شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
سيرته وعلمه
بسم الله نستعينه ونستهديه ونصلي ونسلم على خاتم النبيين وقدوة الهداة المصلحين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، والسائرين على سنته ونهجه.
الإمام الشافعي:
علم من أعظم أعلام الإسلام ومنار من أعلى منارات الهدى والرشاد، وعبقري من ألمع عباقرة العلم والمعرفة، ومثل رائع للشباب الكادح الطموح، بلغ من العلم أبعد غاياته، وحاز من الشرف والمجد أسمى درجاته. ذلك هو الفتى المطلبي القرشي محمد بن إدريس بن العباس بن شافع بن السائب، ينسب إلى جده شافع وينتهي نسبه إلى عبد مناف بن قصي، حيث يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم في جده عبد مناف. وقد لقي جده شافع النبي صلَّى الله عليه وسلم ونال شرف صحبته، وكذلك جده السائب، ومما يدل على سمو منزلة هذه الأسرة في قريش أن جده السائب كان صاحب راية بني هاشم يوم بدر، فأسر وفدى نفسه ثم أسلم، فقيل له: لِم لَم تسلم قبل أن تفدي نفسك؟ فقال ما كنت لأحرم المؤمنين من مطمع لهم فيّ. ويروى أن السائب اشتكى من مرض ألمّ به - فقال عمر رضي الله عنه: اذهبوا بنا نعود السائب فإنه من مصاصة قريش. كما يؤكد هذه المنزلة في صدر الإسلام، أن عبد الله بن السائب أخا شافع كان والياً على مكة. وأم الشافعي يمنية من الأزد. وقد دلت تربيتها وحسن توجيهها للشافعي على ما كانت تتمتع به من حصافة ونباهة وقدرة على الاضطلاع بمهام الأمومة على أفضل وجه، وحسبنا القصة الطريفة الآتية، دليلاً على ما كانت تمتاز به هذه المرأة الجليلة من قوة الشخصية وحسن الإدراك وبراعة المنطق:
يروى أن أم الشافعي شهدت عند قاضي مكة هي وامرأة أخرى، فأراد القاضي أن يفرق بين المرأتين فقالت له أم الشافعي: ليس لك ذلك، لأن الله سبحانه وتعالى يقول: أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى، فرجع القاضي لها عن رأيه.
مولد الشافعي ونشأته:
كانت مكة موطن أسرة الشافعي، إلا أن والده إدريس هاجر إلى فلسطين ومعه زوجه أم الشافعي لحاجة ألجأته إلى ذلك. وفي غزة إحدى مدن فلسطين الشهيرة ولد الشافعي رضي الله عنه سنة 150 من الهجرة. وبعد ولادته بقليل توفي والده وقامت أمه بحضانته خير قيام. ولما بلغ من العمر سنتين حملته أمه إلى مكة لينشأ بين قومه وعشيرته، وفي أم القرى تلقى تعليمه الأولي مبتدئاً بحفظ القرآن الكريم، وقد لقي في المراحل الأولى من تعليمه من العناء والجهد ما كان أبلغ محك لعلو همته ومضاء عزيمته، كما كان أقوى حافز لتتضح مواهبه، مما جعل من الفتى المكي خير أسوة لطلاب العلم والمعرفة وأروع مثل للشبان الطامحين إلى المجد والرفعة. وفي ما يلي صور موجزة لبعض ما عاناه الشافعي في طلب العلم وما بذله في هذا السبيل من جهود وما كان يتحلّى به من ألمعية وهمة قعساء:
روي أنه لما أسلموه إلى المعلم ما كانوا يجدون الأجرة التي يتقاضاها المعلم من أمثاله، فكان يقصّر في تعليمه، وكان الشافعي يتلقف ما يعلمه المعلم للصبيان، ثم إذا قام المعلم من مكانه أخذ الشافعي يعلم الصبيان ما تلقفه، فنظر المعلم فرأى الشافعي يكفيه من أمر الصبيان أكثر من الأجرة التي كان يطمع فيها، فترك طلب الأجرة منه، واستمر الشافعي على هذه الحال إلى أن حفظ القرآن الكريم. ويروى عن الشافعي أنه قال: لما ختمت القرآن دخلت المسجد - يعني المسجد الحرام - فكنت أجالس العلماء، وأحفظ الحديث، والمسألة وكان منزلنا بشعب الخيف، وكنت فقيراً لا أملك ما أشتري به القراطيس، فكنت آخذ العظم وأكتب فيه. وروى صاحب معجم الأدباء عن الشافعي في هذا الصدد ما خلاصته: لما خرجت من الكُتّابِ كنت أتلقط الخزف (الفخار) والدفوف (الجلود) وكرب النخل وأكتاف الجمال، أكتب فيها الحديث، ثم يقول: وكان لأمي حباب (جرار) فملأتها أكتافاً وخزفاً وكرباً.. مملوءة حديثاً، ثم إني خرجت عن مكة فلزمت هذيلاً في البادية، أتعلم كلامها، وآخذ طبعها وكانت أفصح العرب، فبقيت فيهم أرحل برحيلهم وأنزل بنزولهم، فلما رجعت إلى مكة جعلت أنشد الأشعار وأذكر الآداب.. والأخبار، وأيام العرب. فمر بي رجل من الزبيرين من بني عمر فقال لي: يا أبا عبد الله: عزَّ عليّ ألا يكون مع هذه اللغة وهذه الفصاحة والذكاء، فقه، فتكون قد سدت أهل زمانك. يقول الشافعي: فقلت: فمن تقصد؟ - يعني ممن يؤخذ عنهم الفقه - فقال لي: مالك بن أنس سيد المسلمين يومئذ. قال الشافعي: فوقع في قلبي (أي إنه أستحسن هذا الرأي)، فعمدت إلى الموطأ - موطأ الإمام مالك، أحد أمهات كتب السنة المعتبرة - فاستعرته من رجل بمكة فحفظته في تسع ليال ظاهراً - عن ظهر قلب - وبعد ذلك أخذ الشافعي يستعد لرحلته إلى الإمام مالك، وذلك ما سنذكره بعد أن نورد جملة نلم فيها بثقافة الإمام الشافعي، المتعددة النواحي والمصادر، قبل توجهه بكليته إلى الفقه.
لقد مر بنا آنفاً أخذه الفصحى عن هذيل، وقد بلغ فيها الذروة، كما شهد له بذلك أئمة اللغة وجهابذتها.
قال صاحب وفيات الأعيان: كان الشافعي كثير المناقب، جم المفاخر، منقطع القرين، اجتمعت فيه من العلوم بكتاب الله وسنة الرسول صلَّى الله عليه وسلم وكلام الصحابة رضي الله عنهم وآثارهم واختلاف أقاويل العلماء وغير ذلك من معرفة كلام العرب واللغة العربية والشعر - حتى إن الأصمعي مع جلالة قدره في هذا الشأن قرأ عليه أشعار الهذليين - ما لم يجتمع في غيره. ونقل ابن عبد البر عن الزعفراني أنه قال: ما رأيت أحداً قط أفصح ولا أعلم من الشافعي كان أعلم الناس وأفصح الناس، وكان يقرأ من كل الشعر فيعرفه، ما كان إلا بحراً. وعن ابن هشام أنه قال: كان الشافعي حجة في اللغة.
ولقد ذكر المرحوم العلامة الشيخ مصطفى عبد الرازق في كتابه (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية) نبذة نفيسة عن ثقافة الشافعي الواسعة الآفاق، المتعددة الفنون والمعارف، أنقلها بشيء من الإيجاز فيما يلي:
"وقد تفقه الشافعي أول ما تفقه على أهل الحديث من علماء مكة كمسلم بن خالد الزنجي وسفيان بن عيينة: ثم ذهب إلى إمام أهل الحديث مالك بن أنس في المدينة فلزمه ولقي من عطفه وفضله ما جعله يحبه ويجله. على أن نشأة الشافعي لم تكن من كل وجه نشأة أهل الحديث ولا استعداده استعدادهم. لقد توجه في أول أمره إلى درس اللغة والشعر والأدب وأخبار الناس ولم يقطع صلته بهذه العلوم حين وصل حبله بأهل الحديث الذين كانوا لا يرونها من العلم النافع".
ثم يقول بعد ذكره لبعض الشواهد على ذلك:
"وكان الشافعي بطبعه نهماً في العلم شديد الرغبة فيه، يلتمس كل ما يجده من فنونه. وقد ذكر من ترجموا له أنه اشتغل بالفراسة حين ذهب إلى اليمن وعالج التنجيم والطب، وربما كان درسهما في إحدى رحلاته إلى العراق، حيث كان التنجيم يعتبر فرعاً من فروع العلوم الرياضية، وكان الطب فرعاً من العلم الطبيعي.. ثم يقول:
وكان الشافعي مغرماً بالرمي والفروسية، ولم يكن في كهولته يأنف من الوقوف عند مهرة الرماة، يدعو لهم ويمدهم بالمال... ثم نقل عن شمس الدين الصفدي في صفة الشافعي قوله: ((وكان مقتصراً في لباسه، يتختّم في يساره، وكان ذا معرفة تامة في الطب والرمي، وكان أشجع الناس وأفرسهم، يأخذ باذنه واذن الفرس وهو يعدو)).
وذكر الشيخ مصطفى عبد الرازق أيضاً في ترجمة الإمام الشافعي: ((أنه كان متأثراً في خلقه وخلُقه بالرياضة البدنية التي شغف بها منذ الصغر، فكان جسمه جسم الرياضيين وخلقه خلق الرياضيين)). وقد روي عن الإمام الشافعي أنه كان يحدث عن طفولته فيقول: ((وكانت نهمتي في شيئين: في الرمي، وطلب العلم، فنلت من الرمي حتى كنت أصيب من عشرة عشرة. وفي رواية من عشرة تسعة. وسكت عن العلم فقال بعض من كان يستمع إليه: أنت والله في العلم اكثر منك في الرمي)).
ومما يشهد لهذه النزعة والهواية الرياضية لدى الشافعي ما ذكره ابن عبد البر عن المزني من قوله: ((خرجت مع الشافعي يوماً إلى الأكوام فمر بهدف فإذا برجل يرمي بقوس عربية، فوقف عليه الشافعي ينظر، وكان حسن الرمي، فأصاب بأسهم. فقال له الشافعي: أحسنت بارك الله فيك. ثم قال لي: أمعك شيء؟ قلت معي ثلاثة دنانير، قال: أعطه إياها واعتذر عني أني لم يحضرني غيرها)).
رحلته إلى المدينة:
قدمنا آنفاً نصيحة الرجل الزبيري للشافعي بأن يتوجّه إلى الفقه بعد أن بلغ في اللغة العربية والفصاحة تلك المنزلة الرفيعة مع ما وهبه الله إياه من ذكاء وألمعية. وفيما يلي نذكر ما أجاب به الشافعي الرجل الزبيري، وما أتخذه بعد ذلك من خطوات في هذه السبل نقلاً من معجم الأدباء بشيء من التصرف:
تقدم لنا أن الشافعي استعار كتاب الموطأ، وحفظه عن ظهر قلب، وفيما يلي يروي لنا الشافعي الخطوات التي اتخذها في سبيل لقاء مالك والأخذ عنه قال: ثم دخلت إلى والي مكة وأخذت كتابه إلى والي المدينة، وإلى مالك بن أنس، قال: فقدمت المدينة فأبلغت الكتاب إلى الوالي، فلما أن قرأ قال: يا فتى: إن المشي من جوف المدينة إلى جوف مكة حافياً أهون علي من المشي إلى باب مالك بن أنس، فلست أرى الذل حتى أقف على بابه. فقلت: أصلح الله الأمير: إن رأي الأمير يوجه إليه ليحضر. فقال: هيهات، ليت أنى إذا ركبت أنا ومن معي وأصابنا من تراب العقيق نلنا بعض حاجتنا. قال: فواعدته العصر وركبنا جميعاً... فتقدم رجل فقرع الباب، فخرجت إلينا جارية سوداء. فقال لها الأمير: قولي لمولاك إني بالباب. قال: فدخلت فابطأت ثم خرجت فقالت: إن مولاي يقرؤك السلام ويقول: إن كانت مسألة فارفعها في رقعة يخرج إليك الجواب، وإن كان للحديث فقد عرفت يوم المجلس، فانصرف. فقال لها: قولي له: إن معي كتاب والي مكة إليه في حاجة مهمة. قال فدخلتْ وخرجتْ وفي يدها كرسي فوضعته ثم إذا أنا بمالك قد خرج وعليه المهابة والوقار.. فرفع إليه الوالي الكتاب. فلما بلغ إلى هذه الجملة: ((إن هذا رجل من أمره وحاله كذا وكذا)). - يعني الشافعي ورغبته في التلقي عنه - فتحدثه وتفعل وتصنع. رمى الكتاب من يده ثم قال: سبحان الله؟ أو صار علم رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، يؤخذ بالوسائل؟ قال الشافعي: فرأيت الوالي وقد تهيب أن يكلمه، فتقدمت إليه وقلت: - أصلحك الله - إني رجل مطلبي ومن حالي وقصتي... فلما أن سمع كلامي نظر إليّ ساعة، وكانت لمالك فراسة: فقال: ما اسمك؟ قلت محمد.. فقال لي: يا محمد اتق الله، واجتنب المعاصي، فإنه سيكون لك شأن من الشأن. ثم قال: نعم وكرامة إذا كان غد تجيء ويجيء من يقرأ لك. قال: فقلت أنا أقوم بالقراءة. قال فغدوت إليه وبدأت أقرأه ظاهراً - غيباً - والكتاب في يدي، فكلما تهيبت مالكاً وأردت أن أقطع، أعجبه حسن قراءتي وإعرابي - أي إفصاحي وعدم لحني - فيقول: يا فتى زد. حتى قرأته في أيام يسيرة ثم أقمت بالمدينة، حتى توفي مالك بن أنس ثم خرجت إلى اليمن فارتفع لي بها الشأن.
ذكرت هذه القصة على ما فيها من بعض الطول لما فيها من صور رائعة لهذا الفتى المطلبي الطموح تمثّل علو همته وصبره وجرأته وألمعيته، كما تصور لنا ما اتّصف به إمام دار الهجرة مالك بن أنس من جلال ووقار وتكريم للعلم وإعزاز لسنة رسول الله صلَّى الله عليه وسلم.
ولقد صدق من قال فيه من أهل المدينة:
يأبى الجوابَ فما يُراجعُ هيبةً
والسائلون نواكسُ الأذقانِ
أدبُ الوقار وعِزُّ سلطانِ التقى
فهو المطاعُ وليس ذا سلطانِ
ورحم الله الجرجاني إذ يقول:
ولو أن أهلَ العلمِ صانوه صانهم
ولو عظَّموه في النفوسِ تَعَظَّمَا
رحلته إلى اليمن:
قال الشافعي: ((لما مات مالك. كنت فقيراً، فاتفق أن والي اليمن قدم المدينة فكلمه بعض القرشيين أن أصحبه، فذهبت معه واستعملني في أعمال كثيرة، وحُمِدْتُ فيها والناس أثنوا علي)).
وقد أخذ الشافعي عن جماعة من أهل اليمن.. ويقولون: إن الشافعي، جمع كتب الفراسة من اليمن واشتغل بها حتى مهر فيها.
وارتفع شأن الشافعي باليمن.. ثم إن الحساد سعوا به إلى هارون الرشيد، وكان باليمن واحد من قواده، فكتب إليه يخوفه من العلويين. وذكر في كتابه، أن معهم رجلاً يقال له محمد بن إدريس الشافعي، يعمل بلسانه ما لا يقدر المقاتل عليه بسيفه، فإن أردت أن يبقى الحجاز عليك فاحملهم إليك.
وحمل الشافعي من الحجاز مع قوم من العلوية تسعة وهو العاشر إلى بغداد، ثم لما أدخلوا على الرشيد سألهم وأمر بضرب أعناقهم فضربت أعناق التسعة ثم لما قدم الشافعي قال: يا أمير المؤمنين لست بطالبي ولا علوي، وإنما أُدخِلتُ في القوم بغياً عليّ. وإنما أنا رجل من بني عبد المطلب بن عبد المناف، ولي مع ذلك حظ من العلم والفقه.. وقد استطاع الشافعي بلباقته وفصاحته أن يقنع الرشيد ببراءته، فأطلقه الرشيد وأكرمه.
الشافعي بين مكة وبغداد:
تقدم لنا أن الشافعي أخذ عن محمد بن الحسن صاحب الإمام أبي حنيفة في إحدى رحلاته إلى بغداد، وفي أثناء إقامته في بغداد كان يناظر العراقيين في فقههم، ويعتبر نفسه تلميذاً لمالك. إلا أنه لما اطلع في العراق على آراء غير آراء استاذه مالك، وعلى منهاج في الفقه غير منهاج مالك - أخذ يدرس ويوازن بين هذه الآراء والمناهج المختلفة. وعندما عاد إلى أم القرى، عكف على هذه الموازنة بجوار بيت الله الحرام، إلى أن خرج على الناس بمذهب مستقل به، مغاير لمذهب مالك، ومذهب أبي حنيفة، كما خرج على الناس بقواعد الاستنباط وهو ما عرف بعد بعلم أصول الفقه الذي يعزى إليه استنباطه، ولقد أحسن الأستاذ محمد أبو زهرة في وصفه لهذه المرحلة من حياة الشافعي العلمية في كتابه ((تاريخ المذاهب الإسلامية)) وفيما يلي ننقل بشيء من الإيجاز ما ذكره في هذا السياق.
قال: ((مكث الشافعي في مكة يدرِّس ويفحص ويلقي على تلاميذه علماً لم يألفوه من قبل، وهو لا يخرج عن الدراسة الفقهية، في ظل القرآن والسنة النبوية. وفي هذه الأثناء كان يلقاه العلماء من كل فج عميق، في أيام الحج، فجاءه العراقيون وغيرهم. وكانت إقامته بمكة نحو تسع سنين في هذه المرة، ولا بد أن ينشر ما وصل إليه في كل البلاد الإسلامية، وخصوصاً ما وضعه من مناهج للاستنباط الفقهي. وليس ثمة إلا مكان ينبثق منه نور العلم عاماً مشرقاً. وهو قصبة الدولة الإسلامية ((بغداد)) وقد ألفها وألفته، وعرفها وعرفته.
ولذلك رحل إلى بغداد سنة ‍195هـ.
هنالك في بغداد استرعى نظر كل العلماء فيها واحتفت به التلاميذ. ولم يستكبر علماء بغداد عن أن يكون فيهم تلاميذ له، فقد تتلمذ له أحمد بن حنبل الذي لقيه بمكة من قبل، وعجب من عقله وفكره. وأخذ عنه إسحاق بن راهويه، وهو في سن قريبة من سنه. وأشباههم، غير التلاميذ الذين أخذوا يتلقون عنه، ويتخرجون عليه، وكان يجيب الجميع ويعجبون بإجابته، لأنه قد أتى بعلم لم يكن على منهاج ما درسوا، ولأنه يتحلى بصفات لم تكن فيمن سبقوه، ولكل فضله.
أما المنهاج فقد جاءهم بعلم الأصول الذي هو منهاج الاستنباط، يبينه بالتفصيل.. وأما ما تحلى به من صفات، فهو الفصاحة والبيان والقدرة على المناظرة والمجادلة. فقد كان فصيح العبارة، قوي التأثير في بيانه، حتى لقد قال فيه بعض معاصريه: ((إنه خطيب العلماء)). وفي هذه القدامة إلى بغداد - أملى كتبه التي أسماها الكتب البغدادية، ففيها كتابه الأم ويسمى المبسوط، وهو عدة كتب شملت أكثر ما أُثِرَ عنه في الفروع.
وكذلك أملى كتابه في أصول الفقه وهو الذي يسمى الرسالة، رواهما عنه الزعفراني.
وبهذا نشر علمه في كل بلاد المشرق مما وراء العراق، عن أولئك التلاميذ الذين كانوا يحتفون به في درسه..)).
نكتفي بهذا القدر مما ذكره أبو زهرة عن إقامة الشافعي ببغداد ومغادرته إياها إلى مكة ثم عودته إليها ثانياً وإقامته بها إقامة قصيرة وارتحاله منها إلى مصر.
وفيما يلي نذكر بشيء من التفصيل رحلته إلى مصر:
رحلته إلى مصر:
قدم الشافعي إلى مصر سنة تسع وتسعين ومائة، في أول خلافة المأمون، وكان سبب قدومه إلى مصر أن العباس بن عبد الله بن العباس بن موسى بن عبد الله بن العباس، استصحبه فصحبه، وكان العباس هذا خليفة لأبيه عبد الله على مصر، ولم يزل الشافعي بمصر إلى أن ولي السري بن الحكم البلخي مصر واستقامت له، وكان يكرم الشافعي ويقدمه ولا يؤثر أحداً عليه، وكان الشافعي محبباً إلى الخاص والعام، لعلمه وفقهه وحسن كلامه وأدبه وحلمه...
وإذا صح أن هذا الوالي العباسي هو الذي استصحبه إلى مصر، فقد حقق له أمنية كانت تتوق إليها نفسه، كما يدل على ذلك تمثله بالبيتين التاليين حين أراد الخروج إلى مصر:
لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر
ومن دونها قطع المهامه والقفر
فواللَّه ما أدري أللفوز والغنى
أساق إليها أم أساق إلى القبر؟
وقد أورد صاحب معجم الأدباء في سياق البيتين السابقين - عن خروج الشافعي - إلى مصر القصة التالية نذكر خلاصتها لطرافتها ولا نجزم بصحتها: قال: فخرج فقطع عليه الطريق فدخل بعض المساجد وليس عليه إلا ثياب رثة فلم يلتفت إليه أحد. فقال:
عليّ ثياب لو يباع جميعها
بفلس لكان الفلس منهن أكثرا
وفيهن نفسي لو يقاس ببعضها
نفوس الورى كانت أجلَّ وأكبرا
وما ضرَّ نصلَ السيف أخلاقُ غمده
إذا كان عضباً أين وجّهته فرى
يقول مصطفى عبد الرازق: ((إذا كان الشافعي قد خرج إلى مصر يلتمس نشر مذهبه، فهو إنما أراد أن يلتمس لآرائه ميداناً جديداً بعد أن أدرك النصر في الحجاز والعراق. وقال الربيع: سألني الشافعي عن أهل مصر فقلت: هم فرقتان، فرقة مالت إلى قول مالك، وناضلت عنه، وفرقة مالت إلى قول أبي حنيفة وناضلت عنه، فقال: أرجو أن أقدم مصر إن شاء الله فاتيهم بشيء أشغلهم عن القولين جميعاً. قال الربيع: ففعل ذلك والله حين قدم مصر)).
وقال النووي: وصنف كتبه الجديدة كلها بمصر، وسار ذكره في البلدان، وقصده الناس من الشام واليمن والعراق وسائر النواحي والأقطار، للتفقه عليه، والرواية عنه، وسماع كتبه وأخذها عنه وسار أهل مصر وغيرهم وابتكر كتباً لم يسبق إليها، ومنها أصول الفقه.
وقد اقام الشافعي بمصر إلى أن وافته المنية سنة 204هـ وهو في الرابعة والخمسين من عمره، وكان في آخر عمره شديد العلة بالبواسير.
ويروى في سبب موت الشافعي: أنه كان بمصر رجل من أصحاب مالك بن أنس، يقال له فتيان، فيه حدة وطيش، وكان يناظر الشافعي كثيراً ويجتمع الناس عليهما، فتناظرا يوماً في مسألة.. فظهر عليه الشافعي في الحجاج - انتصر عليه في المناظرة - فضاق فتيان بذلك ذرعاً فشتم الشافعي شتماً قبيحاً، فلم يردّ عليه الشافعي حرفاً ومضى في كلامه، فرفع ذلك رافع إلى والي مصر فطلبه وعزره، فحقد فتيان على الشافعي فلقيه ليلاً فضربه بمفتاح حديد فشجّه فتمرض الشافعي إلى أن مات.
وقد علق الشيخ مصطفى عبد الرازق على هذا الخبر في ترجمته للإمام الشافعي بقوله:
((لم تقتل الشافعي شجة فتيان المزعومة، إنما قتل الشافعي ما بذله من جهد عنيف في السنين الأربع التي أقامها بمصر، ما بين تأليف وتدريس، وسعي في بث مذهبه، ومدافعة كيد خصومه. هذا إلى مرضه المنهك..)).
وقال المزني: دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه، فقلت: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقاً، ولكأس المنية شارباً، وعلى الله جل ذكره وارداً. ولا والله ما أدري. روحي تصير إلى الجنة فأهنيها، أو إلى النار فأعزيها. ثم بكى وأنشأ يقول:
فلما قَسا قلبي وضاقتْ مذاهبي
جعلتُ رجائي نحوَ عفوك سُلَّما
تعاظَمني ذنبي فلما قرنتُه
بعفوك ربي كان عفوُك أعظما
فما زلِتَ ذا عفو عن الذنب لم تزلْ
تجودُ وتعفو مِنَّة وتكرّما
فلولاكَ لم يغدرْ بإبليس عابدٌ
فكيفَ وقد أغْوى صفيَّك آدما
علم الشافعي وفقهه:
لقد مرت بنا شذرات عن علم الشافعي وفقهه، وفيما يلي نقتبس من كتاب الشيخ محمد أبو زهرة بشيء من الإيجاز، نبذة مما ذكره في هذا الصدد: قال: ((لقد شغل الشافعي الناس بعلمه وعقله وبلاغته، شغلهم في بغداد عندما كانت تعقد بينه وبين فقهائها المناظرات، وهو شاب يتلقى عن محمد بن الحسن، وشغل العلماء الذين كانوا يجيئون إلى البيت الحرام.. حاجين، ومتزودين بزاد من علم الرسول، وأحاديث يتلقونها عن بقية التابعين بها، وشغل بغداد مرة ثانية بالثمرات العلمية التي وصل إليها، وهو عاكف في البيت الحرام، يضع القواعد ويجمع الأصول، ويدرس المذاهب دراسة مقارنة لم يسبق بها. ثم لما جاء إلى مصر شغل الناس بعلمه الذي لم يعرفوا له نظيراً فيما درسوا وإن كان لكلٍ فضله وسبقه.
ولقد انطلق بالثناء عليه شيوخه الذين تلقى عنهم، وقرناؤه الذين ناظروه ثم كانوا له كالتلاميذ، وتلاميذه الذين حفظوا للأجيال علمه الغزير... ثم قال:
((والحقيقة أنه أُوتي من أسباب العلم ما يجعل له هذه المنزلة السامية، فقد أُوتي علم القرآن الكريم، ففقه معانيه، وأدرك كثيراً من أسراره ومراميه، وقد قال بعض تلاميذه: ((إذا أخذ الشافعي في التفسير كان كأنه شاهد التنزيل)). - وأوتى علم الحديث، فروى أحاديث من كانوا بمكة من بقية التابعين، وروى أحاديث الإمام مالك، فقرأ عليه الموطأ الذي يعدّ أول مدون كامل في الحديث. وأوتي العلم العراقي راوياً له عن العراقيين في الفترة التي التقى فيها بالإمام محمد بن الحسن. وأوتي مع هذا فقه الرأي وضبط قواعد الفقه، فوضع ضوابط القياس وضوابط النسخ..)).
وضع الشافعي لعلم أصول الفقه:
نقتبس فيما يلي فقرات مما ذكره الشيخ مصطفى عبد الرازق تحت هذا العنوان:
قال: ((إذا كان الشافعي هو أول من وجّه الدراسات الفقهية إلى ناحية علمية، فهو أيضاً أول من وضع مصنفاً في العلوم الدينية الإسلامية، على منهج علمي، بتصنيفه في أصول الفقه. قال الرازي: اتفق الناس على أن أول من صنّف في هذا العلم - أي علم أصول الفقه - الشافعي وهو الذي ميز بعض أقسامه من بعض، وشرح مراتبها في القوة والضعف...)).
وقال الرازي أيضاً: ((واعلم أن نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة ((أرسطاطاليس)) إلى علم المنطق، وكنسبة ((الخليل بن أحمد)) إلى علم العروض))...
المذهب الشافعي وانتشاره في العالم الإسلامي:
كان الشافعي في أول أمره يعد نفسه تلميذاً لمالك، ومتبعاً لمذهبه، وما زال كذلك إلى أن قدم إلى بغداد، واتصل بأصحاب أبي حنيفة، وأخذ عن محمد بن الحسن الشيباني، واطلع على طريقة العراقيين، فاقتبس من ذلك أحسنه، وأضافه إلى ثروته الحجازية في اللغة والأدب، والحديث، وطريقة الحجازيين في الاستنباط: ((ومنذ أن عاد الشافعي إلى مكة بعد إقامته في بغداد، أخذ ينهج منهاجاً فقهياً، ليس فيه تابعاً لشيخه مالك رضي الله عنه، ولا لمحمد بن حسن الشيباني الذي كان يحمل فقه العراقيين، وقد اتجه كما أشرنا من قبل إلى دراسات كلية مع دراسة الفروع... وقد استقبل الناس ذلك النوع من العلم على أنه فتح جديد في الدراسات الفقهية لم يسبق به الشافعي...)) أبو زهرة.
ثم لم يلبث الشافعي أن أعلن مذهبه الجديد في بغداد سنة 195هـ ودعا إليه فتبعه فيه بعض أصحابه البغداديين. ولما لم يجد الشافعي لمذهبه في العراق النجاح الذي كان ينشده، لمزاحمة الحنفية له، ولما لهم من جاه وسلطان، تحول إلى مصر، وأقام بها نحو أربع سنوات أملى فيها كثيراً من كتبه وانتشر مذهبه بمصر بعد أن ابتدأ بنشره بالعراق، ومن العراق انتقل إلى خراسان وما وراء النهر. ومع أن المذهب الحنفي كان مذهب الدولة العباسية السائد بين رعاياها المؤيد بسلطانها، كان المذهب الشافعي ينازعه السلطان في الشعب، واستمر سلطانه في مصر حتى بعد استيلاء الفاطميين عليها. وقد امتد سلطانه إلى الشام واليمن وفارس وغيرها ولم يزل يمتد وينتشر حتى بلغ في أقصى الشرق، بلاد الملايو وجاوة (أندونيسيا) وبعض بلاد الهند وما جاورها من الأقطار والشعوب الإسلامية، وأصبح بذلك أحد المذاهب الإسلامية الأربعة التي يدين بها المسلمون في معظم أرجاء العالم الإسلامي ويحتكمون إلى قوانينها ودساتيرها.
آثار الشافعي:
كتب الأستاذ (أحمد أمين) في كتابه ((ضحى الإسلام)) بحثاً مطولاً عن آثار الشافعي... وكتبه، نقتبس منه بإيجاز الفقرات التالية للإلمام بأهم هذه الآثار:
قال: ((من أهم ما وصل إلينا من أعمال الشافعي رسالته في أصول الفقه... وقد تكلم فيها فيما يحتاج إليه المجتهد إزاء القرآن من العام والخاص، والناسخ والمنسوخ، وتكلم في موقف المجتهد من الحديث ناسخه ومنسوخه... كما تكلم على الإجماع والقياس... إلى أن قال: وهو بهذا أول من وضع خطة في البحث في أصول الفقه جرى عليه كل من أتى من علماء المذاهب الأخرى. مستشهداً يقول الرازي: ((واعلم أن نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة أرسطاطاليس إلى علم المنطق، وكنسبة الخليل بن أحمد إلى علم العروض....)).
ولما كان كتاب ((الرسالة)) - أول كتاب صنفه الشافعي في علم أصول الفقه، فقد علق عليه الأستاذ (أحمد أمين) - بقوله: ((واعلم أن الشافعي ((رضي الله عنه)) صنف كتاب الرسالة ببغداد، ولما رجع إلى مصر أعاد تصنيف كتاب الرسالة، وفي كل واحد منهما علم كثير، والناس وإن أطنبوا بعد ذلك في علم أصول الفقه، إلا أنهم كلهم عيال على الشافعي فيه، لأنه هو الذي فتح هذا الباب والسبق لمن سبق)).
أما كتاب ((الأم)) - وهو أكبر أثر للشافعي كما يقول أحمد أمين، فقد جاء في تعليقه عليه ما خلاصته: ((وقد ثار الخلاف حديثاً في مصر هل الأم كتاب ألفه الشافعي أو ألفه البويطي؟ وبعد أن أشار إلى دواعي الخلاف قال: ((فالظاهر أنها أمال أملاها الشافعي في حلقته، كتبها عنه تلاميذه وأدخلوا عليها تعليقات من عندهم، واختلفت رواياتهم بعض الاختلاف... على كل حال بين أيدينا مجموعة في سبعة أجزاء، أغلبها من كلام الشافعي رواها عنه تلميذه وأدخل فيها بعض تعليقات، أفردها وبينها حتى لا تلتبس بكلام الشافعي:
ومجموع ذلك هو الذي أطلق عليه ((كتاب الأم)) وقد بوّب على أبواب الفقه، كما فعل مالك في الموطأ، ولكن فيه فصول في أصول الفقه..
وقد أمليت هذه الأبواب في مصر، والعلماء يقسمون فقه الشافعي إلى مذهبين: قديم وجديد فأما القديم فهو ما كتبه وقال به في العراق، وأما الجديد فهو ما كتبه وقال به في مصر:
((ذلك أنه لما جاء مصر عدل عن بعض أقوال له كان قالها من قبل... فغير ذلك من فقه الشافعي في القول بالمذهب الجديد)).
إلى أن يقول: وفي ((الأم)) مصداق لجميع ما ذكرنا عن الشافعي، فهو فيه فصيح العبارة، قوي الأداء، تشوب عبارته بلاغة البادية وفصاحتها، وقوة القرشية وإيجازها.. ثم يقول: وفي الكتاب تظهر قوة الشافعي في الجدل، فأسلوب الكتاب كله تقريباً أسلوب جدلي، حتى ليفترض مجادلاً فيرد عليه، ثم يعترض فيجيب.. إلى أن يقول: وعلى الجملة فالكتاب ثروة كبيرة من حيث دلالته على مناحي الشافعي في الاجتهاد وعلى فقهه وعلى ما كان من أثر مصر في القول بالمذهب الجديد)).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :939  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 98 من 112
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج