من غرينادا إلى لبنان |
ـ قبل أن أبدأ بهذا الحوار مع العم ((سام)) لا بد أن أطرح مقدمة، عن حديث بين فتى عربي سعودي وبين فتى أمريكي من ولاية أوكلاهوما. كان الفتى السعودي طالباً في الجامعة، وما أحلى الجامعات الأمريكية في القرى، في الريف. خرج من درسه يذهب إلى سكنه، حتى إذا وصل إلى السيارة وفتح الباب نظر إلى الخلف قبل أن يدير المحرك فوجد فتى وفتاة يجلسان في المقعد الخلفي لسيارته، يتناجيان، صديق وصديقة. فرجع الفتى السعودي إلى الوراء يعتذر لهما لأنه عكر عليهما صفو المناجاة. فإذا الفتى الأمريكي يكبر ذلك ينزل من السيارة يصافح الفتى السعودي بحرارة وتحية. |
فقال الفتى السعودي: أنا آسف، ما كنت أظنكما داخل السيارة. |
فقال الفتى الأمريكي: إنها كانت تستعجل الذهاب إلى قريتها ((بانكا)). إذا سمحت تأخذنا إلى قريتها. |
وأوصلهما الفتى السعودي إلى القرية وعاد معه الفتى الأمريكي، فأصبح كل منهما صديقاً للآخر. وكان الفتى الأمريكي قد نشأه أبوه ((إسبرطياً))، علمه كل أنواع الرياضة، حتى إنه في مرة وقد رحل إلى البرازيل ونزل يسبح في ((الأمازون)) لم يشعر إلا وحنش قد طوقه، فإذا الأسبرطية فيه جعلته يحمل خنجراً يحتزم به، لا يتركه وهو في النهر، فسحب الخنجر، وقطع الحنش ينفك منه. |
ودعيت لزيارة الولايات المتحدة أبان الأزمتين، الحرب اليمنية والصواريخ في كوبا عهد الرئيس كينيدي. فلم أشعر، وكان ذلك في أول أكتوبر عام 1962، إلا والفتى الأمريكي يدعونا إلى العشاء باسم والديه. كان ذلك يوم احتفالهم بذكرى يوم الشكر، وهم يسمونه عيداً. وذهبنا إلى قرية الأسرة الأمريكية على بعد 30 كلم من قرية الجامعة ((تانكا)). وجلسنا على مائدة العشاء، وقد كان العشاء ثريداً عليه ديك رومي، فابتسمت وقلت: هذا طعام الحواريين، أعارته لكم فلسطين فالثريد عربي. وجاء ذكر المسيح عليه السلام فأوضحت عقيدة الإِسلام في عيسى بن مريم، فأكبر الأب الأمريكي ذلك الحديث عن المسيح وقال: ما كنا نعرف ذلك. |
والأب من المحاربين القدامى، ما زالت عليه سمة رعاة البقر، أولئك الذين بنوا الولايات المتحدة، وإذا هو يتحدث بمرارة عن فلسطين. |
قال: إن الشعب الأمريكي لا ينسى أحداثاً ثلاثة.. حريق شيكاغو، وزلزال سان فرانسيسكو وخسارة ترومان في ((المني فاتورة)) أي تجارة القماش، أي إنه كان بزازاً. |
قلت: لماذا لا تنسون خسارة ترومان؟ |
ـ قال لو لم يخسر لما اشترته إسرائيل، تستقطبه، يطيح بالعلاقات العربية إلى الوراء من أجل اليهود. |
وأردنا الرجوع إلى بيتنا، فإذا هو ينتصب رجلاً طوالاً، ولبس مسدسين، وأخذنا إلى السيارة يسوقها. |
قلت لماذا أنت، ألا يكفي ابنك؟ |
فقال: أريد أن تصلوا بأمان. |
وتزيا بالقبعة العالية والياقة المنشاة. |
إن هذه صورة في هذا الحديث الصغير قد تجسدت أمامي في صورة العرب جميعاً وفي معاملتهم للولايات المتحدة. وأنهم كالفتى السعودي مارسوا مع الولايات المتحدة خلق الجنتلمان، فتوطدت على هذا الخلق صداقة، لكن الولايات المتحدة في كل ما مارسته من سياسة بعد الحرب العالمية الثانية قد أجحفت بصداقة العرب، فألقت بعضهم في أحضان الاتحاد السوفياتي. والسبب أن الفتاة أمريكا كانت الصديق والعشيق للفتى اليهودي، يصرفها عن الوفاء للأصدقاء، يكلفها الكثير حتى جرعها سقوط الهيبة. لقد كانت الفتاة أمريكا ((ماشوسية)) وكان الفتى اليهودي سادياً يسلط عليها العذاب، يسلب كل شيء منها وهي راضية، بينما هي في الوقت نفسه تنقلب إلى سادية مع العرب. فإذا تلك الازدواجية تتعرض بها أمريكا إلى أكثر من خسارة. |
ولنضرب مثلاً آخر هو ما يعنيه العنوان ((من غرينادا إلى لبنان)). |
إن القفزة الأمريكية على غرينادا ((غرناطة)) قد انتصرت بها، وهزم الاتحاد السوفياتي. ولكن الاتحاد السوفياتي لا يستعجل العقاب، فقد ابتلع الهزيمة، أخليت غرينادا من كل أصدقائه. |
ودعا الفتى اليهودي الفتاة أمريكا إلى أن تمارس غزواً جديداً ينتصر به اليهود على صورة تمثلت في حشد من القوة من البوارج ومشاة البحرية، والرديف من حلفاء أمريكا تحت اسم ((القوات متعددة الجنسيات)). فإذا هي ورطة هزت الشعب الأمريكي، فلبنان وقد احتلت إسرائيل جزءاً كبيراً منه أصبح بين احتلالين، احتلال إسرائيل والاحتلال المقنع لهذه القوات. |
واتضح القصد، فلم يكن جلاء إسرائيل عن لبنان، وإنما كان القصد والهدف كما - أذاعوا - إعلان الحرب المقنعة على نفوذ الاتحاد السوفياتي في سوريا، ولكن سوريا لم ترضخ، أوضحت لهذه القوات ولأمريكا بالذات أنها تستطيع المقاومة، كما أوضحت طوائف لبنانية ترفض الاحتلال أنها قد استطاعت المقاومة، فأحرجت الولايات المتحدة حتى اضطرت إلى الانسحاب. |
ومن هنا يتضح أن الاتحاد السوفياتي قد انتقم لاحتلال غرينادا، فسوريا غير غرينادا. |
إن الولايات المتحدة كان في إمكانها أن تحدث الهزيمة للاتحاد السوفياتي، وأن تأخذ من سوريا صداقة جيدة، لو أنها حين دخلت لبنان ضغطت على إسرائيل لتنسحب من كل لبنان، ولكنها لم تفعل. ذلك لأن الفتى اليهودي مازال سادياً. ولو أن الولايات المتحدة لم تظهر بمظهر المدافع عن فئة واحدة في لبنان لاستطاعت أن ترى الوحدة اللبنانية حين تكون الولايات المتحدة نصيراً للبنانيين جميعاً. ولكن الولايات المتحدة ما زالت تعيد موقفها في أواخر الخمسينات مع بيروت الشرقية ضد بيروت الغربية، مع من ينتمون إلى بيروت الشرقية في الجبل ضد الذين ينتمون إلى بيروت الغربية من سكان الجبل. |
وبدأت القوات متعددة الجنسيات تنسحب من لبنان، وتركت إسرائيل تحتل لبنان، وتركت الإنشقاق في لبنان، فصح اتهام رئيس جمهورية إيطاليا أن كل ما فعلته أمريكا هو العون لإسرائيل. |
إن ما جرى لا أقول إنه قلب الموازين، وإنما قد اعتدل به الميزان. ومن المؤسف حقاً أن الولايات المتحدة هي التي تعطي للاتحاد السوفياتي موطئ قدم. |
والخشية كل الخشية إذا ما استمر الموقف الأمريكي يرضخ لما يفعله الفتى السادي. فإن بعض العرب قد يغريهم موقف الاتحاد السوفياتي بالإطاحة بكل ما بينهم وبين الولايات المتحدة من علاقات. |
إن ما حدث، وقتي، فلازال الزمن مع الولايات المتحدة إذا ما اعتدلت وسمعت الصوت الإنساني، ليس في آسيا وأفريقيا، وإنما في أوروبا الغربية أيضاً، يدعو الولايات المتحدة أن لا يفوتها بعوامل الوقت انتصارها في الزمن حين تلزم إسرائيل بالانسحاب من لبنان، وبالخضوع إلى المفاوضات. فالولايات المتحدة ملزمة بنزعة الديمقراطية بتنفيذ قرارات مجلس الأمن. |
ولا يفوتني أن أضع هذه الإحماضة. فقد قالوا إن فرنسا أرادت أن تمارس دور الأم الحنون كما هو شأنها من قبل. وإيطاليا أرادت أن ترضى الفاتيكان يحن إلى حماية رعاياها. أما بريطانيا فالطاعة لأمريكا. وأما أمريكا فالخضوع لنزعة السادية وطاعة الماشوسية. |
|