كلمة الناشر |
|
بقلم : عبد المقصود محمد سعيد خوجه |
|
الجوهر، والجوهري، والجواهري، والجوهرجي، كلمات تدل على التفرد والعلو والنفع، وتشير إلى التعامل مع مدلولات هذه المفردات أخذاً وعطاء.. وليس بغريب أن يكون للإنسان نصيب من اسمه، فهذا "الجواهري" شاعر العراق الكبير، قد صاغ من الكلمات صوراً غير مسبوقة، ونظمها قلائد في جيد الزمان تزهو بها الأيام، ورحل إلى دار الخلود لتبقى عوالمه الدنيوية من بعده كومضات برق فوق رياض مخضلة ريانة مترعة بالجمال، مترفة بأريج الخزامي والياسمين. |
وعلى ذات الدرب يسير شاعرنا المكي الكبير محمد إسماعيل جوهرجي، معيناً من العطاء الثر في دنيا الكلمة، يعالج مفرداتها بتفرده الجوهري، تراه يستنطق الكلمة في صوره البديعة وينحت من خلالها أشكالاً من الروائع، وشلالات عطر، ونماذج علوية من الحكمة والتوهج الذي يضيء ما حوله رغم تراكم الظلمات. |
شعره متين.. يغترف من بحر العربية الواسع العميق ما شاء، وينتقي من جواهرها ما أراد، يصقل وينقش كأي محترف يوظف مهاراته الفذة لخدمة أهدافه وجلاء موضوعه بشتى السبل.. قد يغرب في اللفظ حتى تخاله ينسل من خيمة شاعر في العصر الجاهلي.. يأتيك بالتركيبة التي ربما تستغربها للوهلة الأولى، وعندما ترجع البصر كرتين بحثاً عن بديل ينقلب إليك البصر خالي الوفاض لأن شاعرنا قد كان له السبق بمراحل، واضعاً كلمة نادراً ما تتزحزح عن مكانها الذي أراده مبدعها.. وأحسب أنه أحسن صنعاً ببعث كثير من الكلمات التي انحسر تداولها في حياتنا اليومية نظراً للتوجهات الثقافية والعملية والعلمية التي أصبحت تميل إلى قدر كبير من التبسيط بغرض وصول المعرفة إلى أكبر قطاع من المتلقين.. وهو بلا شك هدف نبيل وتوجه محمود، إلا أنه ألقى بظلاله على كثير من المفردات التي توارت عن الأنظار والأفكار بحُجّة أنها من غريب اللغة، أو موغلة في القدم، فلا يجوز التخاطب بها في حياتنا اليومية، ووسائل إعلامنا المقروءة والمسموعة والمرئية، بل إن بعض المنظرين تجرأ بالمطالبة بتدريس ما يطلق عليه اسم الشعر الشعبي في الجامعات، إمعاناً في الانحراف عن جادة اللغة، وصولاً إلى نقطة انطلاق مرحلية نحو هدم جانب مهم في ثقافتنا وهويتنا الحضارية. |
وبجانب هذه اللغة "المعجمية" نجد شاعرنا الكبير يكتب بأهدابه أعذب الشعر الغنائي الرقيق الذي يكاد القارئ يسمع موسيقاه تنبعث من بين السطور.. فهو مفتون بالحب والجمال وسحر الطبيعة، يحدق في الفراشات، ويتفاعل مع العنادل، ويلهو كطفل بريء بين الحقول والجداول.. ثم ينثني راكضاً يحمل بين جوانحه قصيدة نابعة من معاناته وصدق معايشته للحياة والواقع من حوله. |
وبالإضافة إلى ملكته الشعرية - وتفرد حنجرته، فإن أستاذنا عمل جاهداً على تجسير الفجوة التي تتسع يوماً بعد آخر بين قواعد اللغة العربية نحواً وصرفاً من ناحية وطلاب هذا العلم المهم من ناحية أخرى.. فلم يكرس حياته لطلابه من خلال الفصول المدرسية فحسب، بل تجاوز الأسوار حاملاً مشعل العلم ليجعله متاحاً لكل راغب في تحسين تحصيله أو تجنب الوقوع في أخطاء فادحة تسيء إلى الإنسان وهويته قبل أن تسيء إلى اللغة العربية.. فأنجز كتاب "قال الفتى" بأسلوب سهل وعبارات رشيقة متكئاً على تجربته العميقة في تدريس هذه المادة، فجاء كتابه تلخيصاً ميسراً وعملاً نافعاً بإذن الله.. كما أن له في ذات السياق كتابه القيم "الموجز في النحو" الذي استقبلته الأوساط العلمية والثقافية والأدبية بكثير من التقدير والحفاوة. |
أما كتابه الجديد الذي ينشر لأول مرة ضمن أعماله الكاملة، بعنوان "التقطيع العَرَوضي والحَرْفي للمعلقات العشر"، وهو عمل كبير غير مسبوق في شموليته وتقصيه كامل المعلقات العشر، وتقطيعها عروضياً وحرفياً بيتاً بيتاً، مبيناً ما قد يكون في كل بيت من زحافات أو علل. |
والمعروف أن مثل هذه الأعمال النادرة تثير في نفس الإنسان كوامن التحدي والإبداع والبحث عن الجديد من العلوم النافعة، وقد وضع أستاذنا الجوهرجي نفسه وجهاً لوجه أمام تحدٍ ليس باليسير، حيث شرع في تأليف كتاب في النحو بعنوان "الاعرابان" يرمي من خلاله إلى إعراب كل كلمة في القرآن الكريم تحتمل أكثر من إعراب واحد ليبسطها كلها، مبيناً القراء الذين قرأوا بها، وهو بلا شك عمل نادر نأمل أن يرى النور قريباً كإضافة حقيقية لمكتبتنا العربية والإسلامية. |
وكغيره من المبدعين، نجد لشاعرنا الكبير طقوسه الخاصة في الكتابة، فهو يحرص على أن يكتب على ورق أبيض غير مسطر، يدفع به لأحد الورّاقين ليجعله في شكل كتاب، وعندما يبدأ الكتابة يهيئ الجو المناسب لها بحيث تكون الغرفة جيدة التهوية وشديدة الهدوء، فيجلس على الأرض واضعاً كتابه "الأبيض" أمامه، وعن يمينه وشماله وأمامه مختلف المراجع التي قد يحتاجها في بحثه.. ثم ينهمك لساعات طوال في كتابة مستطردة غالباً تكون على فترتين (صباحية ومسائية ) لا تقل إحداهما عن ثلاث ساعات، وعندما يغادر غرفة الكتابة - التي قد تكون في فندق أثناء عطلة صيفية - فإنه يوجه القائمين عليها بعدم المساس بأي شيء فتتم النظافة حول الأوراق والأقلام والكتب، دون تحريك أي غرض من موضعه، حتى لو استمر هذا الوضع شهراً أو أكثر، وأشد ما ينزعج أستاذنا عندما يقوم أحد العاملين (بترتيب) الغرفة عن حسن قصد، ولا يعلم أنه بهذا (التنظيم ) قد أخل بركن مهم من طقوس الإبداع !! |
ومع كل هذا الانضباط و"الفوضى المنظمة" والتعمق في واحد من اصعب علوم العربية، إلا أن أستاذنا الجوهرجي يمتاز بروح مرحة تضرب جذورها في تربة الحجاز ذات التنوع الحضاري والبيئي الذي يربطها بملايين البشر الذين يفدون إليها كل عام حاملين معهم ملامح من ثقافاتهم المتعددة.. وهو صاحب بديهة حاضرة، وذاكرة تصويرية، وتعابير محلقة، فلا يمل الحديث معه في معظم الشؤون التي يتناولها ويدلي فيها بدلوه إذ يتضح لمحدثه أنه قد ضرب بسهم وافر في كل فن وله إضافات تثري الحوار وتسعد المتلقي. |
وهناك ملاحظة لا بد من الإشارة إليها وهي أن شاعرنا الكبير رغم اشتغاله بالتدريس والشعر والتأليف، إلا أنه صاحب محل مجوهرات في أقدم أسواق جدة مختص بالأحجار الكريمة، وله خبرة واسعة في هذا المجال، وأحسب أن هذا النشاط له علاقة وثيقة ببوتقة العطاء التي تصهر إبداعات أستاذنا الجوهرجي، فهو عندما يتعامل مع كلمة أو مفردة تشعر أنه يزنها كجوهرة أو حجر كريم ولا يكون ذلك التشبيه مجازاً لأنه عملياً يتفاعل ويتعامل مع الأحجار الكريمة بكثير من الحب والشفافية والخبرة مما انعكس على تعامله مع مفردات اللغة وأسلوب حياته الاجتماعية والثقافية والفكرية، فجمع أطراف فن الحرفة مع جزالة اللفظ، وطلاوة الكلمة، وظرف أهل الحجاز المعروف، فكان هذا العطاء الطيب الذي نتمنى له المزيد من الاستمرار وأن ينفع الله به الدارسين والباحثين وكافة المسلمين. |
والله من وراء القصد.. وهو الهادي إلى سواء السبيل. |
|
|
عبد المقصود محمد سعيد خوجه |
|
|