ((شارون تيت)).. أعرف أنه مريض بالقسوة.. ويعاني من عاهة الفقر في عواطفه. إنه ابن الحالة الجنسية، وله شعار مضحك أبله يقوله: يا نساء العالم.. امتنعن عن إضعاف الرجال! |
ـ ولكن الحياة.. ليست كلها جنس! |
ـ الحياة تتحرك، وتمشي وتبدأ، وتنتهي... والجنس يربط كل ذلك. |
ـ هذا خطأ. الجنس يكون الاستلقاء المؤقت كفواصل للراحة بعد التعب. هناك حياتك.. آمالك.. مستقبلك.. حقائقك! |
ـ هذه فلسفة الرجل العنين، والمرأة الباردة.. ألا تشاهد ما يجري في العالم؟!.. تصور ما الذي يمكن أن تكون فيه صورة الحياة لو كان الرجل وحده أو المرأة وحدها؟! |
ـ إن البدايات لا تبدأ من أسفل الإنسان، وإنما من أعلاه.. من رأسه الذي يفكر، ومن قلبه الذي يحب، ولكنك رجل غريب! |
ـ صدقت.. إنني أتأمل هذا العالم وأشعر أنني فيه رجل غريب.. إنني فأر صغير في خزينة من الكريستال. |
ـ أنت تشتم نفسك. |
ـ لا.. إنني أشتم الكريستال الزائف.. فكل مغريات الحياة مثيرة ومغرية من الخارج، ولكنها ليست أصيلة.. إنها هشة.. زينة. إن خيال الإنسان قد تسوس.. ولكنه يمزح، ويطلق النكتة، ويطوح بساقيه مقهقهاً كما معتوه! |
ـ هل تعرف الذي قتل طفلة لم تتخط العامين؟! |
ـ إنه شخص لم ينجب أطفالاً.. إنه ما زال الطفل الذي لم يخرج من سذاجة الرغبة واحتقارها أيضاً!! |
ـ هل أصغيت إلى فنان يقف وهو يعزف على آلته الموسيقية وبكيت؟! |
ـ كان يقف في شارع طويل، وحوله تجمع النسوة.. ولكنه عندما توقف عن العزف قذفته بالأحذية، وقال الرجال: هذا ناشئ!! |
ـ هل كان يشحذ نقوداً؟! |
ـ أبداً.. كان يشحذ عاطفة، ولقد حزن عندما علم أنها لا تباع، وإنما تعطى، وأن الناس يأخذون المتعة منك ويقذفونك بالطماطم وينسونك للأبد! |
ـ ومن طعنك.. لتقول ذلك؟! |
ـ إنه خيالي. لقد جاملته، فالتف من ورائي وطعنني، ولكني لم أمت بعد. ألم أقل لك إن الحياة في المنتصف فقط!! |
ـ وما الحياة بعد طعنتك هذه؟! |
ـ مائدة مليئة بالطعام الطازج والبارد.. وقد منعني الطبيب أن أتناول الطازج منها! |
ـ وما هو تخصص طبيبك؟! |
ـ زوجة !! قالت لي ذات مساء: خذ ((المكوى)) وأصلحها. كانت هوايتها أن تكوي ملابسي النظيفة، وسلوكي النظيف أيضاً.. وتدعني وحدي أكوي ملابسي المتسخة، وتراكماتي أيضاً!! |
ـ هل تشاهد أفلام السينما؟! |
ـ نادراً.. فنحن أحياناً نرغب أن نجسد الحياة في شيء. إن جزءاً واحداً هو كل الأجزاء؟! |
ـ وبماذا اقتنعت؟! |
ـ أن لا أقتنع بشيء؟! |
ـ وكيف تملأ حياتك؟! |
ـ حياتي؟!.. إنها كالدلو.. أمتلئ وأفرغ محتواي في أرض غريبة وبعيدة، وأعود إلى بئري أتدلى. |
ـ إلى اللقاء |
ـ إن أمكن!! |
|