شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الغريب!
[إلى الصديق الكبير الذي علمني وهو يروي لي هذه القصة شيئاً كبيراً.. هو معنى وقيمة].
اندفعت خطواته تطرق أديم بلد السحر والجمال ((اليونان)) لأول مرة في حياته.. جاء إليها بأقدام عجلة غير مستقرة.. ليستطلع معالمها، ويعب من دفقات الجمال، ويهدِّئ خواطره في التطلع إلى طبيعتها الساحرة.
كانت نظراته تسوح في كل أرجاء هذه اللوحة الحالمة التي اكتست بمعالم الجمال، وهو شبه مغمض العينين.. كأنه في حلم ماتع لا يود أن يفقده!
إن الإنسان في ذاته قد افترش كل نفسه، وأثار كوامن الشجن فيها، وتغلبت إحساسات الحب. والبهجة.. فخيل إليه لحظتها أنه يحتضن بذراعيه هذه اللوحة الطبيعية من كل جوانبها.. يضمها إلى صدره، وتتكسر أجفان عينيه فيغفو على المتعة النفسية بكل ما جاش في صدره ذاك، ليغسل بقع الصدأ.. كل بقع الصدأ التي سببت الألم له وهو يعيش حياته داخل مجتمع يتجرع ذلك الصدأ!..
وفجأة..
خيل إليه أن مجموعة من الألوان الجميلة لوّنت نظراته.. فأبصر أمامه صورة ملوّنة تعطي كل تعابير الجمال من وجه فتاة أسر تطلعاته، فحدق فيها طويلاً منشدهاً، مهوماً، حالماً!
وجه دقيق.. كأن صاحبته قد أفاقت لتوِّها من نوم هنيء.. شحن بأحلام سعيدة، وعلى ذلك الوجه شعر أشقر وصفته نظراته بأنه تموجات شلال!.. وأنف صغير ليس فيه سوى رائحة العطر والشذى، و.. لم يستطع أن يندفع في التملي الطويل.. إذ أبصرها تقتعد عربة يدفعها رجل وخط الشيب فوديه، وفقد شعر رأسه ميزة الشباب.. لكن وجهه لم يفقد الوسامة، وحول العربة شاب فيه ملامح أصيلة من الفتاة، والرجل!
وطرق فكره هاجس لم يتأكد بعد!؟..
هل تكون هذه الصورة الملونة الباهرة لفتاة مقعدة.. حطم جمالها شلل قاسٍ لم يرحم معاني الرحمة، والحب، والهدوء الشائع في كل وجهها؟!
وهذا الرجل الذي داهمته الشيخوخة في مرحلة مبكرة من العمر.. هل يكون زوجها، وحبيبها، ورفيق رحلتها الأليمة في هذه الحياة؟!
والشباب الغض المتفتح على الأمل.. الذي ينضج به وجه هذا الفتى.. هل يكون شباباً سرقه من هذه التي أصبحت الحياة في نظرها مجرد غيمة على أرض جليدية.. لا تدفئُها شمس مشرقة؟!
وجاشت نفسه بالألم..
وأوغلت مشاعره تضرب في طريق رصف بالإنسانية العظيمة ورأى قطع الصورة التي مزّقتها النوائب، وهي تتكرس حول بعضها.. رأى الفتاة المرأة، والرجل، والشاب، وقد انتحوا جانباً ظللته الشاعرية، وحنت عليه الطبيعة، وشبح ابتسامة هادئة تطوف على شفة الفتاة المرأة.. بل تنتقل بين شفتيها وشفتي رفيق رحلتها المؤلمة!
واقترب بخطواته منهم بعد أن حدس قصة رائعة للحب.. تحكي حياة قطع الصورة الممزقة المكرسة على أرض منحها الله كل الجمال.
* * *
وأفاق بعد ساعات.. سرق فيها المتعة والألم - معاً - من شفتي الرجل والمرأة، وقام يجر خطواته التي أحس أنها تود النوم بجانب هؤلاء السعداء بالألم.
ولم يعد يشعر بكل ما حوله، ومن معه من السائرين!.. لقد تاهت خواطره، وشردت به بعيداً.. بعيداً تعدو خلف ماضٍ استمع إلى تفاصيله قبل ساعات، وعاش معانيه.. وتلهث عند حاضر رآه بعينه المجردة من كل تخيل.. رآه يصور أروع قصة حب في دنيا الناس الذين تناسوا عواطفهم، وخنقوا نبضات وجدانهم، وقضمتهم تروس الأنانية، والجشع المادي والأفكار الجافة المزروعة في نفوس قحلت الإنسانية عنها!
ما أجمل الوفاء!..
قال هذا الإعجاب في نفسه، ثم أردف:
إن الوفاء لا يتأكد إلا إذا وجد التوافق، والتقارب الفكري، والالتقاء الروحي قبل التحام الأجساد.. الأجساد ((مادة)) ستفنى.. سيأكلها الدود.. سيموت فيها النبض الذي يمنح الحياة.. إنما الروح ستعيش حتى بعد لحد الأجساد في الرموس.. ستأكل نوازع الذات، وتقضي على نهم الإنسان.. ستحيا بدون نبض لأنها هي النبض الذي يعلم الناس كيف يحافظون على ذكراهم!
وطفرت من عينيه الدموع، وهو يسير على أرض ((اليونان)) التي عرفت الدموع من المطر.. قبل الدموع من عيون الناس!
ما أحوجه الآن إلى دموع المطر لتغسل من نفسه الألم. فإنها أحياناً تكون أبلغ من دموع العين، فهو يبكي الآن بدموعه وما زال الألم يعتصر أمتع مباهجه.. إنه يحس ((بإنسانيته)) ويتمنى لو كانت شيئاً محسوساً.. ليحضنه حتى لا يفتقدها بعد الآن..
وما زال صوتهما يملأ سمعه، وهما يقصان عليه حياتهما.. قصة حبهما، والتقاء روحيهما في روح واحدة..
صوتها: حنون هادئ.. عذب النبرات.. كأنه يصغي من خلاله إلى سمفونية - الدانوب الأزرق - للموسيقار العالمي ((جوهان شتراوس)) التي وضعها على نهر الدانوب!
صوته.. رصين.. عميق.. دافئ.. كأنه نبرة ضاعت من صوت التاريخ!
وأصغى إليهما بكل جوارحه.. قالا له:
ـ نحن الاثنين من ألمانيا، وقد شهدت بلدنا كلها قصتنا.. ليس لأنها فريدة نادرة الحدوث كلا.. فالحب موجود على الأرض منذ بدء الخليقة.. بل لأننا نشعر فقط أن الناس لم يحبوا بالعنف الذي أحببنا به. هكذا تصورنا أحاسيسنا نحن الاثنين السعيدين بقلبينا..
وواصل الرجل القصة قائلاً:
كنت شاباً أعمل في أحد المصانع، وأحمل نفساً طموحة تتوق دائماً إلى النجاح الذكي الشريف، ويراني الناس بوجه لم تخرمه،... وجه فيه طيوف وسامة بسيطة، لكن مشاعري الرقيقة كانت منفعلة دائماً بوسامة أخرى.. هي الطيبة، والحنان، والحب للبشر كلهم، ولست امتدح نفسي إذ بإمكانك أن تسألها الآن.. فقد عرفتني بأسباب هذه الميزات التي أحملها!
حزت على مؤهل علمي.. بجانب عملي الذي ذكرته لك، وفكر أهلي أن يزوجوني بفتاة جميلة.. لكنها كانت قبيحة الأحاسيس، معتمة الأفكار، كئيبة النفس والتصرفات.. عرفت ذلك فيها بعد أن ابتعدت عن حياتي، وقد لا تتصور مبلغ شقائي لو شاء القدر ووضعها رفيقة رحلتي في الحياة!.. يا الله.. كم أكره تلك الفترة التي قرر فيها أهلي ربطي بها، ولا أقول ربطها بي!..
بشعة.. بشعة!.. لا أتصور كيف كنت سأربط حياتي بجسد تخلت عنه الروح، أو اختلفت روحه - إن وجدت - عن روحي، وبعدت، وشطت في الاختلاف؟!
ومانعت..قلت لأهلي: لم أجد روحي بعد.
ولم يفهموا إلا أنني لا أبتهج لفكرة الزواج آنذاك، وطووا فكرتهم..
فنحن لسنا مثل بعض بشر الشرق عندكم.. نقهر العواطف، نجلد الوجدان، إن مشاعر ذلك البعض متأخرة - يا صديقي الغريب -
إن الحب عندكم صناعة.. يجب أن يُصنع الحب - كأية قطعة، أو كأي دواء مركَّب، والحب عندنا يُخلق.. يُزرع كالبذرة تنمو في الأرض، وتسقى، وتشذب، ونبصرها بعد ذلك قد أضحت حديقة غناء.. فيها الشجيرات الصغيرة بجانب الشجرتين الأم، وعلى أفنانها عصافير تغني دائماً!
وقاطعه ((الغريب)) يقول ضاحكاً:
إنك يا سيدي تتحدث عن أحاسيسكم بلسان الماضي.. إن ذكرياتك هي التي تتكلم معي.. فالحب عندكم تحول اليوم إلى مصنع.. كله آلات، ومادة، ومظهر، وشذوذ.. في الشرق ما زالت عند فواصل الزمن تقف شجرة ذات ظل.. أما هنا عندكم في كل الغرب أشجاركم بلا أرض!.. إن الحب في كل مكان لا ينعدم.. اقترب منك بهذه الحقيقة، لكن قصتك ليست مثالاً للحاضر.. دعنا نكمل القصة أولاً!
وتطلع الرجل إلى ((الغريب)) باسماً.. وخلد لصمت سريع، ثم قال:
وبقيت شارداً كأنني أعيش الذهول.. روحي قلقة لم تعثر بعد على توأمها، حتى التقيت بها.
بهذه اللوحة الخالدة في حياتي التي تراها الآن أمامك، وربما خيل إليك - في وضعها الآن - إنها لوحة مهشمة اختل توازنها فسقطت.. لكن قيمتها في نفسي، ووجداني ما زالت نفس القيمة التي قدرتها بها يوم رأيتها..
كان يوماً فاصلاً في حياتي.. بدد القلى، وطمس الحيرة في نفسي، وأذاب كل ألم كنت أستشعره وأنا أبحث عنها.
رأيتها فيه.. ليست أجمل مما تراها الآن، وأحسست أن الروح قد هدأت، غفت.. وهنأت عندما التقت بنصفها الآخر الضائع..
ولم أتزوجها.. برغم خفقات قلبي، واعتمال وجداني بحبها.. كنت أريد أن أمنح الصدق لاختلاجاتي تلك.. أن أعمق مفهوم الحب والالتقاء.. أن أعرفها بنفسي، وتعرفني بنفسها، فلا أخدعها، ولا أتألم بفكرة خداعها لي.. وأردت أن أعرفها أكثر.. وأفهمها، وتفهمني.
ثم تزوجنا.. التقينا بعد أن امتزجت روحانا فأصبحنا روحاً واحدة.
لقد أتعبتك - يا صديقي الغريب - بتكرار لفظة - الروح لكنها عندي، وعندها اسمي ما ربط بيننا (!)
* * *
وتحولت نظرات التائه في قصة الحب هذه.. نظرات الغريب إلى وجه الفتاة المرأة، وأبصرها تضع ابتسامة عريضة مطمئنة على شفتيها، وهي ملتذة بسماع صوت زوجها يروي حياتهما.. كأنها ترتشف ذوب وجدانه بشفتيها..
وأكمل الرجل قصته قائلاً:
ورسخنا التقاءنا بهذا الحب الجديد الذي تراه يجلس معنا.. أنجبنا ابننا ونحن فرحون به.. في قمة سعادتنا.
لا تواخذني - يا صديقي الغريب - إذا قلت لك إن الأبناء عندكم في الشرق يكونون أحياناً مصدر شقاء للزوجين.. إنكم تتزوجون أحياناً بلا روح، ثم يأسركم الإنجاب، وتدورون في طاحونة شقاء وألم.. ويكون الأبناء عاملاً مرغماً يحتم عليكم حياة لا تحبونها.. غير أني - أنا على الأقل - استطعت أن أجعل من فكرة الإنجاب مرحلة جديدة في رحلة العمر الطويلة!
أرجو أن تفهمني بدون غضب.. لقد سعدنا بابننا...
وطفرت من مقلتي الرجل دمعتان حراوان لم يستطع أن يكمل عبارته..
وصمت ثانية ليجفف دمعه.. ثم استطرد قائلاً:
وقع لها حادث أليم بعد ذلك.. عجل بزحف الشيب إلى رأسي.. وإن كانت نفسيتي ما زالت زاخرة بالشباب.. كل الشباب نحو هذه الحبيبة الغالية..
لقد أصابها الشلل في ظرف جلله الأسى، ولم تتوقف حياتنا.. لم تفتقد حبي لها، ولم أفتقد حبها في قلبي.. زاد حبي، اشتد خوفي وتعلُّقي بها، واستمرت أيامنا الهانئة.. ويلذ لي أن أدفع عربتها الآن بيدي وحدي لأدخل البهجة إلى نفسها.. إنها تشعر بقربي من روحها قبل جسدها.. من قلبها قبل نظراتها، ولدينا عربة صغيرة نسوح فيها كل عام.. أجدد بها حياتنا.. أجعلها تحس بشبابها برغم علتها.. أحاول أن أنتشلها من قسوة الحادث والأيام، ثم نعود إلى مدينتنا وفيها نمتلك ((فيلا)) يشيع السرور في أرجائها أبداً.
* * *
وتنبه الغريب الذي يبكي بدموع المطر.
وأسرع في خطاه نحو مكتب المطار.. فقد حان موعد سفره إلى بلده.. إلى الشرق، وفي أضلعه حنين إلى أرضه.. يود أن يطوي الطريق ليحكي للناس في بلده قصة الحب والروح.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :877  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 22 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج