شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
كلمة الناشر
مهما عصفت رياح الصمت فإنها لن تتمكن من إطفاء جذوة كلماته المتفردة، فلأستاذنا أسلوبه الخاص الذي دمغ به الأيام، تناقلته الألسن ودارت به المطابع، إنه من الرجال الذين يضن بهم الزمان حتى تحسبهم ممن قال فيهم عبد الرحمن الكواكبي (ما بال هذا الزمان يضن علينا برجال يعلمون الناس، ويزيلون الالتباس).. إنه شيخنا وأديبنا الكبير، الغائب الحاضر، الأستاذ محمد حسين زيدان ((رحمه الله))، أستاذ الأجيال الذي تخرج على يديه من نعدهم بكل إعزاز واعتزاز أساتذة ورواداً نفخر بعطائهم، ومنهم على سبيل المثال الأستاذ الأديب السيد عبد الله الجفري، الذي يضع أستاذنا الزيدان في قمة لا تدانيها قمم بتسميته ((والده الروحي))، وبطبيعة الحال فإن مكانة الأستاذ، الذي هو بمثابة الوالد والمربي والموجه لبعض تلاميذه، تحلق عالياً فوق ذرى الإبداع التي أنسناها من الأستاذ السيد الجفري وهو الذي أثرى ساحتنا الثقافية والأدبية بعطائه الكبير وإسهامه المشكور في النهضة الأدبية والصحافية التي تجاوزت حدود الوطن لتمتد عن جدارة إلى كثير من الدول العربية فتكون له الصدارة على مستوى الخليج العربي ومنارات الإشعاع في بعض العواصم العربية.. ومن تلامذته الذين يشار إليهم بالبنان الأديب والكاتب المعروف الأستاذ عبد الله الماجد الذي يصف أستاذنا الكبير بـ ((شيخي وشيخ الكتاب في عصرنا))، وبهذه الخصوصية في العلاقة بين الأستاذ ومحبيه والتي يفخر كثير منهم بأنها تصل إلى مصاف الألق التربوي والعاطفي الذي يربط بين الوالد وأبنائه، فعندما قال للأستاذ عبد الله الماجد من خلال حوار دار بينهما ((يا ولدي)) لم تمر العبارة مرور الكرام عند تلميذه النجيب، بل حفرت أخدوداً عميقاً في ذاته فتمترس خلفها ليشير إلى ((هذا النحو النادر المتأطر بهذه الخصوصية العذبة، كنت محظوظاً بهذه البنوة حيث كنت أبحر في أعماق هذا البحر ألامس صدفاته، وأفتحها واحتوي داناته المتلألئة، وأعود إلى شاطئه فأستريح على ثرائه)).
ثم نظر الأستاذ السيد الجفري إلى مكوّنات شخصية أستاذه، ووالده الروحي، فصنَّف عنه كتاباً بعنوان ((الزيدان.. زوربا القرن العشرين)) من إصدارات مؤسسة عكاظ للصحافة والنشر محرم 1413هـ يوليو 1992م.. إن هذا الانتقاء الحصيف لعنوان الكتاب لم يأت من فراغ.. فقد نبع من عمق إدراك الكاتب الفذ لشخصية الأستاذ المعلم الذي تتماهى شخصيته مع ((زوربا)) (العجوز، العميق، الفياض بالحيوية).. ما أجمل الصورة القلمية التي لا تحفل باللحظات بل تمتد حزمة ضوء أبدية نحو اللانهاية فتعبر المدى ليعزف التلميذ الوفي لحن أستاذه.. ذلك هو الزيدان الذي (كانت مودته للكلمة.. هي: وله يسمو بالمعاني في نفسه.. فلا يجعل الملل ينتصر على وقته.. ولا يجعل الغرض يهزم معانيه إن ولهه بالكلمة: عطاء جزل لحياته على إمتدادها.. لتطلعاته، فقد بقي - في شيخوخته - شاباً بروحه، وبعزيمته، وبفكرته، وبرؤيته للغد.. يكتسح خريف العمر بالحبِّ).
إن سنابل العطاء التي نبتت من وجدان الزيدان لم تقتصر على كلماته ((المجنحة)) التي أصبحت تومئ إليه وتصرح باسمه وإن لم يُذكر، فهو صاحب مدرسة في الكتابة الأدبية والصحفية قل نظيرها في تاريخنا الأدبي المعاصر، لقد أثرى المكتبة العربية بمجموعة من الأعمال القيّمة التي أشرف بوضعها بين يدي القارئ الكريم ضمن هذه المجموعة الكاملة، وفي إطار الاحتفاء باختيار مكة المكرمة عاصمة للثقافة الإسلامية، ومع عدد من الإصدارات التي سبق أن ساهم مبدعوها في كتاب ((وحي الصحراء)) الذي نشره والدي وصديق عمره معالي الشيخ عبد الله بلخير (رحمهما الله)، وإن كان أستاذنا الزيدان لم يكن ضمن كتاب ((وحي الصحراء)) إلا أنه عاصر تلك المرحلة بوعي وإدراك لما تمخضت عنه، وواكب إرهاصات التطور الثقافي والإبداعي الذي ننعم بثماره على مختلف المستويات.. وله مع والدي ((رحمه الله)) صداقة حميمة ومواقف نبل وإخاء وسمت علاقات ذلك الزمن النقي.
لم يكن أستاذنا الزيدان ((رحمه الله)) أديباً فحسب، بل كان أقرب إلى الفيلسوف والحكيم والمفكر الذي يعمل فكره الثاقب في كل فكرة يصوغ منها موضوعاً ذا دلالات تمس صميم الحياة وتتفاعل مع واقع الحال سواء داخل أو خارج الوطن، فهو مثقف أصيل يسعى باستمرار إلى تقليب كل خبر والقراءة بين السطور وفوقها وتحتها وربط الأحداث وتجارب الماضي واستشراف المستقبل ليقول في النهاية كلمته مدعمة بكثير من الحجج والبراهين مما يجعل خطابه وكتاباته نوعاً من التاريخ الأمين والتحليل المنطقي العميق، ويصوغ كل ذلك في قالب أدبي مميز ولغة رصينة يتخير مفرداتها ومعانيها بدقة متناهية، حتى تحسبه يزن الحروف والكلمات بميزان يعدل إن لم يفق معيارياً ميزان الذهب والأحجار الكريمة.
لقد كان أديبنا الكبير موسوعياً في علمه وسعة أفقه وتنوع مصادره، فهو ضليع في الأنساب ومعرفة القبائل ومضاربها قديماً وحديثاً - وإن كان لا يميل إلى التوسع في هذا الجانب - كما إنه خبير في علم الفلك، راسخ القدم في دراسات الشعر العربي قديمة وحديثه، عالم ببواطن التاريخ الإسلامي والغربي، مطلع على كل ما يستجد من أحداث سياسية في كل أصقاع العالم، وله موهبة نادرة في تحليلها وربطها بمختلف القضايا التي تثار في أكثر من نقطة ساخنة حول العالم، ويبدي رأيه بكل جرأة في كثير من القضايا الخلافية ولكن بعد أن يدعمه بأفكار لمّاحة، وذكاء حاد، وقالب لغوي أنيق.
وهو مع كل ألقه ومكانته السامقة في قلوب محبيه ذو تواضع جم، سئل ذات لقاء صحفي أن يعرِّف نفسه فقال: ((طالب معرفة يحب كل الناس، ولا يكره أحداً.. وما نام ليلة وهو حاقد على أحد)).. بهذه الروح الشفافة شق أستاذنا الكبير ((رحمه الله)) طريقه بين الناس، كان الحب ديدنه وبوصلته التي يتواصل من خلالها مع من حوله، سعى لخدمة من يعرف ومن لا يعرف، وضن بخطه الجميل حتى على كتابة مقالاته الممتلئة بمقومات الإبداع، ولكن لم يضن به قط عن كتابة توصية أثر أخرى لمساعدة من يتوسمون فيه الخير، وكثيراً ما تكبد المشاق حتى أثناء توعكه ليتابع بنفسه مصالح بعض من يلقون بثقل همومهم على ساحته، فغرس من الحب ما أزهر وأينع وحصده إبان مسيرة حياته وعند وداعه في مثواه الأخير.
كان ((رحمه الله)) من أعمدة أمسيات ((الاثنينية)).. وكان من أوائل من شرفت بتكريمه بتاريخ 15/5/1403هـ الموافق 28/2/1983م.. ثم تكريمه مع معالي الشيخ عبد الله بلخير في أمسية تداولا خلالها تداعيات الغزو الفكري بتاريخ 14/7/1406هـ الموافق 24/3/1986م.. أما الكلمات التي تفضل مشكوراً وساهم بها في تكريم الأساتذة الأفاضل الذين سعدنا بتكريمهم من داخل وخارج المملكة فهي مجال دراسة تستحق أن يُعنى بها وتُترجم إلى عمل يسهم في إضاءة ساحتنا الثقافية.. وتسهيلاً لذلك فقد تم جمعها مع توضيح تواريخها ومناسباتها ضمن هذه الأعمال الكاملة.. لقد كان ((رحمه الله)) حفياً بالاثنينية فكانت وفية له.. محضها الحب وغرس فيها الكثير من أزاهير كلماته المجنحة، فبذلت له مودة وصداقة وإكبار روادها الأفاضل من داخل وخارج المملكة، وإنه لفخر للاثنينية بأجزائها العشرين، أن ثمانيتها الأولى قد ازدهت بحضوره الطاغي، حيث أطلق واحدة من أوائل مجنحاته في تكريم معالي الشيخ عبد الله بلخير (10/4/1403هـ الموافق 24/1/1983م) عندما علق معاليه عن فساد خطه الذي قد لا يساعده على قراءة ما أعده بمناسبة تكريمه، فانبرى أستاذنا الزيدان قائلاً: ((هناك معادلة بين فساد خطه وصلاح حظه، فليفسد الخط وليسعد الحظ)).. فرد معاليه قائلاً: ((أي والله وهذه من كلمات الزيدان التي يشع بها كما تشع الأحجار الكريمة بألوانها وضيائها ـ ....)) وتتوالى كلمات الزيدان بكل زخمها وذكرياتها الخصبة التي يسردها عفو الخاطر من حافظته المبهرة من خلال المجلدات التي أشرت إليها، والواقع أنه لم ينقطع عن تلك المجالس التي أحبها وأحبته إلا في السنتين الأخيرتين حيث اشتد عليه المرض، وزهد في الدنيا إلى أن توفي صباح السبت 29 شوال 1412هـ الموافق 2 مايو 1992م ودفن بمدينة جدة.. وكانت آخر أمسية شارك فيها بمناسبة تكريم معالي الدكتور عبد الله عمر نصيف بتاريخ 4/6/1410هـ الموافق 1/1/1990م، وحملت كلمته ما يشي بما سيكون من انقطاع عن مجلس أحبه حيث قال في أولها: اسم عبد الله نصيف جرني من فراشي، وما جئت إلا متحاملاً على نفسي، لئلا أكون متحاملاً عليه...)) وختمها بقوله ((وأعتذر للذين لم أحضر أمسيات الاحتفال بهم لمرضي، فأنا عجوز وأصبحت طفلاً أحتاج إلى التدليل)).. ثم دلف إلى عزلته التي اختارها بنفسه، مكتئباً ومنطوياً على نفسه، وهي ذات الأعراض التي انتابت كثيراً من المبدعين الأعلام في أواخر سنوات حياتهم أمثال المازني، والدكتور إبراهيم ناجي، وإبراهيم المصري، وغيرهم.
لقد ترك ((رحمه الله)) ثروة من العطاء العلمي والأدبي النادر، أشرف بوضعه في ثوب يناسب مكانته بين يدي القارئ، واجباً وطنياً، وشيئاً من وفاء لأهل الوفاء، سائلاً المولى عزَّ وجلَّ أن ينفع به المسلمين ويجعله في ميزان حسنات أديبنا الكبير تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.
والله الموفق، وهو من وراء القصد..
عبد المقصود محمد سعيد خوجه
جدة 1425هـ - 2004م
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1614  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 3 من 1092
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج