شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الاثنينية رقم (11) حفل تكريم الأستاذ السّيد أحمد العربي
بمنزل سعادة الشيخ عبد المقصود خوجه
بتاريخ 28/6/1403 الموافق 11/4/1983م
تقديم الأستاذ حسين النجار:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله عليه أفضل الصلاة والسلام.
أيها الأفاضل: هي البداية واستهلالة خير وبركة نبدأها بخير ما يُبدأ به هذا الجمع الكريم، تلاوة عطرة من كتاب الله الكريم يتلوها الطالب محمد عبد الله صالح، أحد طلبة مدارس الفلاح بجدة.
ـ الطالب محمد عبد الله صالح:
بسم الله الرحمن الرحيم
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ. أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ. يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ. وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (الأنفال: 1 - 8). صدق الله العظيم.
ـ الأستاذ النجار:
صنوه الأصغر خالد عبد الله صالح أيضاً طالب في مدرسة الفلاح لديه أنشودة دينية.
ـ الطالب خالد عبد الله صالح:
في ليلة تتزيا بالنور والإشراق
جبريل جاء النبي يدعوه فوق البراق
هو النبي الأمين له الصعاب تهون
وقوله قول صدق وفعله مأمون
أجب نداء السماء يا سيد الأنبياء
يرعاك رب البرايا في رحلة الإسراء
وحين تم الوصول للقدس صلَّى الرسول
وكان خير رفيق للمصطفى جبريل
صلوا على المختار يُحاط بالأنوار
عند الذي نرتجيه قد فاز بالأسرار
قد عاد يحمل فرضاً خمساً من الصلوات
ويملأ الأرض فيضاً خيراً من البركات
وهذا فوق البراق من فوق سبعٍ طباق
يدعو لمن صدقوه بالفوز يوم التلاق
ـ الأستاذ حسين نجار:
ليلتكم أيها الأفاضل هي ليلة أنس وبهجة ولقاء بين الأحبة.
ضيفنا وأنيسنا هو الأستاذ الشيخ الأديب أحمد بن شريف محمد العربي العلوي. ولد بالمدينة المنورة، وتلقى علومه الابتدائية في المدارس الأميرية بالمدينة، وفي أواخر عصر حكومة الحسين سافر إلى مصر حيث انتظم في سلك الأزهر وحاز شهادتي الابتدائية والثانوية. ولما أوفدت حكومة جلالة الملك عبد العزيز آل سعود المعظم البعثة العلمية إلى مصر سنة 1346هـ انضم إليها وتحول إلى مدرسة دار العلوم العليا فنال شهادتها العالية سنة 1350هـ، وعلى أثرها رجع إلى مكة فعين أستاذاً في المعهد العلمي السعودي. وفي سنة 1352هـ قام برحلة إلى مصر وجزائر الهند الشرقية وبلاد الملايو. وعاد إلى مكة المكرمة في شعبان سنة 1353هـ ومنها سافر إلى المدينة مسقط رأسه لزيارة عائلته فبقي هناك حتى ربيع الأول عام 1354هـ. ثم عين مديراً لمدرسة أمراء الأسرة المالكة بالرياض. وفي سنة 1356هـ عين مديراً لمدرسة تحضير البعثات في مكة المكرمة. وفي سنة 1372هـ عين عضواً بمجلس الشورى. ثم مديراً عاماً للأوقاف، وقضى بها ست سنوات. عاد بعد ذلك عضواً في مجلس الشورى.
هذه أيها السادة الأفاضل إلمامة عجلى بحياة أديبنا وأستاذنا القدير أحمد العربي أمد الله في عمره. وفي ما سيرويه لنا في تضاعيف حياته المليئة بالعمل والجهد والنشاط ما يروى شغفنا لمعرفة الكثير من إسهاماته الخيرة في ميدان العلم والأدب، فهو واسطة العقد بيننا. والكلمة الآن وكما تعودنا للمحتفي الأستاذ عبد المقصود خوجه.
كلمة الشيخ عبد المقصود خوجه
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
من دواعي الحبور والغبطة والسرور أن أتشرف هذه الأمسية بتشريف المربي الجليل الشاعر الأديب الفاضل الأستاذ القدير الكبير السيد أحمد العربي أرحب به أجمل ترحيب، كما أرحب بجمعكم الكريم كل ترحيب وكل تكريم.
أشكر لأستاذنا ورائدنا استجابته الكريمة للاحتفاء به كما أشكر لجمعكم المشاركة في هذا الاحتفاء فلمشاركتكم الأثر الطيب في النفوس ولها تقديرها، فلكم مني جزيل الشكر.
عملاقنا الكبير.. أستاذ أجيال. كما قال الزميل الأستاذ حسين نجار وهو الآن عضو في مجلس الشورى، له مشوار طويل مع العلم وطلابه. وقد بدأ ذلك المشوار في أول بعثة ابتعثتها الحكومة إلى مصر حيث تخرج بعد دراسته العالية منها، ومعروف أن كثيرين من أمثاله يعودون من نصف الدرب لخير مهنة وأكرمها وهي التدريس. إلا أن الأستاذ أحمد العربي أضاء الطريق وأدى الرسالة حتى النهاية ووفى الأمانة فكان خير مثال يقتدى به فله في الواقع كل التقدير ويستحق منا جميعاً كل تقدير بالتكريم وما نقدمه هذه الليلة احتفاء به هو قليل من كثير له على أجيال قامت على بعضها نهضة هذا البلد ورقيه. فله منا الكثير مما أسلفت من التقدير والاحترام والإجلال. يسعدني أن أترك الكلمة له ليحدثنا عن مشواره الطويل، عن العلم وطلابه، وعن جانب من ذكرياته.
وقبل أن أترك الكلمة رأى أستاذنا الكبير الأستاذ محمد حسين زيدان أن تكون الكلمة له أولاً فنستميح الأستاذ الفاضل السيد أحمد العربي عذراً حيث سأعطيه الكلمة.
وأهلاً ومرحباً بكم جميعاً مع أطيب التمنيات والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كلمة الأستاذ محمد حسين زيدان
بسم الله الرحمن الرحيم. والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
تركت كلمة المظْهر للأستاذ حسين نجار وللمحتفى الأستاذ عبد المقصود خوجه، ولا بد لي أن أقول كلمة المُخبَر. هي التي تعطي جوانب النشأة، جوانب الكرامة، جوانب الخلق للسيد الشريف أحمد العربي. لم أعرفه طفلاً وإنما عرفته فتى، تزاملنا في الدراسة فقد كان ينتظم في فصل أكبر منا، أعلى منا، وهو بحمد الله أكبر مني سناً بشيء قليل من السنوات، لعلّها لا تبلغ السنتين.
السيد أحمد العربي مظهره غير مخبره، مخبره يحمل هموماً عِلْوية وهموماً عَلَوية. فالهموم العِلوية جعلته يتفوق بالتعلم، جعلته يتفوق بالعطاء، والهموم العلوية جعلته لا يتجافى مع نسبه العلوي. أنتم لا تعرفون قرباه للأسرة المالكة في المغرب، أسرة الحسن الثاني، فأنا أعرف أنه عندما جاء السلطان عبد الحفيظ إلى المدينة المنورة بعد أن استقال عن العرش كان رفيقاً لمولاي العربي أباه، فإذا ما خاطب مولاي العربي السلطان عبد الحفيظ قال له: مولاي عبد الحفيظ، وإذا خاطبه عبد الحفيظ السلطان قال: مولاي العربي. كل منهما يلقب أخاه بالمولي لأنهما ذو نسب واحد، هو عياشي جذوره تنتمي إلى الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب الذي مات وقبره لا يزال في ينبع النخل. جده بعد الحسن المثنى عبد الله المحصن أو عبد الله الطاهر، الذي خلّف أربعة من الأبناء كلهم قد كان طعام السيف، فالنفس الذكية الذي قتله المنصور بعد أن بايعه، فالمنصور في المدينة قد بايع النفس الذكية، يوم كان إبراهيم الإمام في الحُميد، وإبراهيم قد صار في الكوفة وكاد ينتصر فقتله المنصور، ويحيى بن عبد الله سجنه الرشيد في مخزن من الملح لعلّ نكبة البرامكة كانت بسببه. وإدريس قد رحل إلى المغرب فتزوج البربرية وجاء بابنه إدريس. وإدريس ليس جداً للسيد أحمد العربي فأنا أحسب أن جده إبراهيم.
هذا النسب العالي حافظ عليه السيد أحمد العربي كل المحافظة لا أعرفه إلا أنه النظيف في عرضه وفي كرامته. وله مِنّة علي فحينما هجاني بعضهم عندما كنت أرمداً:
أيا زيدان في عيناك أزعجتني
من الأقذار والنظر الشئيم
كان السيد أحمد العربي أحد ثلاثة دافعوا عني بالشعر. السيد أحمد العربي وأمين الشنقيطي سفير الأردن السابق - أبوه الخضر بن ميابه الجكني العلامة الكبير - والدكتور حمزة الشلبي بن الشيخ عبد القادر الشلبي. أحفظ لهم ذلك. كما أحفظ لهذا الشعر أنه أول من جعلني أشهر فقد دفع محمد سعيد أبو ناصر ريالاً مجيدياً لمن يأتيه بهذه القصيدة. فقابلته في دار الضيافة وقلت له هذه هي القصيدة خذها. قال ما معي الريال. قلت أهديها لك لتعطيني إياه. وفعلت.
لا أريد أن أذكر أستاذية السيد أحمد العربي في المعهد ولا أريد أن أذكر طلبه للعلم وإنما أذكر شيئاً واحداً، طلب في الأزهر وأنتسب لدار العلوم، كأنما كان هو خاصة من طلبة دار العلوم بعلي الجارم وأمثاله ولهذا أريد أن أتجنى على عمر أبو ريشة، فأبو ريشة خير من يلقي الشعر، وأحمد العربي خير من القى الشعر عندنا. ستستمعون نغمات كأنها نغمات عمر أبو ريشة عندما تسمعون أحمد العربي.. لا أكثر فقد أشعر بوعكة فإني تعبٌ جداً ولولا معزة أحمد العربي ما حضرت وقد كتبت عنه في كتابي الذي صدر في الأشياخ ومقالات كما كتب عن بعض العلماء فهو يستحق لأنه من العلماء. ولكن دعوني أذكر شيئاً واحداً. بالأمس كان السيد عثمان حافظ هنا وهو صديقه الحميم فما لي لا أراه اليوم، لعلّه مشغول بمرضه، لعلّه اعتذر. أنا لم أذكر ذلك لألوم عثمان وإنما لأوضح المعذرة ولأوضح أنه لن يتأخر عن السيد أحمد العربي وقد جئت أنت بالعذر. ولكن الذي لا أعذر تلامذته في تحضير البعثات أين هم الآن؟! أين الوفاء؟!
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الأستاذ أحمد العربي:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
شكراً لكم أيها السادة الذين تفضلتم بتلبية هذه الدعوة وشكراً أولاً وقبل ذلك للسيد عبد المقصود الذي تكرم بدعوتي ودعوتكم، وجشمكم ما جشمكم من تعب الحضور في الليل، وشكراً للأستاذ زيدان الذي أفاض عليّ من حسن ظنه ومن شمائله ونبله ما أعجز عن شكره عليه. وفي الحقيقة أني كما يقول المثل العامي أنا الآن في هذه السن لم أعد أستطيع أن آتي بجديد. وكما يقول العوام: ((التاجر لما يفلس يرجع لدفاتره القديمة)). فأنا كنت في حفلة تكريمية سابقة لي في مكة من بعض الأخوان والأبناء الأعزاء، فألقيت عدة قصائد وأمكنني أن أجد منها أبيات قلت أنشدها أمامكم إذا سمحتم عسى أن تكون مقبولة لديكم إن شاء الله.
والحقيقة أنني كنت أريد أولاً أن أتكلم بشيء من التفصيل عن مسيرتي التعليمية ولكن النبذة اللطيفة التي أتى بها الأستاذ النجار بارك الله فيه تغنى عن أن أكرر ما قاله ولا أريد أن أتوسع فيه فأنا الآن أكتفي بتحيتكم ولا آخذ الكثير من وقتكم وأنشدكم بعض الشعر. وأنا آسف فلا أظنني أستطيع أن أحقق ما ظنه بي الأستاذ الزيدان وعهده بي عهد شباب، والآن عسى أن يكون إلقائي مقبولاً بالجملة لا كما ظنه الأستاذ زيدان بارك الله فيه علي ما أفاض علي من الثناء ما يتجاوز قدري وما أعجز عن أداء حق شكره.
تقول الأبيات التي أنشدتها للأخوة الكرام الذين كرموني قبلكم:
يا جيرة الحرم المغبوط جيرته
إني ليشكركم قلبي ووجداني
قلدتموني من تكريمكم مِنَنا
تنم عن خلقٍ بالنبل ريّان
لم آت أمراً جليلاً أستحق به
ما نلته من حفاوات وشكرانِ
وما بذلت سوى جهد المقل يداً
لموطني ولأبنائي وإخواني
فصادف البدر روضاً طيباً فنما
وطاب منه الجنى في ظله الحاني
ولم أقم بسوى فرض أدين به
لموطن حُبه عهدي وإيماني
أرض الرسالة والهدى الذي غمرت
أنواره الكون في قاصٍ وفي داني
ولو بذلت له روحي وما ملكت يداي
لم أوفهِ ما كان أولاني
يا جيرة الحرمين الأقدسين لكم
حبى وخالص تقديري وعرفاني
هذه أبيات من قصيدة طويلة.. شكراً لكم.
ـ الأستاذ محمد زيدان: وأين:
هذا حراء سائلوه يجيبكم
وكأنه سفر من الأسفار
ـ الأستاذ أحمد العربي: نعم. هذه مختارات من قصيدة طويلة.
ننتقل ونقول إن الأستاذ النجار، جزاه الله خيراً، أراحني من كلام طويل عريض لا لزوم له.
إن الريح التي مع الشعر بدأت منذ عهد الصبي إلا أني لم أحتفظ بشيء مما لهوت به قبل رحيلي إلى القاهرة. على أن ما نظمته بعد ذلك لا أزعم أنه يرتقي إلى مرتبة الشعر الجيد غير أن الذي أغراني بالاحتفاظ ببعضه أولاً لأنه يسجل صوراً متواضعةً لما كانت تجيش به نفسي من مشاعر نحو أمتي وعقيدتي ووطني، وثانياً حسن ظن بعض الأخوة والأبناء الكرام بما أطلعوا عليه من ذلك وحثهم إياي على الاحتفاظ به، ولذا فإني أشركهم معي في تحمل مسؤولية ما قد يشعر به البعض، بعض المستمعين الكرام من ضيق بسماعه.
أولاً أبيات في الحنين كنت أثناء طلبي في مصر حننت إلى المدينة المنورة. أستغفر الله، ((معلش)) أنا قدمت هنا، قلت أُجيب شيء مما قلته في مصر وألقيته في مصر في عيد جلوس جلالة الملك عبد العزيز، في مصر سنة 1349هـ أقامت السفارة السعودية حفلاً كبيراً ودعيت مع إخواني طلاب البعثات لإلقاء قصيدة فيه، فألقيت قصيدة أختار منها الأبيات الآتية:
عيد الجلوس ألا حييت من عيد
لأنت أحرى بتكريم وتمجيد
فأنت في العُرُب يومٌ لا مثيل له
وأنت غرة ما في الكون من عيد
يا أيها المهرجان الفخم رونقه
لأنت في العين أبهى من سنا الغيد
عليك بهجة حسنٍ غير مفتعل
وروعةٌ وجلالٌ غير مجدود
وإن يوماً سناء الملك جلله
يوم جدير بتكريم وتخليد
يومٌ تمجد فيه العُرب عاهلها
عبد العزيز سليل السادة الصيد
العاهل الفذ مَن أمست مآثره
ملء الممالك والأمصار والبيد
ذاك المليك الذي مذ لاح كوكبه
للعرب ألقت إليه بالمقاليد
فقام بالأمر فيها جد مقتدر
يسوسها بنظام جد محمود
وقاد بالحزم والتوفيق نهضتها
فلم تزِل ولم تجمح بمقصود
سعى لضم شتات العرب فالتأمت
به وفازت بتأليف وتوحيد
أقال عثرتها من فرقة عصفت بها
وكم بددتها شر تبديد
وما ونى قط في إسعاد أمته
وجلب كل جديد غير منقود
فكم له من يد جلت صنائعها
عن البيان وفاقت كل تمجيد
تلكم معاهدة بالعلم زاهرة
إلى مصانع شيدت أي تشييد
وتلك بعثاته في كل منتجع
لها مناهل تثقيف وتسديد
تفيأت عطفه الحالي فكان لها
من حبه خير تشجيع وتأييد
هذا ما أخذته من هذه القصيدة.
أما قصيدة الشعر التي كنت أتشوق فيها إلى المدينة المنورة وأنا أدرس في مصر وكنت متأثراً بقصيدة البحتري السينية الشهيرة:
صنت نفسي عما يدنس نفسي
وترفعت عن جدا كل جبس
وبقصيدة شوقي:
اختلاف النهار والليل ينسى
وذكريات الصبى وأيام أُنسي
على أني لست أزعم أنني استطعت أن ارتقي إلى مستوى أي من القصيدتين. وحسبي أن أقتفي أثرهما في محاولة للتعبير عما جاش في صدري من مشاعر أرجو أن أكون قد وفقت إلى إبراز صورة مقبولة منها.
وفي ما يلي أبيات القصيدة:
طال عهد النوى وعز التأسي
عن بلاد غرامها ملء نفسي
وربوع فديتها بفؤادي
عشت فيها عهد المنى دون وكسِ
ورياض كأنها من رواءٍ
وازدهار تزهو بموكب عرسِ
وكأن الورود ثوب عروس
عسجدي منمق بدمقسِ
وتخال النخيل والشمس تكسوه
بأضوائها منارة قسِ
وترى الطل يستسُر حديثاً
أذن الزهر بين همس ولمس
ثم يفشي ذاك الحديث هَزارٌ
دأبه الشدو حين يضحى ويمسي
وتحيي الصب الغصون فتختال
وتبدو كمن يحيي برأس
وإذا ما التفت نحو الروابي
شمت سرباً من الظبا غير نكس
لابسات من العفاف مُلاءً
يُحْسُر الطرف دونهن ويخسي
يا ربوعاً بالجذع جذع قباء
والعوالي قربانكن بنفسي
كم لنا فيك ذكريات غوالٍ
لم يشب سعدهن قط بنحس
مع رفاق غرٍ سراة تساموا
لذُرا يعرب وسادات فرس
نتساقى من البيان رحيقاً
أدباً نادراً وطرفة طرسي
في حمى طيبة المفداة جادتها
الغوادي بكل غيث مُلِس
مهبط الوحي دار أكرم
خلق اللَّه خير الأنام من كل جنس
هي دار الإيمان والسادة الأنصار
من خزرج كرام وأوس
وإليها أوى المهاجرة أبطال
من هاشم ومن عبد شمس
حملوا من ربوعها شعلة الدين
فدكوا عروش روم وفرس
هي داري ولست أسلو هواها
ما حييت وإن أُوارى برمسي
كيف أسلو وذاك شأن بلادٍ
في رباها نما وأينع غرسي
زادها اللَّه عزة وسناء
وحماها من كل ضر وبأس
هذا ما اخترت من تلك القصيدة.
وإذا كانت هذه القصيدة تعبر عن بعض مشاعري نحو طيبة الطيبة فإن مشاعري نحو أم القرى لا تقل توهجاً بالحب والتقديس لهذا البلد الأمين الذي شرفه الله بالبيت المقدس وبمولد أفضل الرسل عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم وببزوغ فجر الإسلام في ربوعها، ومهما أشدت بفضله ونوهت بمنزلته فلن أفي بحق الإشادة والتنويه. وأما في موقفي هذا أكتفي بمقتطفات من القصيدة التي ألقيتها في الحفل الذي أقامه الشباب في منى في عام 1355هـ تكريماً لإعلام وفود الحجيج أذكر منها ما يأتي. وقد اختصرت منها طبعاً كثيراً. قلت:
هذا الحجاز تأملوا صفحاته
سفر الخلود ومعهد الآثار
ومواقف لم يشهد التاريخ
مثل جلالها في أمجد الاعصار
جثمت على تلك الأباطح والهضاب
وأشرقت ترنو إلى الأقدار
ومضت تقص على العصور حديثها
والقوم في لهو وفي إدبار
ثبتت على رغم الكوارث والخطوب
تعيد سيرة مجدها المنهار
وتهيب بالهمم الأبية أن تهب
لبعث كنز تراثنا المتواري
هذا حراء سائلوه يجيبكم
وكأنه سفر من الأسفار
واستلهموه مواقف الوحي التي
شعّ الهدى منها على الأقطار
وسلوه ماذا قد أقل من البطولة
والحجى أَعْظِمْ به من غار
أخلق بغار حراء أن يزهى
على الإيوان والأهرام والآثار
كم بين صاحبه وبين بناتها
من فارق أربي على الأقدار
شتان بين محرر الإنسان
والمستعبدين سلائل الأحرار
اللَّه أكبر ما أجل صحائف
السفر الحفي بسيرة المختار
ما أروع الذكرى تطيف بنا
هنا لمحمد ولصحبه الأبرار
في مثل ليلتنا وفي تلك المواقف
من منى وحيال هذي الدار
وقف ابن عبد اللَّه يملي عهده
ويهيب بالنقباء بالأنصار
أن ينصروا دين الإله ويمنعوا
أشياعه من سطوة الكفار
ما كان أنبل موقف الأنصار
من كرم وتضحية وحُسْن جوار
للَّه قالتهم لقد زانوا بها
فرق الزمان وهام كل فخار
خذ يا رسول اللَّه ما أحببت
من عهد وما أحببت من إيثار
ولنمنعتَّك بالنفوس وبالنفيس
ونفتديك مصارع الأخطار
اللَّه أكبر يا له من موقف
يوحي إلى الاحفاد خير شعار
اكتفي بهذا.. شكراً لكم.
(الحاضرون يصفقون استحساناً).
لا أريد أن أطيل عليكم فعندي نماذج كثيرة ولكن طبعاً الوقت لا يتسع.. فقط فيه قصيدة حييت بها نسورنا الطيارين أول بعثة طيران كان لها صدى حسن، فاخترت أن أنقلكم إلى جوها عسى أن تخفف عنكم من ثقل إلقاء بعض الأبيات.
وقد قلت في هذه القصيدة:
أهلاً بقادمة النسو
ر طليعة العهد النضير
الرافعين لواء مجـ
ـد بلادهم فوق الأثير
المنتضين عزائما
أمضى من السيف الطرير
أهلاً بمفخرة الحجا
ز ورمز سؤدده الخطير
إن الحجاز وكل من
ضم الحجاز بكم فخور
هو أيككم وعلى ربا
ه نما جناحكم الصغير
ولكم حباكم عطفه
وحنانه الجم الغزير
وغذاكم بلبانه..
وبمائه العذب النمير
وأظلكم بسمائه..
وبجوه الصافي المنير
أفلا ترفرف في ذرا
ه اليوم أعلام السرور؟
وهو المهاد ومنبت الـ
أجداد والوطن الوثير
* * *
وطن أقلت أرضه
خير الخلائق والعصور
ومشى على جنباته..
جبريل والروح الكبير
وتمخضت أعطافه
عن ذلك الماضي النضير
أفلا يحن إلى النهو
ض ويستجيب إلى البشير؟
* * *
هذا الحجاز اليوم في
طرب وذاك صدى الشعور
خرجت زرافات بنو
ه تموج في حلل السرور
يتسابقون إلى الحما
سة والحفاوة بالنسور
يا ليت شعري أي جد
وي للحفاوة والحبور
ولهذه الأصوات تذ
هب في الفضاء ولا تحور
إن لم نعِّد الطائرا
ت تبز أسراب الطيور
ونشد أزر نسورنا..
بالمال والعضد النصير
أرأيتم في الجو طيـ
راً دون أجنحة يطير؟
أرأيتمُ أمراً بغيْـ
ـر المال تم له الصدور؟
المال إكسير الحيا
ة وعنصر الفوز الكبير
والمال مثل الغيث من
قطراته تجري البحور
وقليلهن من الكثير
يكافىء الجمّ الغفير
فليسد كل ما يطيـ
ق لرفعة الوطن الجدير
هذا لعمركم الفخا
ر وذاك مضمار الفخور
بالجد تكتسب العلا
لا بالأماني والغرور
لو أن بالآمال والـ
أقوال تنقاد الأمور
لم يلف في الجُلَّى لنا
نِدٌّ ولم يُذكر نظير
فلقد ملأنا الوهم آ
مالاً تضيق بها الصدور
ولقد ملأنا الصحف أقـ
والاً تضيق بها السطور
ولقد وقفنا والزما
ن وكل ما فيه يسير
ولقد هجعنا والحيا
ة وكل ما فيها يمور
* * *
ولقد بدأنا اليوم نشـ
ـعر بالحياة وبالنشور
عجباً أنحن سلائل الـ
أعراب معجزة العصور
عجباً أنحن بنو أسا
تذة الحضارات الصدور
أنكون أول مبدعي الطـ
ـيران آخر من يطير؟
أسفاً وقد يجدي التأسـ
ـف حين يحتث الشعور
ولعلّ في هذا الشعو
ر بوارق العهد المنير
* * *
يا أيها الرب المجد
قدومه الأمل النضير
حدث بني الشرق الطمو
ح بما لدى الغرب الخطير
وأبن لنا كيف استبد
وا بالبرور وبالبحور
واستعبدوا الجو الطليـ
ـق وذللوا متن الأثير
وأذكر أعاجيب التقد
م ثم، والعلم الجسور
واضرب لنا مثل الفتو
ة والشباب المستنير
وارفع لواء العرب خفـ
ـاقاً على هام الدهور
فعليك قد عقد الرجا
ء وأنت جد به جدير
* * *
وإذا النسور غدت طليعـ
ـة أمة وهم الصدور
بلغوا ذري المجد الرفيـ
ـع وحلفوا بين البدور
وإذا النسور ترسموا
آثار عاهلنا الكبير
صقر الجزيرة وابن ذرو
ة مجدها وأبي الصقور
ضمنوا ليُعرب نهضة
ستكون مفخرة العصور
* * *
عاش المليك ويعرب
بقيت على مر الدهور
عاش المليك وعاشت الـ
أشبال ولتعش النسور
على إثر رحلتي - كما ذكر الأستاذ النجار - بعد أن أتممت تعليمي في مصر اشتغلت في التدريس هنا في المملكة نحو سنتين ثم رحلت إلى جاوا في رحلة علمية. كنت أريد المغرب وأراد الله أن يكون المشرق فذهبت إلى جاوا.
وقد ركبنا من مصر باخرة كبيرة ومكثنا في البحر نحو شهر أو شهر وثلاثة أسابيع، وصلنا إلى سنغافورة وهناك أقمنا نحو شهر وألقيت محاضرة في النادي الأدبي الذي أقامه السادة السقافين، وفي الحقيقة أكرمنا هناك السادة السقافين ثم ذهبنا إلى جاوا. فعلى إثر الرحلة نظمت قصيدة وأنا في جاوا اذكر رحلتنا في البحر على طيقة الموشح، أشبه بالأندلسية، أقرؤها عليكم:
أي صوتٍ هز في النفس رجاها
ودعاها فاستجابت إذ دعاها
وانبرت تعدو إلى الغاية وثبا
أنفسٌ قد وطنت عزماً وقلباً
أن تغذ السير في الآفاق دأبا
لا تبالي ما تلاقي في هواها
أتلاقي السعد أم تلقى رداها
أي صوت ذاك أم أيُّ نداء؟
دب فينا كدبيب الكهرباء
فاستهنا كل جهد وعناء
وهجرنا فيه أهلاً ورفاها
وبلاداً ملء أحشاء هواها
إنه هاتف ذا الشرق العتيد
وأحب أن أذكر صاحبيّ، ولا أدري إذا كان كلاهما توفي ربما، عليهما رحمه الله، إنهما عبد الله الخطيب وصالح الخطيب وكانا زميلاي اللذان رحلت معهما إلى إندونيسيا وهما اللذان رغباني إليها لأنني كنت مسافراً إلى المغرب وذهبت إلى مصر وتعكست رحلتي إلى المغرب وهما كان لهما رغبة في السفر إلى جاوا فرغباني في ذلك. وسافرت معهما.
أشرت هنا إليهما كانا يساعداني في تلك البلاد جزاهما الله عني خيراً.
ـ أحد الحاضرين: صالح الخطيب موجود.
ـ الأستاذ العربي: موجود؟ طيب الله يسلمه ويحفظه إن شاء الله. هل هو مقيم في مصر؟
ـ أحد الحاضرين: صالح أخو حسين.
ـ الأستاذ العربي: نعم. هم ثلاثة أشقاء. وصالح كان طياراً في الأول.
ـ أحد الحاضرين: نعم - موجود في القاهرة.
ـ الأستاذ العربي: جزاه الله خيراً. إنه نعم الأخ ونعم الزميل - نعم أعود للقصيدة.
هاتف أسفر عن عهد جديد
ربما أربي على الماضي المجيد
لم لا. والشرق قد عج انتباهاً
وخطا للغاية الجلَّى خطاها؟
ما أهاب الشرق بي وبصاحبيا
هاتفاً إلا وأحسسنا دويا
لصداه بين جنبينا قويا
فإذا أنفسنا جُل مناها
أن تلبي صوته لما احتواها
فعزمنا وامتطيناها سفينا
تمخر اليم بنا رفقاً ولينا
وهو كالمهد لها حيناً وحينا
تارة تبصره طوع رجاها
فتراها كعروس في سراها
وأحايين تراها تتنزى
كتنزي الحوت في الإشراك قفزاً
وعباب البحر من ذلك يهزا؟
فهو لا ينفك مغري بأذاها
كلما مرت على موج رماها!
هَبْ عباب اليم أصلي الفلك بأسا؟
أتراها طأطأت للعجز رأسا؟
أم تُراها نكصت خوفاً ويأسا؟
إنها ما أسلمت قط شباها
لا ولا لانت على الغمز قناها
يا لها من صاحب نعم المؤسّى
فلقد ألقت علينا خير درس
في طلاب المجد لو يجدي التأسي
ولكم موعظة أسدي هداها
أعجم لم يدر يوماً ما لُغَاهَا؟
يا ابن هذا الشرق إن رمت النجاحا
وثقفت العلم واعتدت الكفاحا
فتعلم أن للفوز سلاحا
همة شماء لا يدري مداها
وجهاداً دائباً في مبتغاها
أيها المسلم في الشرق العريق!
أنت للمسلم في الدين شقيق!
لِمَ لا تعتز منه بصديق؟
وحدة قد شيد الدين بناها
لِمَ لا نبلغها أسمى ذراها؟
لِمَ يا إخوتنا لم نأتلف؟
لِمَ لا نعمل كِتفاً لكتف؟
أنسينا ماضياً فينا سلف؟
حيث كنا قوة عَزٍّ حماها
أحكم الإسلام توثيق عراها!
إننا لم نرق في تلك العُصُر
ونسد إلا بذا الدين الأغر!
وبتوحيد الجهود والوطر!
هل رأيتم أمّة نالت مناها
بسوى الجد وتوحيد قواها؟!
هكذا تاريخنا علمنا
أن نسوي أبداً وحدتنا
ونضحي نفتدي عزتنا!
شرعة أن نحن أعلينا لواها
بلغتْ أوطاننا أوجَ علاها!!
لا أغالي أنا إن كنت البشير!!
بالذي نرجوه من شأوٍ خطير
فجهاد الشرق بالفوز جدير!
إننا نلمس روحاً يتضاهى
في شباب طاب في الشرق جناها!
لم لا والشرق مهد الحكماء؟
لم لا وهو منار النبغاء؟
أيظل الشرق وهو ابن ذكاء!
ظلمات أطبق الجهل عماها؟
سبة تلك، سينجاب دجاها!
فلقد لاح سنا الفجر المبين
وتبارت عزمات العاملين
سدد اللَّه جهود المخلصين
أمة أن يهد ذا نفس هداها
يكن التوفيق صِنواً لرجاها
والسلام عليكم ورحمة الله.
كلمة الأستاذ عثمان حافظ
ـ الأستاذ حسين نجار: كلمة صديقك القديم الجديد الأستاذ عثمان حافظ الذي حالت ظروفه الصحية دون أن يكون هنا ليلقي كلمته بين يديك.
ـ الأستاذ العربي: شكراً وعافاه الله.
كلمة الأستاذ عثمان حافظ (ألقاها الأستاذ النجار):
الحمد لله والصلاة والسلام على مصطفاه وآله وصحبه ومن والاه.
فقد قال لي صاحبي وهو يتحدث عن فضائل السيد الصديق أحمد العربي: أنت يا عثمان يجب أن تقدم السيد أحمد العربي لصداقتكما القديمة العريقة وأنت تعرف عنه ما لا يعرفه الكثير منا وقلت له قد يكون ذلك، ولكن مشكلتي أنني ما تعودت الوقوف على المنابر ولا أعرف أنني قد وقفت خطيباً في حياتي إلا مرتين اثنتين، أولاهما عندما تكرم بعض الأصدقاء بإقامة حفل تكريمي لنا بمناسبة صدور العدد الأول من جريدة المدينة المنورة عام 1356هـ، وكان لا بد من إلقاء كلمة شكر على هذا العمل الطيب، والمرة الثانية عندما أقمنا حفل تكريم للدكتور محمد الخاشقجي رحمه الله بعد عودته إلى المدينة، يحمل شهادة الطب وعين مديراً للصحة في المدينة المنورة، وكنت أحد المتحمسين لإقامة الحفل فلم أستطع التخلص من إلقاء كلمة في الموضوع.
وأذكر أنه عندما كان أستاذنا السيد أحمد صقر رحمه الله يشير إليَّ بسبابته في درس المحفوظات يدعوني لإلقاء قطعة شعرية من محفوظاتنا، كنت أتلعثم أثناء الإلقاء مما أشعر به من هيبة الموقف مع أني كنت أحفظ تلك القطع الشعرية قبل موقفي الخطابي، إنه نقص كنت أشعر به وأحسه وأخجل منه، ولكن لا حيلة لي فيه، فإني هكذا خلقت، ويعزيني أن كتب الأدب مملوءة من أولئك الذين تحرجهم مثل هذه المواقف. والناس في هذا على فريقين. فريق يقول قائلهم:
لقد علم الحي اليمانون أنني
إذا قلت أما بعد إني خطيبها
ويقول قائل الفريق الثاني:
وفي النفس حاجات وفيك فطانة
سكوتي بيانُ عندها وخطاب
وقالوا عن أمير الشعراء أحمد شوقي إنه ما رؤى قط يروي شيئاً من شعره مع طول باعه في الشعر. يقولون إنه ليست لديه موهبة الإلقاء. هكذا وضعي مع التخلف في الوقوف على المنابر. ولكن هذا الموقف مع الصديق الحبيب السيد أحمد العربي قد أنطقني وشجعني على الحديث.
إن السيد أحمد العربي أيها السادة هو صديق العمر ورفيق الحياة منذ طفولتنا المبكرة فقد كنا نسكن متجاورين يفصل بين منازلنا جدار واحد، وكنا دائماً نتبادل كؤوس الشاي الأخضر المنعنع من النوافذ ونتذاكر دروسنا من النوافذ. ولقد قضينا فترة طويلة من حياتنا اليومية لا نفترق إلا وقت النوم كنا بعد صلاة الفجر بالمسجد النبوي نتلقى دروس النحو والصرف على والده الجليل الشريف محمد العربي رحمه الله - وبعد تناول الإفطار كنا نذهب سوياً إلى مدرسة جوهر آغا، وكان ناظر هذه المدرسة أستاذنا الشيخ عبد القادر شلبي رحمه الله، ندرس عليه مختلف العلوم والفنون، وكان معنا عدد من الزملاء ومنهم الأستاذ الكبير محمد حسين زيدان. وبعد العصر نخرج سوياً للفسحة إما في باب الشامي أو في باب العنبرية أو إلى أحد البساتين القريبة كالحجازية، والمراكشية وبعد المغرب في درس بالمسجد النبوي عند الشيخ عبد القادر شلبي رحمه الله - وهكذا لا نفترق إلا ساعات النوم.. وكنا ولله الحمد في تفاهم دائم وتعاون وصداقة بصورة مثالية. ولا أذكر أننا اختلفنا أو تنازعنا في شيء واستمرت ولله الحمد هذه الصداقة والإخاء أكثر من ستين عاماً أدام الله هذه الصداقة وزادها وثوقاً.
وكان السيد أحمد العربي مثالاً للخلق الكريم والخصال الحميدة فلا يلقاك إلا هاشاً باشا دائماً. ويكون نظيف القلب فلا يضمر سوءاً لأحد ولا يحقد على أحد نظيف اللسان والقلم فلا يذكر أحداً بما يكره في غيابه أو حضوره، عزيز النفس شامخ الأنف، من الذين يقول فيهم الشاعر:
خلقتُ عزيزاً لا أرى لابن حرة
عليّ يداً أغضى لها حين يغضب
وإذا سمح لي ذكرت حادثة مر عليها حوالي أربعون عاماً وما زلت أذكرها، تلك إنه عندما كان مديراً لمدرسة تحضير البعثات بمكة المكرمة تعين بالمدرسة أستاذان وكانا ذوي حظوة لدى بعض المسؤولين وعين لكل واحد منهما مائة ريال شهرياً وكان مرتب السيد أحمد مائة وثمانين ريالاً. وكنا وغيرنا نقول لازم تطالب بزيادة مرتبك أسوة بهم فإن ذلك من حقوقك ولكنه رفض ذلك تعففاً وترفعاً.
وكان على جانب كبير من العلم والفضل والثقافة وله باع طويل في الأدب شعراً ونثراً. فلقد نشر في أول عدد من جريدة المدينة المنورة قطعة شعرية رائعة نشرها قبل حوالي نصف قرن اذكر هنا بعضاً منها وكانت تحت عنوان ((إيه يا بدر)) يقول فيها:
إيه يا بدر كم يدّ لك
وضاءة ملء النهى وملء القلوب
إيه يا بدر بوركت يدك
البيضاء عندي وعند كل أريب
أنت يا بدر شعر لحن الخلود
أنت أنشودة الرجاء السعيد
أنت قيثارة لحن هذا الوجود
أنت إلياذة العوالم من فجر
شروق الحياة حتى الغروب
وعلى لوحك الوضيء تجلّت
سينماء هذه الحياة اللعوب
رب ليل نهبته في جوارك
أتسلى عن الهوى بجوارك
أشتري الكون من ظلال إهابك
والقصيدة طويلة وكلها على هذا النسق من الإبداع والجمال وأنا أعرف بأن السيد يتمتع بإلقاء جيد في رواية الشعر.
وللصديق السيد أحمد العربي قصيدة رائعة كان ألقاها في حفل تكريم أول بعثة للطيارين السعوديين أقامه شباب جدة بمناسبة عودتهم للمملكة. وقد نشرت القصيدة في أم القرى في الثامن عشر من المحرم 1355هـ. (وقد تليت على أسماعكم).
والشعر في نظري كثوب العروس فكما أن العروس لا يكتمل جمالها وبهاؤها ورونقها إلا بثوبها الأنيق الجميل، فإن الشعر أيضاً لا يكتمل جماله وتأثيره إلا بإلقائه.
هذا ما أردت قوله في هذا المجال. شكراً لكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ـ الأستاذ محمد زيدان: إذن ما دام الإلقاء هو الشعر فعمر أبو ريشة هو الذي سيمتعنا.
ـ الأستاذ أحمد العربي: كلنا نضم أصواتنا للأستاذ زيدان.
ـ الأستاذ حسين نجار: إذا سمحتم لي. هذا المطلب سيكون واجباً ولكن الأستاذ هاشم زواوي له كلمة أيضاً في هذه المناسبة. نرجو أن نستمع إليها أولاً.
كلمة الأستاذ هاشم زواوي
السيد هاشم يوسف زواوي يتحدث عن المحتفى به:
بسم الله الرحمن الرحيم وأحمد الله.
السيد أحمد العربي عرفناه شاعراً مجيداً وملقياً خطيباً يسلب السامعين بإلقائه الجميل وروعة نبراته البينة الناطقة بما يختلج ويعتلج في صدره من أحاسيس ومشاعر. وأنا آسف لأن الصحة لم تسعف الأستاذ الكبير ليتحفنا بنغماته في الإلقاء، ولكننا قد سمعناه نحن الذين شاركناه ردحاً من الزمن مشاركة في سبيل النهضة الأدبية والشعور بالواجب الأدبي نحو بلادنا وأوطاننا. وللتاريخ أقول لكم أيها السادة أنه كانت هناك لجنة الشباب العربي السعودي وكان يرأسها والد صديقنا الذي أضفى علينا من كرمه وخلقه ما يجعلنا نتمتع بهذه الأمسيات العطرة في جو من الأدب الرائع والطرف التي نحظى بها من كتب قيمة وما إلى ذلك.
فالأستاذ أحمد العربي كان عضواً في هذه اللجنة ولعلّي أذكَّره بأن آخر مساهمة للجنة كانت حينما أسهم فضيلته والسيد محمد شطا رحمه الله والأخ عبد الله مرزوق رحمه الله وقائل هذا الكلام فذهبنا إلى حضرة صاحب الجلالة وكان يومها نائباً لجلالة الملك في مكة ندعوه لتكريمه فاستجاب سموه آنذاك وطلبنا منه أن يركب سيارة مكشوفة ولم يتعود آل سعود أن يركبوا سيارة مكشوفة ويمروا بها في الشوارع. فخرج من بيته ماشياً إلى الحفل وذلك لأننا أعددنا له نخبة من التلاميذ الصغار ليرموا على سموه بالورود والزهور فكانت لفتة من سموه أن جاء ماشياً من بيته إلى مقر الحفل وهو دار الأشراف التي كانت أوتيل الحكومة. وبعد الحفل ذهبنا في اليوم التالي إلى سموه وكان معنا السيد أحمد العربي.
وثاني مشاركة كانت وهو بصفته مديراً لمدرسة البعثات حيث تخرج أول فوج من الطلاب فيهم الدكتور علوي جفري، والدكتور حسن نصيف والدكتور حامد هرساني وأسعد جمجوم وسعيد سناري (يقولون له محمد سعيد آدم) ومعتوق باحجري ونخبة من شبابنا الذين أنهو دراستهم الثانوية في المدرسة التي كانت تدعى مدرسة تحضير البعثات وتوجهوا إلى مصر وإني أحمد الله أنهم عادوا إلينا ملء العين والبصر.. فهذه الجهود التي بذلها السيد أحمد العربي أنبتت نبتاً حسناً، ولا زال السيد أحمد العربي يعطي حتى يومنا هذا عطاءً ثرياً لا أستطيع أن أوضحه للسامعين ولكن أستطيع أن أشكره على ما يبذل، وختاماً أسأل الله له مديداً من العمر وأن يجعل أيامه في رفاهة وهناء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ـ الأستاذ أحمد العربي: شكراً يا سيد هاشم.
ـ الأستاذ حسين نجار: ونعود لمطلب الجمع، إلى شاعرنا الأستاذ عمر أبو ريشة.
ـ الأستاذ محمد حسين زيدان: هذا المطلب فيه معنى التكريم منك لنا، وفيه معنى التكريم منا لك.
ـ الأستاذ عمر أبو ريشة: مجنحات زيدان مشهورة. وليسمح لي صديقنا وأديبنا الكبير الأستاذ زيدان أن أقدم أنا نفسي بنفسي. فأقول:
ربي ضاقت ملاعبي في الدروب المقيدة
أنا عمرٌ مخضبٌ وأماني مشردة
ونشيدُ خنقت في كبريائي تنهده
ربي ما زلت ضارباً من زماني تمرده
بسماتي سخيةٌ وجراحي مضمدة
وإذا أراد الأستاذ زيدان صورة أخرى تمثلني أعرضها هكذا:
تتساءلين.. على م يَحْيَا هؤلاء الأشقياء..!
المتعبون ودربُهمْ قفرٌ ومرماهمْ هباءْ
الذاهلون الواجمون أمام نعشِ الكبرياءْ
الصابرون على الجراح المطرقون على الحياءْ!
أنستْهُمُ الأيامُ، ما ترفُ الحياة وما البكاءْ
أَزْرَتْ بدنياهمْ، ولمْ تترك لهم فيها رجاءْ
تتساءلين.. وكيف أَعْلَمُ ما يروْنَ على البقاء؟!
إِمضي لشأنِكِ أُسكتي أنا واحدٌ من هؤلاء!
وسمعت منذ دقائق أديبنا الكبير يتحدث شعراً عن نسر ولى حديث طويل مع نسرين، النسر الأول رأيته في قريتي أيام العز طبعاً جاثماً على أنقاض قصر قديم روماني لا يستطيع غير الظن أن يتحدث عن ماضيه قلت:
قفي قدمي إن هذا المكان
يغيب به المرء عن حسِّهِ
رمالٌ وأنقاضٌ صرحٍ
هوتْ أعاليه تبحث عن أُسُه
أقلب طرفي به ذاهلاً
وأسألُ يومي عن أَمْسِهِ
أكانت تسيل عليه الحياة
وتغفو الجفون على أُنْسِه
وتشدو البلابل في سَعْدِه
وتجري المقادير في نحْسِهِ؟
أأستنطقُ الصخر عن ناحِتيه
وأستنهض الميتى من رَمْسِه
حَوافِرُ خيل الزمانِ المُجِدِ
تكادُ تُحدِّثُ عن بُؤسِه
فما يَرضعُ الشوكُ من صدره
ولا ينعبُ البومُ في رَأسِه
وتلك العناكبُ مذعورةٌ
تريدُ التَّفَلُّتَ من حَبْسِه
لقد تعبتْ منه كَفُّ الذمَار
وباتتْ تخافُ أَذَى لَمْسِه
هنا ينفُضُ الوهم أشباحَهُ
وينتحر الموتُ من يأسه
والنسر الأخير رأيته بعد سنوات من هذه الحادثة على كومة من صخور فسألت أحد أصدقائي الفلاحين بالقرية: ماذا يفعل هذا النسر هنا، له آفاقه. قال لم نشأ أن نصطاده إلا بعد موافقتك. إنه هنا منذ أسابيع يأكل من عجاف الطير. ذكرت هذه الحادثة لما عينت وزيراً وأخرجت من بلادي عام 1948. ذلك النسر سألت عنه الفلاحين فقالوا إنه لم يعد ولذلك لم نتمكن من صيده. قلت إنه عاد إلى تلك القمم ليموت فيها.
أصبحُ السّفحُ ملعباً للنسُّورِ
فاغضبي يا ذُرى الجبالِ وثُوري
إنّ للجرحِ صيحةٌ فابعثِيها
في سَماعِ الدُّنى فَحيحَ سَعيرِ
وإطْرحي الكِبرياءَ شلْواً مُدمَى
تحتَ أقدامِ دهرِكِ السّكيرِ‍‍!!
لَملمي يا ذُرى الجبالِ بقايا النّسرِ
وارمي بها صُدور العُصورِ
إنّه لَمْ يعدْ يُكحِّلُ جَفنَ النّجم
تيهاً بريشهِ المنثُورِ!
هجرَ الوكر ذاهلاً وعلى عَينَيه
شيءٌ منَ الوِدَاعِ الأخيرِ
تاركاً خلفَهُ مواكِبَ سُحُبٍ
تتهاوى من أُفقِها المَسحُورِ
كم أكبَتْ عليه، وهي تُنديّ
فوقَهُ قبلةَ الضُّحى المخمورِ
* * *
هَبَطَ السّفح.. طاوياً من جناحَيْهِ
على كلّ مَطمحٍ مَقْبورِ
فَتَبَارَت عصائبُ الطّير ما بينَ
شرودٍ من الأذى ونفُورِ
لا تطيري، جوَابةَ السّفح، فالنَسرُ
إذا ما خبرتِهِ لمْ تطيري
نَسَلَ الوَهْنُ مِخْلَبَيْهِ وأدْمَتْ
مِنْكَبَيْهِ عواصِفُ المقدُورِ
والوقارُ الذي يشيعُ عَلَيْهِ
فضلةُ الإرثِ من سحيقِ الدهورِ!!
* * *
وقَفَ النْسرُ جائعاً يَتَلَوّى
فوقَ شِلْوٍ على الرّمالِ تَثيرِ
وَعِجَافُ البِغاث تَدْفَعُهُ
بالمِخْلَبِ الغَضِّ والجَناحِ القصيرِ
فَسَرَّتْ فيهِ رعشةٌ من جُنون
الكبرِ واهتزَّ هِزّةَ المقرورِ
ِومضى ساحباً على الأُفُقِ الأغبر
أنقاضَ هيكلِ مَنْخُورِ
وإذا ما أتى الغياهِبَ واجْتَازَ
مدى الظّن من ضميرِ الأثيرِ
جَلْجَلَتْ منهُ زَعقَةُ نَشّتِ الآفاقُ
حَرّى من وَهْجِها المُستطيرَ
وهوى جثّةً على الذّروةِ الشّمَاءِ
في حضنِ وَكْرِهِ المَهْجُوِرا!
أيَها النَسْرُ هَلْ أعُودُ كَمَا عدْتَ..
أم السّفْحُ قَدْ أَمَاتَ شُعُورِي؟!
ـ الأستاذ حسين نجار: يقول شاعرنا الأديب الأستاذ القدير أحمد بن الشريف محمد العربي قصيدة عن العيد أقرأ عليكم أبياتها:
أيها العيد كم تثير شجوني
وتورّى من وجدي المكنون
فلكم خلف ثوبك الفاتن الخلا
ب من لوعة وشجو كمين
أيها العيد كم تخطيت قوماً
هم من البؤس في شقاء قطين!
لم تزدهم أيامك الغرُّ إلا
حسرة في تأوه وأنين!
أبصروا المترفين فيك وللنعـ
ـمى عليهم رواء يسر ولين
كل رهط يفتنّ في المأكل الملـ
ذوذ والملبس الأنيق الثمين
لا يبالي ما أنفقته يداه
في الملاهي من طارف ومصون
وإذا ما دعاه للبر داع
فهو في المكرمات جد ضنين
* * *
أيها العيد رب طفل يعاني
فيك من بؤسه عذاب الهون
هاجه تِربه بملبسه الزا
هي وكم فيه للصبا من فتون
فَرَنَا نحوه بطرف كليل
ليس يقوى على احتمال الشجون
ثم ولى والحزن يفري حشاه
مستغيثاً بعطف أم حنون
وجثا ضارعاً إليها يناجيـ
ها بدمع من مقلتيه هتون
ويحها ما عسى تنال يداها
وهي خلو الشمال صفر اليمين
كل ما تستطيعه عبرات
من عيون مقرحات الجفون
أيها الناس إنما العيش ظل
زائل والحياة كالمنجنون
فلكم قوض الزمان صروحاً
وصروف الزمان شتى الفنون
رب ذي نعمة وجاه عريض
آض (1) ذا شقوةً وهم حزين
أيها الموسرون رفقاً وعطفاً
وحناناً بالبائس المحزون
ربما بات جاركم طاوياً جو
عاً وبتم تشكون بشم البطون
ربما ظل طيلة العيد يستخـ
في من الصحب قابعاً كالسجين
يتوارى من سوء منظره المز
رى ومن حاله الكريه المهين!
أي فضل للعيد يستأثر المثـ
ـرون فيه بالطالع الميمون!
والفقير الكثيب يرجع منه
بنصيب المرَزَّأ المغبون!
كل دهر المثرين عيد فما أغنى
ثَراهم عن عهده المضنون
* * *
ليت شعري متى يكون لنا عيد
حقيق برمزه المكنون
فيشيع الهناء في كل نفس
ويؤاسي فؤاد كل حزين
قد لعمري أَنّى لنا أن نرى العـ
ـيد مشاعاً وقرة للعيون
ـ الأستاذ عزيز ضياء: سألت الأستاذ أحمد العربي عن السنين التي مرت على كتابة هذا الشعر أو هذه القصيدة فقال إنها مما نشر في وحي الصحراء، وكتاب وحي الصحراء نشر منذ ما لا يقل عن أربعين عاماً.
ـ أحد الحاضرين: سبعة وأربعين عاماً.
ـ الأستاذ عزيز ضياء: ما لا يقل عن سبعة وأربعين عاماً ومعذرة لأكل السبع. وهنا يطيب لي أن ألاحظ أن الشعراء في ذلك الزمن السحيق البعيد كانت هذه أحاسيسهم وكانت هذه تطلعاتهم، كانت هذه مشاركاتهم لبؤس الزمن في ذلك الزمان، ولا أرى أن الصورة قد تغيرت كثيراً ولكني أرى الشعراء في أيامنا أبعدوا كثيراً عما ينبغي أن يقال وأن يقال بصراحة وجهر كما سمعنا قصيدة الأستاذ السيد أحمد العربي.
ـ أحد الحاضرين: لحظة. أنا أجيب على تساؤل الأستاذ عزيز ضياء أقول إن الشعراء الذين كانوا يحسون بالبؤس تحولوا إلى المرفهين الذين أصابهم الشاعر بهجائه وشكراً.
ـ الأستاذ حسين نجار: هناك طلب أن نسمع شيئاً من الأستاذ بابا طاهر.
ـ الأستاذ بابا طاهر: ((ما أنا حافظ حاجة يا شيخ)). العيب أني لا أحفظ شعراً. الآن أعيش حالة مخاض في حطام قيثارة، دمعة سأسكبها على أستاذي الأستاذ الذي فارقنا هذه الأيام، الأستاذ عبد القدوس الأنصاري. أذكر مطلع القصيدة فقط:
سوف يبقى على الحياة مناراً
مشرقاً يملأ الدُّنا أنوارَ
خط للمجد بالمحامد سفراً
كل سطر قد خلّد الآثارَ
وهي كانت صور بدرب المجلين
على ضوئها شافو (2) المسارَ
بصرير اليراع يغزو سواد الليل
يصطاد بالحجى الأفكارَ
وثمار الأفكار لا تمنح الجهد
إلا إذا كان عاصفاً جبارا
فيه الجهد عاصفاً وله الر
أي حصيفاً وخطوه لا يبارى
هذه مطلع قصيدة للأستاذ عبد القدوس وآسف لأني لا أحفظ الباقي.
ـ الأستاذ حسين نجار: بالمناسبة الشيخ عبد القدوس الأنصاري رحمه الله كان نجماً تألق في هذا المكان فأرجو أن نقرأ على روحه الفاتحة.
ـ الأستاذ أحمد العربي: عليه رحمة الله.
ـ الشاعر الأستاذ أحمد العربي له قصيدة مما ورد ذكره في كتاب وحي الصحراء وهي بعنوان ((بين اليأس والأمل)) يقول فيها:
أرحني ببرد اليأس إن كنتُ آسيا
فإني وجدت اليأس أشقى لما بيا!
تعلقت بالآمال دهراً لعلني
أصيب بها وِرداً من العيش خاليا!
وعللت نفسي بالأماني رجاء أن
أفيء إلى ظل من المجد ضافيا
وأنكرت بأساء الحياة وضرها
وأكبرت من يلقى الكوارث لاهيا
وأحسنت ظني بالليالي وعهدها
وأحداثها تنهال شتى حياليا
صمدت إليها رابط الجأش باسماً
أشيم بها برقاً من السعد بادياً
وأرغمت لوامي وخالفت ناصحي
وقلت علام المرء يلحي الليالي؟
وطاوعت أحلامي وتابعت طيفها
إلى أن بدا فجر الحقيقة ضاحيا
إذا أنا كالمخدوع بالآل (3) ضلة
تكاءدهُ المسعى وما زال صاديا
وبرق الأماني خلب يخدع الفتى
وبشر الليالي فخ من ليس صاحيا
تعاهدني حتى اطّبَاني وميضها
فأَدلجت في لجج من الغي داجيا
وطوح بي حتى اصطدمت بصدمة
من اليأس تجتاح الجبال الرواسيا
فعاهدت نفسي لا أراني مؤملا
بدنياي خيراً حسب ما قد دهانيا
فما أروع المأساة إذ تفجأ الفتى
وغض الأماني حين يرتد ذاويا
وما أتعس المرء الذي قد تذبذبت
به كفتا يأس وأخرى أمانيا!
فلا هو مثلوج الفؤاد منعم
فيمرح في روض من السعد زاهيا!
ولا هو مرتاح إلى اليأس مخلد
إلى حالة يلقي بها الخطب ساجيا!
له اللَّه من ذي حيرة تصدع الحشا
وتتركه نهب الجوى والمآسيا
فأخلق بذي الرأي السديد وذي الحجى
بأن يحذر الآمال ثم اللياليا!
وأحر به ألا ينيط رجاءه
بغير مساعيه (إذا كان راجياً)!
فليست أماني المرء إلا غواية
وليس الرجاء الحق إلا المساعيا
فإن شئت أن تحيا حياة قريرة
فلا تغترر بعدي بدنياك ثانيا!
ثم تحدّث الأستاذ حسين نجّار إلى المحتفى به معبراً عن شعور الحضور جميعاً قائلاً:
ـ الواقع أن رحلة الأديب الكبير الأستاذ أحمد العربي في طول الحياة وعرضها فيها الكثير من التجارب لم نسمع منها إلا النزر اليسير، لذا نعود مرة أخرى ونطلب منه أن يعطينا بعضاً من تفاصيل تلك الحياة وما فيها من متاعب، وما فيها من جهاد، وما فيها من كفاح، فنرجو أن يتفضل.
ويستجيب السيد أحمد العرب لطلب المستمعين فيقول:
ـ والله رحلتي طويلة ذات أحوال مختلفة، لكن الذاكرة الآن ضعيفة، لا تسعفني باستحضار صورة كاملة لما مرّ بي، غير أني على هامش التعلق بالحياة الأدبية وبالقومية العربية يسرني أن أقول: إنني كنت طالباً في مصر وكان تعلقنا بالحياة الأدبية وبالقومية العربية تعلقاً كبيراً، وقد ألّف نخبة من الشباب السعودي الذين كانوا يدرسون بمصر ندوة أسموها "الندوة الأدبية" يجتمعون بها ويقومون بإلقاء القصائد في المناسبات، وأذكر من أفراد تلك النخبة السيد محمد شطا وأنا وفؤاد شاكر - عليه رحمة الله - والأستاذ هاشم دفتر دار، ومن تعلقنا بالقومية العربية فكرنا في حث كبار الشعراء لتغذية هذه الروح وتطويرها في النفوس، فكونا وفداً منّا وقمنا بزيارة أحمد شوقي - عليه رحمة الله - في كرمته (كرمة ابن هاني) وقابلناه وعرضنا عليه مطلبنا وهو أننا نحب منه وهو شاعر العروبة الكبير أن يغذي روح الوحدة العربية، فكان لطيفاً جداً معنا حيث قابلنا أحسن مقابلة، وفي تلك الأيام كانت مسرحية "مجنون ليلى" تعرض على المسارح، فقال لنا: إن مسرحية "مجنون ليلى" إحدى القنوات التي تغذي الفكرة التي تدعون إليها، لكن في الوقت الحاضر لا أجد لديّ استعداداً للقيام بشيء من هذا القبيل، كما قابلنا محسن الكاظمي شاعر العراق الكبير وعرضنا عليه الفكرة نفسها، فقال: سأحاول إن شاء الله في المستقبل أن أنظم بعض القصائد في الوحدة العربية والقومية العربية، ولكن للأسف لم نر شعراً في ذلك.
غير أن معالي الشيخ عبد الله بلخير يعلّق على ذلك بقوله:
ـ بل لقد فعل، فكان أحسن من غيره، وقد ألف الأستاذ عبد القدوس الأنصاري كتاباً عن "محسن الكاظمي" أثنى فيه عليه.
وسأل الأستاذ محمد حسين زيدان المحتفى به عن ذكرياته مع أستاذه علي الجارم فقال السيد أحمد العربي:
ـ والله لقد كان أستاذي، وهو الذي اختبرني في سنة التخرج اختباراً شفهياً في الأدب العربي لكني لا أذكر أن لي معه ذكريات خاصة، فضلاً عن أن الذاكرة ضعيفة لا تسعفني بما يمكن أن أقوله.
ويطرح الأستاذ محمد سعيد طيب سؤالاً على المحتفى به قائلاً:
ـ فما هي ذكرياتك عن طه حسين عندما قدم إلى المملكة عضواً في وفد الجامعة العربية وعقدت معه عدة جلسات، وكنت أنت أحد الأعضاء المشاركين فيها؟
فأجاب السيد أحمد العربي بقوله:
ـ ليس لي علاقة خاصة به، وكنت أحضر مع زميلي الأستاذ محمد سعيد العامودي الجلسات مندوبين عن مجلس الشورى، وربما انصبّت مشاركاتنا في الترتيبات التي أعدّت للاحتفالات التي أقيمت لوفد الجامعة، لكنني لا أذكر أن لي صلة خاصة بالدكتور طه حسين.
ـ الأستاذ زيدان: هو كان أروع شيء في استقبال الدكتور طه حسين حفل التكريم، ثم زيارته للمدينة المنورة.
ـ الأستاذ طاهر زمخشري: الثمرات الأدبية في عهد أستاذنا الجليل في تحضير البعثات كانت منبع خير وهي كانت الثمرات، وقدمت لنا المسرح كما يجب، وأذكر بهذه المناسبة مسرحية قدمت في تحضير البعثات كان أبطالها - بالمناسبة - الأستاذ السفير الوزير علي الشاعر، الوزير زكي يماني، الأستاذ عبد الله حبابي، واستمرت المسرحيات تقدم - ويؤسفني أن أقول وبكل صراحة أن مدرسة تحضير البعثات ونشاطها في المسامرات كل خميس الصورة لم تتكرر حتى الآن. وكان من الضمن أن فكر الشباب وعملوا سكرتير وكان سكرتير المسامرات معالي الشيخ إبراهيم العنقري، ومعالي الشيخ حسن مشاري. شباب ذلك الجيل طلبة تحضير البعثات قامت عندهم فكرة أن يكرموا الأدباء، وكان أول فكرة في تكريم أديب في المملكة العربية السعودية. في تلك الأثناء قدموني وقدموا الأستاذ أحمد سباعي، وقدموا الأستاذ محمد عمر توفيق واستمروا يواصلوا تقديم الأدباء كل أسبوع، على أساس إحضار سبورة ويكتبوا عليها اسم الأديب وأمامه علامة استفهام. ويكتبوا تحت الاسم من هو. أحلى الذكريات وأمتعها وما زلت أرويها وباستمرار أني جئت يوم تكريمي في مناسبة إصدار ديواني ((أحلام الربيع)) وجدت السبورة وقد كتبوا عليها الأستاذ الشاعر طاهر زمخشري. من هو؟ فألقى معالي الأستاذ حسن مشاري محاضرة عني بدأها بداية ما زلت أعتز بها وأذكرها وأرويها كطرفة: ((طاهر الزمخشري كومة من الفحم سوداء تلبس ثياباً بيضاء، تقول شعراً قصائده حمراء وخضراء وصفراء، يعيش على جراويل البلدية وتحت الفانوس)). لأني كنت أيامها مشغول بكتابات نقدات اجتماعية فكان لي جولة في النقدات الاجتماعية وتدور حول البلديات والمياه وما إلى ذلك فآثروا أن يقدموني هذا التقديم.
وكان التقديم لطيفاً جداً بدأ عن دراسة مستفيضة لديواني باكورة إنتاجي ((أحلام الربيع)) قبلها قدموا الأستاذ أحمد سباعي، وبعدي قدموا الأستاذ محمد توفيق، واستمروا يواصلون التقديم. لكن أروع ما قدم في تلك الأيام المسرحية التي كان أبطالها زكي يماني، على الشاعر، عبد الله حبابي وحسن نصيف ومجموعة. كانت المسرحية عن فلسطين ومن أروع ما قدم حتى الآن. ولذلك أحب أن أسجل أن مدرسة تحضير البعثات خدمت الفكر أكثر من أي مدرسة حتى الآن بعد الفلاح طبعاً لأن الفلاح كانت القدوة وكانت هي التي في الساحة وجاءت تحضير البعثات فكانت الصفحة والصورة الجميلة المشرقة التي عشنا نتهافت ونتسابق ليوم الخميس لجبل هندي علشان نحضر المسامرات الأدبية في تحضير البعثات ولم يكن يتخلف عنها أي أديب.
ثم بعد ذلك شارك السيد أحمد العربي مشاركات عديدة جداً. في البداية جاءتنا بعثة الكشافة العراقية. وقد أقيمت لهم حفلات تكريمية. وكان نجم الحفلات هذه شاعر الشباب عبد الله بلخير لكن أصدروا كتيب بمجموعة القصائد والأناشيد التي قيلت في تلك المناسبة وكان المتبني لهذا المشروع وهذا النشاط كله السيد أحمد العربي.
كذلك بدأ السيد أحمد العربي نشاطاً كبيراً جداً في جمعية الإسعاف. وكان الأستاذ عزيز ضياء والأستاذ أحمد العربي والله يرحمه عبد السلام الساسي ومجموعة من الأخوان: كان من أبرزهم في تنشيط حركة جمعية الإسعاف الخيرية التي هي الآن الهلال الأحمر على ما أعتقد، السيد أحمد العربي وجماعته الأستاذ عزيز ضياء ومحمد سعيد عبد المقصود الله يرحمه. كانوا يجندوننا نحن كل واحد منا نحن الشباب يحمل صندوقاً ويدور في البلد علشان نلم قروش للإسعاف الأستاذ العربي على الرغم من أنه كان مدير تحضير البعثات لكن نشاطاته في الحركة الفكرية، كان أنشط رجل لأنه كان يمتاز بحاجة مهمة جداً وهي تبني الشباب.
كان الشباب أصدروا كتيب أعتقد اسمه((النفثات)) ذكريات يا جماعة سامحوني. هذه النفثات للشباب. ضمنهم السيد علي فدعق، السيد هاشم زواوي وعبد الله عريف الله يرحمه ومجموعة آخرين. أيضاً كان وراء نفثات الشباب السيد أحمد العربي.
هذه لفتة حبيت إني أقولها بصراحة عن السيد أحمد العربي ولا يمكن أن يُحصر القول عن السيد أحمد العربي لأننا إذا أردنا حصر القول عن السيد أحمد العربي أبدأ كلامي بحيث انتهى الأستاذ زيدان. قال أين الوفاء.
ماذا يعني أين الوفاء؟ كل الشباب الجامعي الذين في الصف الأول الآن كوزراء وكرؤساء أعمال كلهم من خريجي تحضير البعثات، يعني كلهم كانوا نبتاً صالحاً زرعه السيد أحمد العربي ومعاونه الأستاذ عبد الله عبد الجبار اللذان لعبا في صمت دوراً خطيراً جداً في تنشئة نشأة كبيرة صالحة الآن هي تقود حركة التنمية في المملكة العربية السعودية والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ـ الأستاذ محمد حسين زيدان: ريال في الشهر.. هيا حذروا تسعة عشر ريالاً. كان مقرر الموازنة جملة سنوية ولكن علشان نقبل - وأنا صاحب هذا القرار لأنني كنت سكرتير المجلس المالي - التلامذة من كل مدينة في المملكة جعلتها على أساس الصرف للتلميذ الملتحق بتحضير البعثات تسعة عشر ريالاً. وكان وراء هذا القرار وتأييده - رغم مخالفة بعضهم - محمد سرور الصبان يرحمه الله. تسعة عشر ريالاً تعلم بها حسن نصيف وحسن مشاري وغيرهما والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ـ الأستاذ العمير: عندي سؤال أقدمه إلى أستاذنا العربي وأستاذنا عبد الله بلخير. لقد لاحظت في قراءاتي المتواضعة حساً قومياً هائلاً متقدماً عند أمثال أساتذتنا من الرعيل الأول، ثم استمعت إلى أستاذنا بلخير في حفل تكريمه من مقتطفاته التي قالها لاحظت هذا الحس القومي ثم سمعت الآن أستاذنا العربي فزادت دهشتي وليست ملاحظتي فقط. كان الحس القومي في تلك الأيام أكثر منا الآن بينما المفروض الآن ترسّخ الحس القومي أكثر من ذي قبل. أريد أن أسأل أستاذنا العربي وأستاذنا أبا الخيل عن خلفيات هذا الدافع أو التحسس القومي إلى الحد الذي وصل بأستاذنا العربي إلى أن يذهب إلى أحمد شوقي وإلى الكاظمي يدعوهما للدعوة للقومية العربية. أود أن أسمع حديث أستاذنا العربي ثم أستاذنا بلخير حول هذا الموضوع بالذات، ولماذا ضعف الحس القومي في جيلنا وما بعد جيلنا الحالي.. وشكراً.
الأستاذ أحمد العربي: الذي يظهر أن شواغل الحياة في هذا الجيل، الآن، سلبت الكثير.. الإحساس الأول كان هذا طبعاً، كان فيه روح عربية وكان فيه ثورة عربية كانت في عنفوانها أيامها ليس مثل الآن، كانت هناك ثورة عربية في سوريا، وفي مصر وفي لبنان وفي البلاد العربية وأيضاً نفس الثورة العربية لما بدأت هنا كذلك الحركة التي حصلت في الحجاز وإن كانت ضئيلة، إلا أن هذه كلها كانت مغذية للروح القومية وروح العروبة فينا جميعاً، ولم يكن لنا شواغل أخرى كما هو في الجيل الحاضر، نفس الثورة كانت متجهة كلها نحو العروبة في الماضي، أما في الوقت الحاضر وجدت الأحزاب المتعددة ووجدت الاتجاهات المتعددة فانصرف الناس إلى نواحي متعددة ولكن في جيلنا نحن كان رائدنا السير على نهج الثورة العربية والقومية العربية والوحدة العربية. كانت أكثر مجالسنا وأكثر ندواتنا حول هذا الموضوع الذي كان شغلنا الشاغل وكانت تلك القضية لا تزال في عنفوانها، ولكن الجيل الحاضر انشغل بأمور متعددة مثل وسائل الترفيه كما لم تبق الروح العربية كما كانت متضامنة متجهة إلى اتجاه واحد فتشتت لتشتت بعض الزعماء والأحزاب والأفكار. هذه أسباب ضعف الروح العربية في الوقت الحاضر. هذا ما أراه.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2326  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 96 من 112
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج