الاثنينية ::المكتبة

مكتبة الاثنينية

حضري بدوي

ـ وكثيراً ما تكون المصادفة حافزاً حين تحدد فكرة أو تدعو إلى إبراز هذه الفكرة، فالمصادفة هي أني فتحت المذياع بحركة لا إرادية قتلاً للفراغ وطرداً لأحلام اليقظة، فقد كنت أنتظر الغداء. وما أشق الانتظار على معدة جائعة، وإذا الحديث أو البرنامج أوراق مسافر. وسمعت كلمة ((الدوادمي)) وأقسم إني لا أكذب، فحين أسمع كلاماً عن أي قطعة من ترابي.. من وطني.. أفتح أذني أسمع الحديث عن ((الدوادمي)) لم أعرف اسم المتحدث، ولكن لهجته رسمته أمامي كانت اللهجة حضرية، أو قل هي مكية مدنية، ولكن الموضوع كان فيه عشق البداوة.. الغرام بالأرض.

تكلم عن ((الدوادمي)) عالم يعرف طبقات الأرض، يتغزل بالأحجار السوداء، وما كاد يتم الحديث عن ((الدوادمي)) حتى انتقل بسرعة لاهثة كأنما هو يتلهف مسرعاً إلى ((القصيم)) وإلى ((بريدة)) بالذات.

كان حديثه علم العاشق، وعشق العالم، عن النبات والتربة والأحجار. أفاض وأجاد حين أثنى على أهله العربيين السعوديين، قبليين وحضريين، كيف أكرموه، وإذا هو في ((تبوك)) غزلاً شاكراً لأميرها، وعاشقاً لتربتها، كأنما طبقات الأرض من علم ((الجيولوجيا)) قد أصبحت تتطابق مع عشقه أو هي طبقة جديدة من حجب الأرض.

وأنصت أسمع حريصاً على أن أعرف من هو حتى إذا انتهى البرنامج أعلنوا اسمه.. عالماً جيولوجياً في إحدى كليات الجامعة في المدينة المنورة، وإذا هو ابنها ومن عائلاتها المعروفة، اسمه منير صدقة خاشقجي.

وما أنكرت على هذا العالم الحضري أن يكون بدوياً فالمدينة المنورة وفي خارج السور بالذات بدوية، فهي عاصمة كل القبائل من اليوم الأول لها. كذلك كل القبائل قد أحاطت بها، حتى كانت الهجرة إليها يوم هاجر النبي سيدنا محمد صلى الله عايه و سلم .

أفقه التاريخ من ذلك أن وجود القبائل حولها كانت من أسباب النصر. فليس هناك بلد جمعت حولها قبائل العرب أكثر من المدينة المنورة. فلا عجب أن يكون ابنها بدوياً.

وحين عيرونا بأن دار الأيتام لا تضم إلا بدواً، قلنا وأمام عبد الله السليمان وطلعت حرب باشا أمام الشيخ عبد الله بن بليهيد والأمير عبد العزيز بن إبراهيم أن دار الأيتام لتفخر بأنها تعلم البدو. فالبدوي هو الجندي. لا هو الفلاح.. هو ابنها من اليوم الذي رفع فيه إبراهيم القواعد من البيت.

تحية لمنير على ما بدا منه حين تبدى، حضرياً غير آبد.