شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الشافعي المربي
الشافعي المربي ومنهجه التربوي:
لقد أولع الشافعي بالعلم والتعليم منذ حداثة سنه، وقد مرّ بنا حديث ممارسته لتعليم الصبيان في الكتاب ما كان يتلقفه من المعلم مما جعل المعلم يعتمد عليه في ذلك ويعفيه من الأجرة التي كان يتقاضاها من أمثاله. وروي أنه كان يقرأ الناس في المسجد الحرام وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وكان حسن الصوت يشجي السامعين بقراءته ويبكيهم. وفيما يلي نبذة مقتبسة مما ذكره أبو زهرة عن انصراف الشافعي إلى العلم:
قال: ((منذ نعومة أظفاره اتجه إلى العلم وتوافرت له أسبابه، فقد كانت إقامته بمكة وبها بقية من التابعين، وفيها مدرسة عبد الله بن عباس، الذي اختار جوار البيت الحرام مستقراً له ومقاماً - ذريعة لأن يصل في نشأته الأولى إلى أعلى ما يصل إليه مَنْ هو في مثل سنه.
ولما شدا وترعرع اتجه إلى عالم دار الهجرة فلازمه تسع سنين هي أخصب زمن لإنتاج الشيخ.. وأخصب سن للتلميذ، ولم ينصرف إلى العمل في غير العلم إلا قليلاً، عاد بعده إلى العلم مشغوفاً به مدركاً أن فيه كل الشرف، وأخذ يدرِّس علم القرآن والسنة، واختلاف الفقهاء ويضع الموازين بضبطها وتعرف الحق من بينها، واتخذ مجلس درسه ابتداء في البيت الحرام، حتى إذا امتلأ الوعاء ذهب إلى بغداد، واتخذ فيها كرسياً آخر لدرسه، ثم لما ضاق ببغداد، وتبرم بمناهج علمية لا يرتضيها، يمّم وجهه ناحية مصر الطيبة، التي صارت من بعد مأوى العلماء من الشرق والغرب، عندما ادلهمّت الخطوب بأهل الإسلام، واضطر العلماء إلى الرحلة، حيث الأمن، فلم يجدوه إلا في مصر، وبذلك كانت حياته كلها للعلم بعقل عبقري ولسان بليغ مصور)).
وقد تخرج على الإمام الشافعي في كل من مكة وبغداد ومصر طائفة كبيرة من العلماء الأجلاء الذين حملوا فقهه وعلمه وأدبه.. وساهموا مساهمة جليلة في خدمة مذهبه ونشره في أنحاء العالم الإسلامي.
أما منهجه التربوي، فقد كان الشافعي يدعو إلى ورود مناهل العلم والمعرفة على اختلاف فنونها، منوهاً بقيمة كل علم وأثره وفي ذلك يقول: ((من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن نظر، في الفقه نبل قدره، ومن نظر في اللغة رق طبعه، ومن نظر في الحساب جزل رأيه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه)).
ولقد كان هو نفسه مثالاً فذاً لهذه الثقافة المتعددة النواحي، وكانت دروسه خير مثال لذلك، حدث الربيع بن سليمان المرادي، صاحب الشافعي وراوي كتبه قال: ((كان الشافعي رحمه الله يجلس في حلقة إذا صلى الصبح فيجيئه أهل القرآن، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا ارتفعت الشمس قاموا فاستوت الحلقة للمذاكرة والنظر، فإذا ارتفع الضحى تفرقوا وجاء أهل العربية والعروض والنحو والشعر، فلا يزالون إلى قرب انتصاف النهار، ثم ينصرف. ((رضي الله عنه)) وقال بعض أصحابه: ((ما رأيت مجلساً قط أنبل من مجلس الشافعي، كان يحضره أهل الحديث، وأهل الفقه، وأهل الشعر، وكان يأتيه كبار أهل اللغة والشعر...)).
وقال النووي:((إن الشافعي رحمه الله مكّنه الله تعالى من أنواع العلوم، حتى عجز لديه المناظرون من الطوائف وأصحاب الفنون، واعترف بتبريزه وأذعن الموافقون والمخالفون في المحافل الكثيرة المشهودة، المشتملة على أئمة عصر))..
لقد كان الشافعي مبرزاً في ميدان المناظرات واستطاع أن ينشر من آرائه واجتهاداته ويكسب الأنصار والمؤيدين لمذهبه بفضل ما أوتيه من الفصاحة والبلاغة وقوة البيان، ونفاذ البصيرة، حتى لقد اشتهر بين علماء عصره بناصر السنة، كما لقبه بعضهم بخطيب العلماء. وكثيراً ما كان يلقي الأسئلة على طلابه ويحاورهم لإقناعهم بوجهة نظره، وربما لجأ إلى استثارة المنافسة بينهم بجائزة يسميها لهم شحذاً لهممهم وإذكاءً لنشاطهم... قال الحميدي: ((كان الشافعي ربما يلقي علي وعلى ابنه المسألة فيقول: ((أيكما اصاب فله دينار)).. ومما يدل على فسحه المجال لطلابه للمناقشة والمناظرة ما مر بنا من وصف الربيع لحلقات درس الشافعي حيث قال: ((فإذا ارتفعت الشمس قاموا فاستوت الحلقة للمذاكرة والنظر)).
ولقد أثرت عنه أقوال كثيرة في الحض على طلب العلم والإشادة بفضله، من ذلك قوله:
((من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، وقوله: ((ما تُقُرِّبَ إلى الله بشيء بعد الفرائض أفضل من طلب العلم، وقوله: ((من لا يحب العلم لا خير فيه ولا يكون بينك وبينه صداقة ولا معرفة)) وقوله: ((ليس العلم ما حُفِظَ، إنما العلم ما نَفَعَ)) ومن كلماته الرائعة في الإشادة بفضل العلم قوله: ((كفى بالعلم فضيلة أن يدعيه من ليس فيه، ويفرح به إذا نسب إليه، وكفى بالجهل شيئاً أن يتبرأ منه من هو فيه، ويغضب إذا نسب إليه)). ومن مأثور كلماته الدالة على تفانيه في نشر العلم، وحرصه على انتفاع الناس بعلمه ولو لم ينسب إليه قوله: ((وددت أن الناس يفهمون ما في كتبي من معاني الكتاب والسنة وينشرون ذلك وإن لم ينسبوه إلي))... ومما يدل على شدة إخلاصه في دروسه ومناظراته، وأن هدفه الأول والأخير هو الوصول إلى الحق والصواب ولو على لسان خصمه، قوله: ((ما ناظرت أحداً قط، إلا أحببت أن يُوفَقَ ويسدد ويعان وما ناظرت أحداً إلا ولم أبال أن يبين الله الحق على لساني أو لسانه)).
بهذه الروح المثالية وبهذه الهمة والإخلاص بلغ الشافعي ما بلغ من الجلالة والعظمة ونال ما نال من المجد والسؤدد، ولقد ضرب رحمه الله تعالى بذلك أروع الأمثلة وأسناها لطلاب العلم والمعرفة، وكان رضي الله عنه من ابرز أئمة المسلمين علماً وأدباً وخلقاً ومن أعظم رواد الهداية والإرشاد.
* * *
أخلاق الشافعي وبعض ملامح شخصيته:
وصف الشافعي بعضُ أصحابه فقال: ((كان طويلاً سائل الخدين، قليل لحم الوجه، خفيف العارضين، طويل العنق، طويل القصب (عَظم العضد والفخذ والساق)، آدم... حسن الصوت، حسن السمت، عظيم العقل، حسن الوجه، حسن الخلق مهيباً فصيحاً)).
وكان محبباً إلى كل من كان في وقته من الفقهاء، والنبلاء، والأمراء، كلهم يجلّ الشافعي ويعظمه. وكان مقتصراً في لباسه، وكان مجلسه مصوناً عن اللغط ((عن التهذيب للنووي بتصرف)) وفيما يلي نذكر بشيء من الإيجاز، إضمامة من أخلاقه وشمائله:
وإذا كانت المروءة من أجمع الصفات لمكارم الأخلاق، فلقد كانت من أبرز خلائق الشافعي في سيرته ومعاملاته كما أشاد بها في كثير من مواقفه، ومن أقواله المأثورة في ذلك قوله: ((لو علمت أن شرب الماء البارد ينقص من مروءتي ما شربته))، وقوله: ((المروءة عفة الجوارح عما لا يعنيها)) وقوله: ((أصحاب المروءات في جهد)) وقوله: ((لو كنت اليوم ممن يقول الشعر رثيت المروءة)). ولعلَّ الشافعي هو الذي أوحى إلى الشاعر المتأخر قوله، وإن بالغ فيه كثيراً وأساء الظن بالناس جميعاً حيث قال:
مررت على المروءة وهي تبكي
فقلت علام تنتحب الفتاة؟
فقالت كيف لا أبكي وأهلي
جميعاً دون خلق اللَّه ماتوا؟
ومن الشواهد على كمال التزام الشافعي بالمروءة ورعايته لها الحكاية الآتية:
قال المزني: ((كنت عند الشافعي يوماَ ودخل عليه جار له خياط، فأمره بإصلاح أزراره فأصلحها فأعطاه ديناراً، فنظر إليه الخياط وضحك، فقال له الشافعي: خذه فلو حضرنا أكثر منه ما رضينا لك به، فقال الخياط: إنما دخلت لأسلم عليك. فقال الشافعي: فأنت إذاً زائر وضيف، وليس من المروءة أن يستخدم بالزائر ولا بالضيف)).
أما الحكاية الثانية، فهي مثل رائع للمروءة والوفاء وحسن الرعاية لحق الصديق والتجافي عن الخداع والمجاملة الكاذبة:
((جاء رجل إلى الشافعي فقال له: أصلحك الله - صديقك فلان عليل، فقال الشافعي: والله لقد أحسنت إلي، وأيقظتني لمكرمة، ودفعت اعتذاراً يشوبه الكذب، ثم قال: يا غلام هات السبتية (هي نعال دبغت فلانت)، ثم قال: للمشي على الحفاء، على علة الوجاء (الوجاء من وجأه باليد والسكين: ضربه) في حر الرمضاء، من ذي طوى، أهون علي من الاعتذار إلى صديق يشوبه الكذب. ثم أنشأ يقول:
أرى راحة للحق عند قضائه
ويثقل يوماً إن تركت على عمد
وحسبك حظاً أن ترى غير كاذب
وقولك: لم أعلم، وذلك من جهد
ومن يقض حق الجار بعد ابن عمه
وصاحبه الأدنى على القرب والبعد
يعش سيداً يستعذب الناسُ ذكرَه
وإن نابه حق أتوه على قصد
ومن الحكايات الدالة على كرم الشافعي وإكباره للمروءة وأهلها، هذه الحكاية:
عن الربيع بن سليمان يقول: ((مر الشافعي يوماً بالحذائين فسقط سوطه من يده، فقام رجل منهم فأخذ السوط ومسحه بيده ودفعه إليه، فقال له: مه، أي شيء عملت؟ آثرتني على نفسك، كيف أؤدي شكرك؟ ثم تنحى وضرب بيده إلى كمه أو جيبه، فأخرج منه دنانير لا أدري خمسة أو عشرة أو أكثر، وأكبر ظني عشرة، وقال لي: ادفعها إليه واعتذر عني عنده، فإنه لم يحضرني غير هذا في هذا الوقت)).
على أن الشواهد على كرمه وسخاء نفسه مما لا يتسع المقام لذكرها، وحسبنا أن نضيف إلى ما تقدم النبذة التالية: قال الحميدي: ((قدم الشافعي رحمه الله من صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينار فضرب خباءه خارجاً من مكة، فكان الناس يأتون يسلمون عليه، فما برح حتى فَرّقَها كلها)).
وقال البويطي: ((قدم الشافعي مصر، وكانت زبيدة ترسل إليه برزم الثياب والوشي، فيقسمها بين الناس، وقال بعض أصحابه: كان الشافعي من أجود الناس وأسخاهم كفأ، كان يشتري الجارية الصناع، التي تطبخ وتعمل الحلواء، ويقول لنا: تشهوا ما أحببتم، فقد اشتريت جارية تحسن أن تعمل ما تريدون، فيقول بعض أصحابنا: اعمل اليوم كذا وكذا...)).
وهكذا كانت سماحة الشافعي ومكارمه تجعل من منزله كنفاً لأصحابه ينعمون فيه بالغذاء الحسي الشهي إلى جانب الغذاء الروحي الممتع.
الصداقة في نظر الشافعي:
لقد مر بنا نموذج رائع من وفاء الشافعي لأحد أصدقائه، وفيما يلي نذكر جملة من الأقوال المأثورة عن الشافعي في هذا المجال، قال رحمه الله: ((من صدق في أخوّة أخيه، قبل علله، وسد خلله، وغفر زلـله)) وقال: ((ليس سرور يعدل صحبة الإخوان، ولا غم يعدل فراقهم)). وقال: ((لا تقصر في حق أخيك اعتماداً على مودته)) وقال: ((من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه)).
ولقد خبر الشافعي الناس، وعرف الكثير من طباعهم وأخلاقهم وعلم ألا سبيل إلى رضائهم ولا خير في التمادي في مخالطتهم، ولا في التجافي عنهم، وإنما الخير في الاعتدال بين الانبساط إليهم، والانقباض عنهم، ولذا أوصى الربيع بقوله: ((يا ربيع، رضاء الناس غاية لا تدرك، فعليك بما يصلحك فالزمه، فإنه لا سبيل إلى رضائهم، والانبساط إلى الناس مجلبة لقرناء السوء، والانقباض عنهم مكسبة للعداوة وكن بين المنقبض والمنبسط)).
ولقد كان الشافعي يربي تلاميذه ومريديه على مكارم الأخلاق بسيرته ونصائحه التي كان يتخولهم بها، فقد كان مجلسه مصوناً عن اللغط والصخب، وكان يترفع عن النزول إلى مستوى من يسوِّل له طيشه أن يتطاول عليه بما لا يليق من الكلام وكان يقابل ذلك بالإعراض عنه كما مر بنا من إعراضه عن فتيان عندما تطاول عليه وآذاه. ومن أقواله المأثورة في الحث على تنزيه السمع وصيانة اللسان من الخنى والسفه قوله: ((نزهوا أسماعكم عن سماع الخنى، كما تنزهون ألسنتكم عن النطق به، فإن المستمع شريك القائل، وإن السفيه ينظر إلى أخبث ما في وعائه، فيحرص أن يفرغه في أوعيتكم)).
نكتفي بهذه الأمثلة من أخلاق الشافعي وأقواله المأثورة في مكارم الأخلاق، لننتقل إلى الحديث عن أدب الشافعي وحسن بيانه.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :990  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 99 من 112
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج