شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
وجه في المرآة!
زحفت يدها اليمنى بتثاقل.. واجترت المرآة الصغيرة الموضوعة بجانب السرير، وتشبثت أصابع اليد بأطراف المرآة.. كأنها تتشبث بطفل اغتصب منها.. وطفقت دمعتان حراوان من مآقيها، وهي مستلقية على سريرها لا تستطيع حراكاً..
وارتفع الجفنان.. يفسحان لنظرات العين الحائرة.. التي انطلقت تتمسح بأثاث المكان - وكأنها تستعيد الماضي الآفل بدون رجوع - وتتذكر بسمات الشباب.. وقصة الأمس الذي ولى، وخلف حطام امرأة تشارف على النهاية! وعادت الدموع تتصبب من مآقيها.. وعادت أصابع يدها اليمنى تتشبث.. بأطراف المرآة.. ثم رفعتها إلى صدرها وأطلقت النظرات الحسيرة معكوسة على صفحة المرآة.. وظهر الوجه الضامر في لون أصفر باهت.. ارتسمت عليه عينان غائرتان في أعماقها حزن عميق، وشفتان مكتنزتان أذبلتهما مرارة الأيام.. وتعاقب الأحداث.. وأنف ليس فيه سوى رائحة النهاية!
ورجعت بها الأحداث..
ابتدأت ذاكرتها تعي.. وتتابع من الصورة الأولى في شريط حياتها.. حين كانت تعيش في إطار الرابعة عشرة من العمر..
في الرابعة عشر..
في هذه السن المحفوفة بهالة من الأمل.. والإشراق.. والأحلام الجميلة.. رأت أول شمعة من الشموع التي تنير لها طريق مستقبلها.. وتبصرها بمسالب الحياة والأيام.. وهي تدنو من النهاية.. نهاية الذبالة..
وفي ذلك اليوم تركت الدموع تسيل على وجنتيها النضرتين - لأول مرة تبكي الذي يجسد لها أحلامها وينير طريقها ويمنحها الأمل المستطيل.. فقد أغمض الموت عيني والدها.. وتركها مع والدتها للأيام.. وتصرفات القدر.. وأخيه - عمِّها - !
واحتضنها عمُّها.. في بيته.. يحنو عليها ويرعاها..
فرح بها ابنة تملأ بيته بالحنان لأنه حرم من حنان البنت..
فهو لم يهبه الله سوى ابن واحد.. أغدق عليه كل العطف.. وأعطاه كل الرأفة والحنان.. وتركه يحظى بكل ما يتمناه، ويريده ويشتهيه..
وارتاحت ((ثريا)) في بيت عمِّها.. وهي تلمس بمشاعرها وعواطفها.. ألوان الراحة والطمأنينة.. لم يخدش هذه المشاعر المتآلفة سوى مشهد واحد لا تريد أن تكرر النظرة إليه حتى لا يرتسم في ذهنها أبداً..
كانت لا تطيق أن ترى ((شاكر)) ابن عمِّها.. وحيد والده - في عدة حركات من تصرفاته التي يعيدها كل يوم..! حركات صبيانية.. لا تستسيغها.. وهي في مرحلة تصغره بسنوات!!
كان يبدو سمجاً.. ثقيل المزاح - عشوائياً في خطواته التي يقوم بها.. أبله في كثير من المناسبات.. وقد ورثه حب والده الكبير المستطيل عادات لا يقبلها مجتمع الناس.. تتمثل أتفهها في طريقة الحديث.. وحجم الكلمة التي يتفوَّه بها..
وقد أحست ((ثريا)) أن ((شاكر)) لا يكنُّ لها العطف والحنان.. بحادثة صغيرة رأتها وسمعت حوارها.. في يوم مبلَّل بدموعها.. عندما أرادت أن تذهب إلى حفلة عرس كبرى.. تشيع بها في صدرها وحول قلبها طاقة من البهجة التي تبحث عنها بسنواتها الأربع عشرة.. فتقدمت إلى عمِّها تطلب فستاناً تظهر به أمام النساء.. مثيلاتها في العمر.. وفي تلك اللحظة رأت ((شاكر)) يقول لأبيه:
ـ اتركها.. لا تشتري لها أية قطعة من القماش.. فإن ما لديها يكفيها.. ولا يؤخرها عن الذهاب إلى العرس..
وغضبت واحتقنت وجنتاها بالدماء.. وجالت الدموع في عينيها.. ثم تركت المكان.. تملؤه إرادة ابن عمِّها ورأيه..
لقد أحست يومها.. بمشاعر (شاكر) نحوها واتسعت في ذهنها صورة.. صورة الإنسان الذي يكره ولا يحب.. السخيف الذي لا يملك ذرات من الحكمة والتعقل، صلد العاطفة - كالحجر - وكأنها لقيطة لا تجمعهما أواصر الدم.. والقربى، وحادثات الأيام.
وتعاقبت الأيام في شريط ممتد.. يعرض مشاهد مؤثرة باكية ولحظات سعيدة باسمة..
ونضجت (ثريا) بأعوامها السبعة عشر.. وتفجرت الأنوثة في جسدها الرقيق.. وشاع الجمال الهادئ في قسمات وجهها..
استطاعت رموش عينيها أن تغطي الاتساع فيهما.. وتتسرب من خلالها نظرات برّاقة تعبِّر دون كلام أو حديث..
واكتنزت الشفتان قليلاً.. تصوغ حروفاً هي الهمس.. والنجوى!..
وأسدلت خصلات الشعر الأسود.. في هدوء الليل.. تحوط العنق المتطاول في دلال..!!
وطال (شاكر) بسنواته العشرين.. لم تتغير في انطباعاته أية لمحة منها، وترك الدراسة.. وهو يثبت لأبيه أن التجارة ستعطيهم المكاسب وتصنع التحول في حياتهم..
وفي ضوء هذه الفكرة التي أصرَّ عليها.. رضخ والده لهذه الإرادة وأعطاه المبلغ الكبير الذي يفتتح به عهده التجاري.. (يتمرجل!).. ويخلق مستقبله بيديه..
وافتتح شاكر أول متجر له.. يديره كيفما يريد.. وبالطريقة التي تحلو له..
* * *
وتعفرت سنوات الشيخ الكبير.. والد ((شاكر)).. بعد أن أضناه الكفاح الطويل.. وهدَّته التجارب الكثيرة التي مرت بحياته.. حتى بلغت به السنوات السادسة والخمسين..
وتلفَّت حوله.. يشمل بنظرة واحدة ثاقبة كل ما مر به من أحداث وتجارب. وحدَّق أمامه طويلاً.. يستطلع الأيام - ماذا تخبئ في طياتها من مجهول؟
متى تحين النهاية؟..
ما لون الأيام التي سيمرُّ عليها ابنه.. وهل تحمل السعادة أم المتاعب؟..
كيف تستقر هذه الفتاة النضرة - في أوج شبابها.. ومن يتولى منح الحب والعاطفة لها من بعده!؟..
وعصفت به دوامة هائلة من التفكير.. والتأملات المتواصلة.. ثم أفاق من تأملاته.. استيقظ على آخر فكرة وجد فيها الاطمئنان على مستقبل الفتاة والشاب.
وأخذ يحدَّث نفسه:
لماذا لا أجمعهما معاً؟.. أليست ابنة عمه حليلة له؟.. قد يكون بينهما شيء من التنافر بأسباب صرامة الشباب.. ولكن ((شاكر)) مصيب على حق.. فهذه هي معاملة الرجل لامرأة تصغره.. كذا تعلَّم من أبيه: والأيام التي تجمعهما في عش الزوجية.. كفيلة بإذابة هذه الحدود التي تقف فاصلاً بين اتفاقهما..
وابتهجت أسارير الأب.. وقد استيقظ على هذه الفكرة التي وجد فيها الاطمئنان على مستقبل فتى وفتاة.. يحافظ عليهما كما يحافظ على نقطة السواد داخل عينيه..
وقرَّب ابنه منه.. يسرُّ إليه بما أراده أن يكون.. وازداد الابتهاج في أساريره عندما كسب تأييد الابن..
واحتضن ((ثريا)) إلى صدره.. وهو يخبرها بآخر أمله، ولكنه لمح أطيافاً حزينة تحتل قسمات وجهها المشرق..
وأذهلته المفاجأة.. وقال لها:
ألا ترضين بشاكر؟ إنه ابن عمِّك وهو أولى بك.. ثم إنه كبر وأصبح يقدِّرك كزوجة تشاركينه حياته؟!
وابتلعت الغصة في حلقها وأجابت:
ولكني أحب أن يكون لي أخ يسأل عني دائماً.. وألتجئ إليه - بعدك - في صروف الأيام والليالي..
قال لها: أنت صغيرة - لم تعرفي بعد ما هي الأيام والليالي.. وأنا أب لك.. أعطيت لك سعادة الأيام وحلاوتها وأعرف مصالحك.. وكيف أدفعك في وجه المستقبل.. اسمعي كلامي ولا تخذليني؟ وأطرقت.. والغصة تمتد في حلقها، ولم تجب.
* * *
وتناثرت الأضواء الكثيرة على واجهة البيت الكبير.. في توزيع أنيق.. أحالت المنعطف الضيق - الذي كان يعيش في ظلام دامس كل ليلة - إلى نهار ساطع يفضح حتى زواياه!..
وامتلأت الساحة الصغيرة بزرافات لا تحصى من الذين قدموا يشاركون في إحياء هذا الفرح.. فبدا المنعطف - المائج بمن فيه - نموذجاً لقاعات الاستقبال الكبرى التي تقام في المناسبات!
وعلى كراسي الشريط التي كسيت بالوسائد والفرش الوثيرة.. تجمعت حلقات من الناس المبتهجين يقتلون هذا الليل الطويل بمختلف الأحاديث.. ومختلف الألعاب.. وسط ضحكات صاخبة تصعد ثم تختفي.. لتضيع مع الأضواء الكثيرة المتناثرة!..
وانطلقت الزغاريد تضجُّ في سائر أنحاء البيت في ابتهاج.. مع أصوات الدفوف الرتيبة الإيقاع..
إنها ((الزفة)) بدأت من أول درجة في البيت.. والعريس يسير بخطوات بطيئة، وحوله شفاه تبتسم، وتنفرج عن ضحكات.. وخفت الزغاريد وهي تذوب رويداً رويداً في أصوات الدفوف.. والعريس يواصل خطواته الثقيلة.. ويسمع بأذنيه أصوات النساء.. وهن يبدين الملاحظات..
ـ إنه لم يتخطَّ العشرين من العمر.. طائش النظرات في عينيه ((بحلقة)) المراهقين!
ـ جسده نحيل.. كأنه عمود يافطة..
ـ وجهه عليه مسحة من وسامة ظاهرة..
ـ صلاة النبي.. والله شباب.. ربنا يحفظه لشبابه.
ويصل الغرفة التي تنتظره فيها العروس.. وتتركز نظراته على وجهها - بعد أن رفع الغطاء الشفاف عنه.
ومرت اللحظات بطيئة.. ثم وقف.. وخطا على الوراء حتى وصل باب الغرفة وانطلق يجري إلى مكان الاحتفال!
وانتهت أيام الزفاف..
ودخل شاكر على أبيه في ثبات قائلاً:
ـ سأسافر إلى الظهران ومعي ((ثريا)).. أريد أن أفتتح فرعاً جديداً هناك لمحلي التجاري.
ـ وقال له والده: انتظر.. فلم ينته الشهر على زواجكما.
وأبدى شاكر إصراره.. دون أن تفلح رجاوات والده.
وفي اليوم الثاني اصطحب زوجته الأولى.. الجديدة.. ووصل بها إلى الظهران..
لم يكن معهما أثاث كامل.. ولم يرد شاكر أن يعطي زوجته أكثر مما اقتنع به.. بضعة بسط امتدت على أرض الغرفتين داخل شقة متواضعة.. وفراش للنوم.
وانغمس ((شاكر)) في أعماله.. وشغلته التجارة عن بيته.. وتذرعت ((ثريا)) بالصبر.. وعدم الإفصاح عن رغبتها.. كانت تودُّ بهذا التصرف.. أن تعطيه الفرصة.. ليرى الواقع الذي تعيش وسطه.
ولكنه تمادى.. ولم يزد على ما قرره منذ بداية الزواج..
وانطوى عام طويل على زواجهما.. دون أن تبدي ((ثريا)) أية رغبة من رغباتها الكثيرة المكبوتة بين أضلعها.. وفي حنايا صدرها.
وابتدأ عام جديد.. لاحظت معه الزوجة.. أن شاكر لم يعد يطيق الجلوس في البيت.. لم تعد تراه - بجانبها - إلا في أوقات الطعام، ولا يعود إليها إلا في ساعة متأخرة من الليل..
وأطل الاختلاف يمزج حياتهما بالخصام.. والتنافر - مرة أخرى - وتطوَّر الخصام والاختلاف إلى ضرب.. أصبح يضربها على كل كلمة لا تتفق مع مزاجه وتفكيره.
وأصبحت تتوجع مع كل لطمة من يده على وجهها الصغير. ولا تملك سوى البكاء المفضوح حتى تخف شدة اللطمة عن وجهها..
وماذا تريد أن تفعل.. وهي بعيدة عن أمها.. عن عمِّها الذي قال لها يوماً أنت صغيرة لم تعرفي ما هي الأيام والليالي.. اسمعي كلامي.. ولا تخذليني وتزوجي ابن عمِّك.. الحريص على مستقبلك.. الحافظ لمشاعرك..
إن كلمات عمِّها.. أصبحت كرجع الصدى في بيداء لم تطأها قدم إنسان منذ زمن بعيد!.. لقد كان الشيخ الكبير يظن أن الزواج لابنه الصغير.. الغض في سنوات عمره.. سيحوِّله إلى رجل كبير عاقل.. يعرف وجهته وكلمته.. سيثقل بطيش شبابه وعنجهية أفكاره.. ويحد منها حتى تتلاشى في حياة جديدة كبيرة.. اسمها الرجولة!..
ولكنه تركه بنفس العقلية.. ولون الطيش.. وتركها بين أحضانه يهتصرها حبًّا متى أراد.. ويعتصرها ألماً وشقاء متى غضب.. وما أكثر غضبه..
استيقظ والده أخيراً على فورة الشباب في عضلات ابنه - مثل كل أب يحلم برجولة ابنه.. ومستقبله.. فلا يصبر بل يندفع بابنه وسط تيارات عاصفة.. تهدم بيوتاً وتضع في طريق المستقبل أحجاراً وعقابيل..!
وعمُّها.. والد ((شاكر)) مثل كل أب تجسدت فرحته في قامة ابنه المديدة وفي حمرة الخجل المكسو بالحزن على وجه ((ثريا)) ولم يقدر المستقبل. وكيف تستطيع العشرون عاماً أن تدفع بعجلة ضخمة اسمها الحياة..!؟
ولم تتحمل ((ثريا)) العذاب.. فطلبت.. الانفصال منه.. والعودة إلى أحضان من بقي لها.. أمها..
وأعماه الجنون في عاصفة الغضب.. وهو يسمع من فم ((ثريا)) كلمة ((أمي)).. وأخرج من جيبه ورقة صفراء قديمة.. ورماها في وجهها؟!!
وتطلعت (ثريا) إلى سطور الورقة بعجل.. ثم أجهشت بالبكاء المجروح.. وصرخت من أعماقها: أمي.. أمي.. ماتت. حبيبتي..!
ووسط العويل تجسَّد الغضب في وجه (شاكر) وارتعش جسده بحمى مجنونة وصاح في وجهها.. اذهبي.. أنت طالق..
وسكنت العاصفة.. بعد أن شردت الدموع من عيني (ثريا).. وانخفض رأسها إلى الأرض.. وهو يحمل وجه امرأة متهمة قذفت بها الكوارث إلى ما بعد الستين من العمر..!!
وتراخت أعصاب (شاكر) وهو يجرُّ قدميه إلى المطار يحجز مقعداً (لثريا).. لتعود إلى عمِّها في هذه الصورة..
* * *
ومرت شهور ستة ((وثريا)) تعيش في بيت عمِّها.. ترقب عن كثب الزفرات الحرى التي يطلقها عمِّها.. كلما تذكر ((شاكر)).. وتصرفاتها نحوها.. وتسمع عبارات الندم تتلصص من فم الشيخ الكبير.. إلى سمعها..
وتمرُّ الشهور وتصل رسالة..
ويفضُّ الوالد الرسالة الثقيلة.. ويجدها مثقلة بعبارات الأسف والحزن.. إن ((شاكر)) يريد ((ثريا)) تعود إليه بأية طريقة؟!..
وبحركة بطيئة.. بطيئة قذفت أصابعه بالرسالة ممزقة إلى الأرض دون أن يعيد النظر إليها مرة أخرى..
ويتوالى النقر على باب البيت الذي تسكنه ((ثريا)).. يتقدمون إلى عمِّها بطلب الزواج منها.. وفي كل مرة يرفض الشيخ الذي عرف معنى الليالي والأيام!.
يريد أن يختار لها رجلاً تشعُّ من نظراته عاطفة الحب الكبير (لثريا).. يبحث لها عن حب يعوِّضها الأيام التي انتهت.. وكيف يجد الحب في نظرات الذين يريدون ((ثريا)) وهم لا يعرفون لونها ولا يعرفون صورة وجهها إلا بالوصف (الحريمي).. من وراء حجاب؟! كل الرصيد الذي دفع الناس إلى طلب الزواج من (ثريا).. ينحصر في أقاويل النساء ونعوتهن.
وفي وسط الأحاديث الكثيرة عن (ثريا) وجمالها.. وصبرها على المكاره.. تقدَّم (حسين صبري) إلى عمِّها.. يرجوه أن يزوجها له..
ونظر الشيخ مرة أخرى في وجه (حسين صبري) الذي يسكن أمامهم سنوات طويلة.. لم يقابلهم بمكروه ولم يعاملهم بسوء أدب.
وحدَّث الشيخ نفسه قائلاً: حسين صبري.. رجل متزن.. في الثلاثين من عمره.. يعرف كيف يحتفظ بحنان ((ثريا)) وكيف ينمّي حبها له في أعماق قلبها.. وهو ثري يعيش فوق المتوسط!؟ وهو يرجوني؟!..
ولكن.. هو متزوج.. أيضاً وله بنتان وولد صغير.. وهذه أيضاً لا تقلق كثيراً.. ما دام أنه سيضع ((ثريا)) موضع التقدير.. ويفتح لها بيتاً خاصاً.. ومشاعر خاصة.. في قلبه.. لا.. لا مانع ((حسين صبري)) ((لقطة)) رجل طيب..
وانطلقت الزغاريد مرة ثانية في البيت الكبير.. تخنق الخفقات الرتيبة.. التي تتصاعد من قلبها..
إنها امرأة لا حول لها ولا طول.. لا تعرف معنى الأيام والليالي.. وأين طريق مستقبلها.. عمُّها يبحث لها عن السعادة والطمأنينة وبهذا القرار زفَّت ((ثريا)) إلى حسين صبري.. لم تشرع عينيها في وجهه ولم تحاول أن تعرف اللون الذي اصطبغ به ذلك الوجه..
وأعطاها الرجل من قلبه.. الكثير من الحب.. والاهتمام.. وأغدق عليها ما جعل بيتها (معرضاً) للمشاهدة والإعجاب.. بأثاثه وتنسيقه..
وبأمر الحب..
بحتمية العاطفة التي تبدو ملتهبة في البداية.. بدأ قلب ((ثريا)) يحسُّ بخفقة غريبة.. تعصف به بين فترة وأخرى..
وتساءلت مع نفسها: هل يمكن أن يكون الحب محدداً بالتوقيت.. ساعة.. ودقيقة.. ولحظة.. حتى إذا انتهى التوقيت.. تحوَّل معنى الحب إلى مفهوم آخر..!؟
هل يرضخ الحب لتوقيت زمني.. أم أنه لا يقيم حدوداً للزمن.. والناس.. والظروف؟!.. هل يكون الحب في مفهوم الناس.. سنة من عمر.. أو شهوراً من سنة.. أو أياماً من شهور.. وينتهي ما بدأ كوقد اللظى؟!..
إذا كان هذا صحيحاً.. فإن الناس لا يحبون ولكنهم يشتهون.. وتموت قلوبهم في تيار الشهوة.. وهذا يعني أن الشهوة تندسُّ في كلمات الحب.. وفي لمساته.. وتنساب مع آهاته.. حتى إذا فقدت انتهت..
وأنهك التساؤل تفكير ((ثريا)) وأحبت القراءة.. تقرأ كل شيء..
كانت تقرأ في الساعات التي يتغيب فيها زوجها - وما أكثرها! - وامتدت ساعات الغياب إلى شهور.. أطلق عليها ((حسين صبري)).. شهور الرحلات..!!
والشهور كفيلة بإيضاح الحقيقة التي كانت تتوارى وراء ابتسامة ((حسين)) في خبث ودهاء..
وعلمت ((ثريا))..
وصعقها الخبر.. وهي تسمع نبأ زواج حسين من فتاة لبنانية. في الخامسة عشرة من عمرها..
لم تستطع أن تقوم بعد أن أثقلت عليها النوازل بحملها الثقيل.. واكتشفت الحقيقة الثانية..
لقد أصاب (ثريا) الشلل!!..
و.. بتثاقل..
زحفت يدها اليمنى واجترت المرآة الصغيرة الموضوعة بجانب السرير.. وتشبثت أصابع اليد بأطراف المرآة.. كأنها تتشبث بطفل اغتصب منها.. وطفرت دمعتان حراوان من مآقيها، وهي مستلقية على سريرها لا تستطيع حراكاً..
وارتفع الجفنان.. يفسحان لنظرات العين الحائرة التي انطلقت تتمسح بأثاث المكان.. تستعيد الماضي الآفل بدون رجوع وتتذكر بسمات الشباب.. وقصة الأمس الذي ولى.. وخلف حطام امرأة تشارف على النهاية.. وترى حياتها على صفحة المرآة..!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1551  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 8 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

محمد عبد الصمد فدا

[سابق عصره: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج