شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الخليفة العادل؛ عمر بن عبد العزيز (2)
اهتم عمر بن عبد العزيز بشؤون الرعية منذ تقلد مقاليد الخلافة. وبدا عليه هذا الاهتمام واضحاً ملحوظاً حتى إذا سأله مولاه عن الأمر الذي غمه وأهمه أجابه بقوله: (لمثل الأمر الذي نزل بي اهتممت أنه ليس من أمة محمد في مشرق ولا مغرب أحد إلا له قِبَلِي حق يحق علي أداؤه، كتب إلي في ذلك أو لم يكتب، طلب مني أو لم يطلب) وقد ظل اهتمامه بالرعية شغله الشاغل له طيلة خلافته. فهذه زوجته فاطمة تدخل عليه في ساعة من ساعات خلوته فتجده جالساً في مصلاه، واضعاً خده على يده ودموعه تسيل على خديه، فتقول له: ما لك؟ فيجيبها بقوله: ويحك يا فاطمة قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت، فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، واليتيم المكسور، والأرملة الوحيدة، والمظلوم المقهور، والغريب والأسير، والشيخ الكبير، وذي العيال الكثير والمال القليل، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد فعلمت أن ربي عز وجل سيسألني عنهم يوم القيامة، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم... الخ). هكذا كان هذا الخليفة العادل يشعر بعظم التبعة الملقاة على عاتقه ويحاسب نفسه على حقوق الصغير والكبير فيهم ويقلق باله وراحته شأن البائسين منهم والمحرومين والمظلومين لأنهم الأحق برعايته وعطفه. ولشد ما كان يجزع لشكواهم ويرثي لحالهم. فهذا إعرابي يأتيه فيقول: يا أمير المؤمنين، جاءت بي إليك الحاجة، وانتهت بي الفاقة، والله سائلك عني يوم القيامة، فيبكي عمر ويقول: كم أنتم؟ قال أنا وثلاث بنات، ففرض له على ثلاثمائة وفرض لبناته مائة درهم من ماله وقال له: اذهب فاستنفقها حتى تخرج أعطيات المسلمين فتأخذ معهم.
لم يكن عمر بن عبد العزيز يكتفي بما يفرض للبائسين من أعطيات في بيت مال المسلمين، لأن مروءته كانت تستحثه على المبادرة بإسعافهم فلا يلبث أن يرضخ لهم بنصيب معجل من ماله الخاص كما مر بنا في قصة هذا الإعرابي. بل لقد كانت عاطفته النبيلة تحدوه لأن يتمنى أن يشرك معه في معاشه من لم يتسع موجود ببيت المال لمساعدتهم، فيدعوهم ليشاطرهم عيشه ويواسيهم بنفسه وأهله. فيقول في بعض خطبه: (ما منكم من أحد تبلغنا حاجته ويتسع له ما عندنا إلا حرصنا أن نسد حاجته ما استطعنا، وما منكم من أحد تبلغنا حاجته ولا يتسع له ما عندنا إلا تمنيت أن يبدأ وبخاصتي حتى يكون عيشنا وعيشه سواء).
ولقد كان اهتمامه بالعدل والشفقة على الرعية يحمله على حض عماله على ذلك ومحاسبتهم حساباً عسيراً، بل لقد كان يحث الرعايا على التمسك بحقوقهم ومراقبة عماله وإبلاغه عن مظالمهم، ولم يكتفي بذلك حتى فرض الجوائز لمن يبلغه حاجة من تأنى عنه من الرعايا مما فيه صالحهم كما جاء في كتابه لأهل الموسم بمكة؛ وهذا نصه: (أما بعد فإني أشهد الله وأبرأ إليه في الشهر الحرام والبلد الحرام، ويوم الحج الأكبر: إني بريء من ظلم من ظلمكم، وعدوان من اعتدى عليكم، أن أكون أمرت بذلك، أو رضيته أو تعمدته إلا أن يكون وهماً مني وأمراً خفي علي لم أتعمده، وأرجو أن يكون ذلك موضوعاً عني ومغفوراً إلي، إذ علم مني الحرص والاجتهاد. ألا وأنه لا أذن على مظلوم دوني وأنا معول كل مظلوم. ألا وأي عامل من عمالي رغب عن الحق، ولم يعمل بالكتاب والسنة، فلا طاعة له عليكم وقد صيرت أمره إليكم حتى يراجع الحق وهو ذميم، ألا وأنه لا دولة بين أغنيائكم ولا أثرة على فقرائكم في شيء من فيئكم.
ألا وأيما وارد في أمر يصلح الله به خاصة أو عامة فله ما بين مائة دينار إلى ثلاثمائة دينار على قدر مانوي من الحسبة وتجشم من المشقة. فرحم الله أمراً لم يتعاظمه سفر يحيى به حقاً لمن وراءه.. الخ. أما محاسبته لولاته وانتقاده لسيرتهم في الرعية، وامتحانه لمن يرشحه للولاية فيكفينا شاهداً عليه ما يأتي:
لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة وفد عليه بلال بن أبي برده فهنأه ولزم المسجد يصلي ويقرأ ليله ونهاره فهمَّ عمر أن يوليه العراق فدس إليه بعض من يثق به من رجاله، فقال لبلال: إن سعيت لك في ولاية العراق فما تعطيني؟ فوعده بمال جزيل، فأخبر بذلك عمر فنفاه وأخرجه. وكتب مرة إلى عدي بن أرطأة وكان قد استخلفه على البصرة: (أما بعد فإنك غررتني بعمامتك السوداء، ومجالستك القراء، وإرسالك العمامة من ورائك، وإنك أظهرت لي الخير فأحسنت بك الظن، وقد أظهر الله ما كنتم تكتمون).
وكتب إليه عدي بن أرطأة الآنف الذكر؛ يشكو قلة الخراج بسبب إقبال الناس على الدخول في الإسلام في أيام عمر بن عبد العزيز، فأجابه بقوله: (فهمت كتابك، ووالله لوددت أن الناس كلهم أسلموا حتى نكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا).
وكتب إليه بعض عماله كتاباً يقول فيه: (أما بعد فإن مدينتنا قد خربت، فإن رأي أمير المؤمنين أن يقطع لنا ما لا نرمها به فعل) فكتب إليه عمر: (أما بعد فقد فهمت كتابك وما ذكرت أن مدينتكم خربت: فإذا قرأت كتابي هذا، فحصنها بالعدل، ونق طرقها من الظلم، فإنه مر منها. والسلام)، ما أبلغ هذه الرسالة على قصرها وما أعظم الهدف الإصلاحي الذي تضمنته هذه الكلمات على إيجازها. ولعمري ما عَمّر المدن كالعدل ولا دمرها كالظلم والطغيان. ولله در القائل: إمام عادل خير من مطر وابل.
وعلى الرغم من شدة عمر على عماله، فقد كان يوسع عليهم في النفقة فيعطي الرجل منهم في الشهر مائة دينار ومائتي دينار، وكانت وجهته في ذلك، إن العمال إذا كانوا في كفاية تفرغوا لأعمال المسلمين، وعفوا عن أموالهم. فقيل له: لو أنفقت على عيالك كما تنفق على عمالك فقال: لا أمنعهم حقاً لهم، ولا أعطيهم غير حقهم. فجزاه الله عن الإسلام وأهله خيراً.
إصلاحات عمر بن عبد العزيز:
كان في مقدمة ما يشغل بال عمر بن عبد العزيز منذ ولي أمر المسلمين، أن يرد للخلافة الإسلامية سيرتها التي أستنها الخلفاء الراشدون وأن يقوّم ما أعوج من مناهجها، وأن يحيي سلطان العدل ويدك معالم الجور والطغيان. ولذا وجه عنايته قبل كل شيء إلى رد المظالم وإبطال المغارم؛ وقد مرت بنا بعض مواقفه في رد المظالم التي كانت في يد بني أمية. ونذكر فيما يلي كتاباً منه إلى عامله على العراق يعدد فيه الضرائب التي أحدثها من كان قبله من ولاة السوء ويأمر بإبطالها: وهذا هو كتابه: (أما بعد فإن أهل الكوفة أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام الله، وسنة خبيثة سنها عليهم عمال السوء. وإن قوام الدين العدل والإحسان، فلا يكن شيء أهم إليك من نفسك، فلا تحملها قليلاً من الإثم، ولا تحمل خراباً على عامر، وخذ منه ما أطاق وأصلحه حتى يعمر، ولا يؤخذ من العامر إلا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض، ولا تأخذن أجور الضاربين، ولا هدية النوروز والمهرجان)، ولا ثمن المصحف، ولا أجور الفتوح، ولا أجور البيوت، ولا درهم النكاح. ولا خراج على من اسلم من أهل الذمة. فاتبع في ذلك أمري، فإني قد وليتك من ذلك ما ولاني الله).
وكان من برنامجه الإصلاحي، إقصاء ولاة السوء الذين استعملهم الحجاج، وتحذير عماله من الاستعانة بهم ومن الاستنان بسنة الحجاج. ولما بلغه عن الجراح ابن عبد الله الحكمي، عامله على خراسان أنه يأخذ الجزية ممن أسلم من الكفار ويقول لهم إنما تسلمون فراراً منها، كتب إليه: (إن الله إنما بعث محمداً داعياً ولم يبعثه جابياً، وعزله عن عمله. ولقد يتبادر إلى بعض الأذهان أن سياسة تخفيض الضرائب وإلغاء المكوس قد يؤديان إلى انخفاض الخراج، ونقصان واردات الدولة تبعاً لذلك، إلا أن واقع السياسة التي انتهجها عمر بن عبد العزيز دلت على عكس تلك النتيجة المتوقعة، فقد زادت واردات العراق في عهده عما كانت عليه في عهد الحجاج كما تشير إلى ذلك الكلمة الآتية مع ما فيها من تنديد لاذع بسيرة الحجاج وظلمه وطغيانه. قال عمر بن عبد العزيز: لو تخابثت الأمم فجاءت كل أمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم، وما كان الحجاج يصلح لدنيا ولا لآخرة، لقد ولي العراق وهو أوفر ما يكون عمارة فاخس به إلى أن صيره إلى أربعين ألف ألف. ولقد أدى إلى عمالي في عامي هذا ثمانين ألف ألف. وإن بقيت إلى قابل رجوت أن يؤدي إلى ما أدى إلى عمر بن الخطاب (مائة ألف ألف وعشرة آلاف ألف).
وهكذا أقام الخليفة العادل الدليل العلمي على أن سياسة العدل والرفق بالرعية أجدى وأنفع من سياسة الجور والاستبداد، لعمارة البلاد وتقدمها وازدهارها.
ومن أهم الإصلاحات الاجتماعية التي قام بها عمر بن عبد العزيز تعهده الفقراء والمحرومين بما يصلح حالهم ويرفه من معيشتهم، فقد كان يبعث مناديه ينادي: اين الغارمون؟ أين الناكحون؟ أين اليتامى أين المساكين؟ حتى أغني كلاً من هؤلاء. ومن هذا يعلم أن مواساته لهم لم تقتصر على الفقراء والبائسين، بل تجاوزتهم إلى الراغبين في النكاح، مساعدة لهم وتشجيعاً لإقبال الناس على سنة الزواج التي عليها العمران وصلاح المجتمع. وقد أحيا عمر بن عبد العزيز بسيرته سنة الإسلام والخلفاء الراشدين في محاربة داء الفقر بما تجبيه الدولة من فضول أموال الأغنياء، فكان يأمر عماله على الصدقات إذا قبضوها من أغنيائهم أن يردوها على فقرائهم، وفي ذلك يقول أحد عماله: إني لآتي الحي فأدعو بأموالهم فأقبض ما كان فيهم، ثم أدعو فقراءهم وأقسمها فيهم حتى إنه ليصيب الرجلُ الفريقين أو الثلاث فما أفارق الحي وفيهم فقير، ثم آتي الحي الآخر فاصنع بهم كذلك فما انصرف إليه بدرهم. ومما يدل على غني الناس في عهده ما جاء في سيرته عن بعض معاصريه: إنما ولي عمر بن عبد العزيز سنتين ونصفاً ولا والله ما مات حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون الفقراء فما برح حتى يرجع بماله لأن الناس قد أغناهم عمر بن عبد العزيز. ومن إصلاحاته المأثورة أمره بإقامة الخانات في البلدان القاصية لإيواء الغرباء وإسعافهم؛ فقد كتب إلى سليمان بن أبي السري: (أن أعمل خانات فمن مر بك من المسلمين فاقروه (ضيفوه) يومين وليلتين، وإن كان منقطعاً فأبلغه بلده). ومن أعماله الجديرة بالإعجاب توزيعه الرقيق الذي اتخذه الخلائف من قبله توزيعهم على العميان والمقعدين والأيتام. فقد جاءه صاحب الرقيق بعد توليه الخلافة يطلب أرزاقهم وكسوتهم. فقال عمر: كم هم؟ قال هم كذا وكذا ألفاً. فكتب إلى الأمصار أن أرفعوا إليّ كل أعمى في الديوان أو مقعد أو من به فالج أو من به زمانه تحول بينه وبين القيام إلى الصلاة، فرفعوا إليه ذلك فأمر لكل أعمى بقائد ولكل اثنين من الزمني والمقعدين بخادم. وبقي بعد ذلك من الرقيق لكثرته فكتب أن أرفعوا إليّ كل يتيم ومن لا أحد له ممن قد جرى على والده اليوان فأمر لكل خمسة بخادم يتوزعونه بينهم بالتسوية.
وكما حارب هذا الخليفة المصلح الفقر وانتصر عليه - حارب الجهل بنشر العلم وتشجيع العلماء والطلاب، فقد خصص أعطيات لكل من انقطع لنشر العلم والتفقه في الدين وتلاوة القرآن. وكان يوصي عماله ألا يستعملوا في أعمالهم إلا أهل القرآن (ومنهم العلماء). ومن وصاياه لبعض عماله: (أما بعد فآمر أهل العلم أن ينشروا العلم في مساجدهم، فإن السنة كانت قد أميتت. وكتب إلى واليه على حمص: أنظروا إلى القوم الذين نصبوا أنفسهم للفقه وحبسوها في المسجد عن طلب الدنيا، فاعط كل رجل منهم مائة دينار يستعينون بها على ما هم عليه من بيت مال المسلمين حين يأتيك كتابي هذا. وإن خير الخير أعجله والسلام عليك). ولم يكن حرصه على نشر التعليم مقصوراً على المدن والحواضر، فقد بعث يزيد بن أبي مالك الدمشقي، والحارث بن يمجد الأشعري يعلمان الناس في البادية وأجرى عليهما رزقاً (راتباً) فأما يزيد فقبل وأما الحارث فأبى أن يقبل الراتب الذي أجراه عليه واختار أن يكون عمله تطوعاً خالصاً لله تعالى، فلما بلغ عمر ذلك كتب يشجع كلاً منهما على خطته التي اختارها فقال: (إنا لا نعلم بما صنع يزيد بأساً، وأكثر الله فينا مثل الحارث بن يمجد). هكذا كان عمر بن عبد العزيز يهتم بكل ما فيه صلاح الرعية وسعادتها. وكان يجد في ذلك كل اللذة والسعادة كما تدل على ذلك كلمته الرائعة: (قرة عين الملوك في استعاضة الأمن في البلاد، وظهور مودة الرعية لهم وحسن ثنائهم عليهم)، فهل ثمة مثل أعلى للحاكم العادل خيرٌ من هذا المثل؟ وهل استطاعت الديمقراطية العصرية أن تحقق أهداف هذه المثل العليا على كثرة أقوالها المعسولة وادعاءاتها الخلابة؟ إن الحُكْم الفصل في ذلك للتاريخ وحده، التاريخ المنصف الذي لا يمالي، ولا يحابي.
طموح عمر بن عبد العزيز ومثله العليا:
نشأ عمرو بن عبد العزيز في بيت ملك سامق الذرى رفيع العماد، وترعرع في كنف أسرة عريقة المجد موفورة الجاه والثراء، فلم يركن إلى ما ورثه من أمجاد ومفاخر، ولم يلهه ترف العيش ومفاتن الحياة عن مثله العليا، وما طمحت إليه نفسه من مجد طارف يضم إلى مجده التالد، ذلك أن نفسه التواقة كانت تنزع به إلى أسمى آفاق المجد والسيادة، كما تحدثنا بذلك سيرته وكما يحدثنا هو نفسه بما عهد فيه من صدق اللهجة وقوة البيان؛ فلنصغ إليه وهو يقول: (كانت لي نفس تواقة، فكنت لا أنال شيئاً إلا تاقت إلى ما هو أعظم منه. فلما بلغت نفسي الغاية تاقت إلى الآخرة)، وكان أول ما تاقت إليه نفسه طلبُ العلم والتضلُع من العربية وآدابها، فلم يلبث أن أصبح علماً من أعلام المعرفة وأميراً من أمراء البيان، يقر له بذلك أقطاب عصره ويعرفون له بالسبق والتبريز، وحسبنا دليلاً على فصاحته وبلاغته ما مر بنا في حديثنا عنه من نماذج لخطبه وكتبه وهي قليل من كثير؛ وإذا كان لا بد لنا من أن نذكر في هذا السياق مثلاً من أمثلة بيانه الممتع فلنستمع إليه وهو يقول في إحدى خطبه: (أيها الناس، إنما أنتم أغراض تنتقل فيها المنايا، إنكم لا تأتون نعمة إلا بفراق أخرى، وأي أكله ليس معها غصة، وأي جرعة ليس معها شرقة، وأن أمس شاهد مقبول وقد فجعكم بنفسه وخلف فيكم حكمة، وأن اليوم حبيب مودع وهو وشيك الظعن، وأن غداً آت بما فيه، وأين يهرب من يتقلب في يد طالبه، إنه لا أقوى من طالب، ولا أضعف من مطلوب، وإنما أنتم سفر ستحلون عقد رحالكم في غير هذه الدار، ثم أنتم فروع أصول قد مضت، فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله).
ما أروع هذه الكلمة وما أبلغ ما فيها من عظة وعبرة، إنها تنفذ إلى القلب فتضىء ظلمته، وتحيي مواته، لأنها صادرة من قلب عامر بالإيمان والإخلاص وقد أفرغت في أسلوب من البيان المشرق يخاطب العقل بأسلوب المنطق الرصين ويخاطب القلب بأسلوب العاطفة المتدفق رقة وروعة. أما ما وصل إليه هذا الخليفة العبقري من منزلة سامية في العلم والمعرفة، فحسبنا أن نذكر بعض أقوال معاصريه من العلماء والأعلام. فهذا: مجاهد يقول: أتينا عمر نعلمه فما برحنا حتى تعلمنا منه، ويقول سفيان: كانت العلماء مع عمر بن عبد العزيز تلامذة، ويقول بعض السلف: ما التمسنا علم شيء إلا وجدنا عمر بن عبد العزيز أعلم الناس بأصله وفرعه.
وما كاد يبلغ عمر بن عبد العزيز هذه المنزلة من المعرفة والعلم حتى تاقت نفسه إلى السلطان والرياسة فكان له من ذلك ما أراد؛ تقلد إمرة المدينة فسار فيها أحسن سيرة وأعد لها. ثم رشحته همته وأخلاقه إلى إمرة المسلمين وزعامتهم الكبرى فجاءته الخلافة منقادة إليه تجر أذيالها. فإذا هو يزهد فيما للخلافة من مواكب وما حفت به من أسباب الأبهة والبذخ وإذا نفسه التواقة تتوق إلى ما عند الله عزّ وجلّ من الكرامة والدرجات العلا، وإذا أكبر همه من الدنيا وزينتها أن يقيم قسطاس العدل وأن يضحي بكل عزيز لديه في سبيل إسعاد الرعية وبلوغ رضوان الله تعالى، مستناً بسنة الخلفاء الراشدين، متخذاً سيرتهم قدوته ومَثَله الأعلى، مسترشداً بالصالحين من علماء عصره كالحسن البصري، فقد كتب إليه يسأله عن صفة الإمام العادل فكتب إليه الحسن البصري رسالته التالية:
اعلم يا أمير المؤمنين؛ أن الله جعل الإمام العادل، قوام كل مائل، وقصد كل جائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف، والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله، الرفيق بها، الذي يرتاد لها أطيب المرعى، ويذودها عن مراتع الهلكة، ويحميها من السباع، ويكنها من أذى الحر والقر، والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالأب الحان على أولاده، يسعى لهم صغاراً، ويعلمهم كباراً، يكتسب لهم في حياته ويدخر لهم بعد مماته. والإمام العادل يا أمير المؤمنين؛ كالأم الشفيقة البرة، الرفيقة بولدها، حملته كرها، ووضعته كرهاً، وربته طفلاً، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارة، وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتم بشكاته، والإمام العادل يا أمير المؤمنين، وصي اليتامى، وخازن المساكين، يربي صغيرهم، ويمون كبيرهم، والإمام العادل يا أمير المؤمنين؛ كالقلب بين الجوانح، تصلح الجوانح بصلاحه، وتفسد بفساده، والإمام العادل يا أمير المؤمنين؛ هو القائم بين الله وعباده، يسمع كلام الله ويسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم، فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله كعبد ائتمنه سيده، واستحفظه ماله وعياله فبدد المال وشرد العيال.
نكتفي الآن بهذا القدر من رسالة الحسن البصري رحمه الله تعالى ونرجىء بقيتها إلى الحديث القادم إن شاء الله، فإلى اللقاء أيها المستمع الكريم وسلام الله عليك ورحمته وبركاته.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :816  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 95 من 112
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.