شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الخليفة العادل؛ عمر بن عبد العزيز (1) (1)
إن حديث اليوم نفحة من نفحات الفاروق أيضاً، فإن سيرته العاطرة ذكرتنا بسمية وسبط ولده، الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز فخر بني أمية بل فخر الملوك والأمراء في كل عصر وجيل، ولانتساب عمر بن عبد العزيز إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قصة طريفة نلخصها فيما يلي:
بينما عمر بن الخطاب ذات ليلة يعس بالمدينة إذا هو بامرأة تقول لبنتها: قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء. فقالت لها: كيف أمذقه وقد نهى أمير المؤمنين عن ذلك؟! فقالت لها أمها: قومي فامذقيه فما يُدري أمير المؤمنين؟ فقالت لها الصبية: إن كان عمر لا يعلم فإن إله عمر يعلم، والله ما كنت لأطيعه في الملا وأعصيه في الخلا! فأعجب عمر بمقالتها، فلما اصبح دعا ابنه عاصماً فقال يا بني اذهب إلى موضع كذا وكذا فاسأل عن الجارية - ووصفها له - فذهب عاصم فإذا جارية من بني هلال. فقال له عمر: اذهب يا بني فتزوجها، فما أحراها أن تأتي بفارس يسود العرب، فتزوجها عاصم فولدت له بنتاً وولدت البنت عمر بن عبد العزيز. ومما يذكر في شدة شبهه بالفاروق في سيرته أن عمر بن عبد العزيز كان أمر في أول ولايته، لبني أمية بعشرة آلاف دينار فلم ترضهم، فوسطوا له رجلاً يكلمه في صلة أرحامهم والعطف عليهم، فكلمه في ذلك فقال: أجل والله لقد قسمتها فيهم وقد ندمت ألا أكون منعتهم إياها، وقسمتها فكانت كافية أربعة آلاف بيت من المسلمين، فخرج الرجل وأخبرهم بمقالته وقال لهم: لا تلوموا إلا أنفسكم يا معشر بني أمية، عمدتم إلى صاحبكم - يعني عبد العزيز بن مروان - فزوجتموه بنت ابن عمر (ابن الخطاب) فجاءتكم بعمر ملفوفاً في ثيابه.
وأن من ينظر في سيرة عمر بن عبد العزيز قبل توليه الخلافة وما كان له من مواقف مع ملوك بني أمية في حضهم على إقامة العدل وتذكيرهم بحقوق الرعية، لا يستكثر عليه مثاليته في العدالة والعطف على الرعية عندما ألقت إليه الخلافة بمقاليدها. فما يؤثر عنه قبل توليه الخلافة أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان: (أما بعد، فإنك راع وكل راع مسؤول عن رعيته، حدّث أنس بن مالك أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل راع مسؤول عن رعيته: اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فغضب عبد الملك حين بدأ باسمه، فقيل له: إنه كان يفعل ذلك مع من كان قبلك فسكن غضبه.
ودخل عمر بن عبد العزيز على الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك وعنده أيوب ابنه وهو يومئذ ولي عهده. فجاء إنسان يطلب ميراثاً من بعض نساء الخلفاء. فقال سليمان: ما أخال النساء يرثن في العقار شيئاً. فقال عمر بن عبد العزيز: سبحان الله وأين كتاب الله؟! فقال سليمان: يا غلام: اذهب فأتني بسجل عبد الملك ابن مروان الذي كتب فيه ذلك. فقال له عمر: لكأنك أرسلت إلى المصحف. فغضب أيوب وقال مهدداً عمر: والله ليوشكن الرجل يتكلم بمثل هذا عند أمير المؤمنين ثم لا يشعر حتى يفارقه رأسه. فقال عمر: إذا أفضى الأمر إليك وإلى مثلك فما يدخل على أولئك أشد مما خشيت أن يصيبهم من هذا. فقال سليمان لأيوب: مه، لأبي حفص تقول هذا!! فقال عمر: والله لئن جهل علينا يا أمير المؤمنين ما حملنا عنه.
وقد أجمل عمر بن عبد العزيز خُطته ومنهاجه في الخطبة التي ألقاها عند توليه الخلافة، ومما جاء فيها قوله: (وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها عز وجل ولا في نبيها صلى الله عليه وسلم. ولا في كتابها. وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم. وإني والله لا أعطي أحداً بالملا، ولا أمنع أحداً حقاً ثم رفع صوته فقال: أيها الناس، من أطاع الله وجبت طاعته ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم).
وقد وفدت عليه الوفود عندما استخلف، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أيها الناس: إني أنساكم هاهنا وأذكركم في بلادكم، فمن أصابته مظلمة من عامله فلا إذن له علي ((إنه مأذون بالدخول عليه لإبلاغه ظلامته))، ومن لا فلا أرينه، وإني والله إن منعت نفسي وأهل بيتي هذا المال وضننت به عنكم إني إذا لضنين، ولو أن أنعسن سنة أو أعمل بحق ما أحببت أن أعيش فواقاً)، وكان أول عمل عمله بعد توليه أنه أنكر مراكب الخلافة التي قربت إليه وقال ما هذه؟ فقالوا: مراكب لم تركب قط يركبها الخليفة أول ما يلي: فتركها وخرج يلتمس بغلته وقال: يا مزاحم؛ ضم هذه إلى بيت مال المسلمين. ونصبت له سرادقات كانت تضرب للخليفة أول ما يلي، فقال ما هذه؟ قالوا: سرادقات وحجر لم يجلس فيها أحد قط يجلس فيها الخليفة أول ما يلي. قال يا مزاحم؛ ضم هذه إلى أموال المسلمين. ثم ركب بغلته وذهب إلى الفراش والوطاء الذي لم يجلس عليه أحد قط فجعل يدفعه برجله حتى أفضى إلى الحصير. ثم قال: يا مزاحم؛ ضم هذه لأموال المسلمين.
ثم ذهب يتبوا مقبلاً يستجم فيه مما كايده في ليلته ويومه، فأتاه ابنه عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين؛ ماذا تريد أن تصنع؟ قال أي بني؛ اقبل. قال تقبل ولا ترد المظالم؟! أي بني؛ قد سهرت البارحة في أمر عمل سليمان، فإذا صليت الظهر - ردت المظالم. قال: يا أمير المؤمنين؛ من لك أن تعيش إلى الظهر؟ قال: أدن مني أي بني، وقبل بين عينيه وقال: الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني ولا غرابة فالولد سر أبيه: ومن شابه أباه فما ظلم، وقد استجاب عمر لنصيحة ابنه لأنها صادفت هوى نفسه وقلبه، فخرج وأمر مناديه أن ينادي: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها، فجعل لا يدع شيئاً مما كان في يد سليمان أو في يد أهل بيته من المظالم إلا ردها مظلمة مظلمة.
استهل عمر بن عبد العزيز عهده المبارك - كما مر بنا في الحديث السابق - بتجريد الخلافة من مظاهر الأبهة والبذخ، وبرد المظالم التي كانت في يد بني أمية. وفي حديث اليوم نقدم أمثلة من عدله ومساواته في الحق بين الكبير والصغير والمسلم وغير المسلم. فهذا رجل ذمي من حمص يسمع مناديه ينادي: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها فيتقدم إليه مستجيراً هاتفاً به: يا أمير المؤمنين، أسألك كتاب الله، فيسأله عمر: ما ذاك؟ فيقول الذمي: العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضي. فيسأل عمر العباس عن دعوى الذمي فيجيبه بقوله: نعم، اقطفنيها أمير المؤمنين الوليد وكتب لي بها سجلاً. فيقول عمر: ما تقول يا ذمي؟ فيقول: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله تعالى. فيقول عمر: نعم، كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد، قم فاردد عليه ضيعته. فلا يسع العباس إلا أن يرد الضيعة على الذمي. وهذا مسلمة بن عبد الملك بن مروان يخاصم إلى عمر بن عبد العزيز أهل دير إسحاق بالناعورة. فيقول عمر لمسلمة: لا تجلس على الوسائد وخصماؤك بين يدي ولكن وكِّلْ بخصومتك من شئت وإلا فجالس القوم بين يدي. فوكَّل مولى له بخصومته فقضى عليه عمر بالناعورة. وهؤلاء قوم من الأعراب يخاصمون بعض بني مروان في أرض أحيوها فأخذها الوليد بن عبد الملك فأعطاها بعض أهله، فيقضي عمر بالأرض للأعراب، محتجاً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: البلاد بلاد الله والعباد عباد الله، من أحيا أرضاً ميتة فهي له وكهذا ينتصف عمر لذميين يدينون بغير دين الإسلام ولبعض الأعراب الذين لا جاه لهم ولا سلطان فيقتضي لهم على بني عمومته من أمراء البيت المالك، لأن العدالة الإسلامية لا تفرق في الحق بين المسلم وغير المسلم ولا بين الشريف والصعلوك بل الجميع في الحق سواء.
وإذا كان عمر بن عبد العزيز قد حكّم سلطان العدل في بني عمومته من أمراء الأسرة المالكة، فما كان لبعض نفسه وأهل بيته الأدنين وأصدقائه المقربين من الخضوع لسلطان العدالة، بل لقد كان مثالياً في تجريد نفسه وأهله من كل ما يملكونه من تراث وأموال. فهذه زوجته فاطمة بنت عبد الملك يدخل عليها بعد توليه الخلافة فيخيرها بين أن ترد ما لديها من حلي وجوهر ثمين إلى بيت المال وبين أن تفارقه، فتجيبه جواب الزوجة الكريمة الوفية بقولها: لا بل أختارك يا أمير المؤمنين عليه وعلى أضعافه لو كان لي. فيأمر بحليها فيوضع في بيت مال المسلمين.
وهذا صديقه عنبسة بن سعيد بن العاص يأمر له سليمان بن عبد الملك قبل موته بعشرين ألف دينار وتدور دورتها في الدواوين ولم يبق عليه إلا قبضها فتدرك الوفاة سليمان وتؤول الخلافة إلى عمر فيأتيه عنبسة ويقول له: يا أمير المؤمنين؛ إن أمير المؤمنين سليمان قد كان أمر لي بعشرين ألف دينار حتى انتهيت إلى ديوان الختم ولم يبق إلا قبضها فتوفى على ذلك. وأمير المؤمنين - يعني عمر بن عبد العزيز - أولى باستتمام الضيقة عندي، وما بيني وبينه أعظم مما بيني وبين أمير المؤمنين سليمان. فيجيبه عمر بقوله: عشرون ألف دينار تغني أربعة آلاف بيت من المسلمين وأدفعها إلى رجل واحد؟! والله ما لي إلى ذلك من سبيل. فيلتفت إليه عنبسة كالمنكر ويقول له: يا أمير المؤمنين؛ فما بال جبل الورس؟ وكان جبل الورس قطيعة لعمر بن عبد العزيز فقال عمر: ذكرتني الطعن وكنت ناسياً. يا غلام: هات ذلك القفص، فأتى بقفص فيه قطائع بني عبد العزيز فقال: يا غلام؛ اقرأ علي، فكلما قرأ قطعة قال: شقها حتى لم يبق في القفص شيء إلا شقه. فخرج عنبسة إلى بني أمية وهم وقوف بالباب فأعلمهم بما كان من ذلك. فقالوا ليس بعد هذا شيء ارجع إليه فاسأله أن يأذن لنا أن نلحق بالبلدان. فرجع إليه عنبسة وقال يا أمير المؤمنين إن قومك بالباب يسألونك أن تجري عليهم ما كان من قبلك يُجرى عليهم، فقال عمر: والله ما هذا المال لي، وما لي إلى ذلك من سبيل. قال: فيسألونك أن تأذن لهم يضربون في البلدان قال قد أذنت...
وهذا مثل آخر تتجلى فيه التضحية بأروع مظاهرها لأن فيه إيثار الراعي لرعيته على نفسه وولده، بخير ما بقي لديه من مال وثراء. فقد كانت لعمر بن عبد العزيز ضيعة باليمامة تعرف بالسهلة لها غلة عظيمة منها عيشه وعيش أهله. فلما ولي الخلافة قال لمزاحم مولاه: إني عزمت أن أرد السهلة إلى بيت مال المسلمين. فجزع مزاحم لذلك وقال: أتدري كم ولدك: إنهم كذا وكذا فذرفت عينا عمر وقال: أكلهم إلى الله. فمضى مزاحم فدخل على عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز فقال له: ألا تعلم ما قد عزم عليه أبوك؟ إنه يريد أن يرد السهلة. قال فما قلت له؟ قال: ذكرت له ولده فجعل يستدمع ويقول: أكلهم إلى الله. أكلهم إلى الله. فقال عبد الملك بئس وزير الدين أنت ثم وثب وانطلق إلى أبيه فاستأذن عليه، فقال له الآذن: إن أمير المؤمنين قد وضع رأسه الساعة للقائلة. فقال: استأذن لي عليه، فقال: أما ترحمونه، ليس له من الليل والنهار إلا هذه الساعة. قال استأذن لي عليه لا أم لك. فسمع عمر كلامهما فقال: ائذن لعبد الملك فدخل فقال: علام عزمت؟ قال أرد السهلة. قال: فلا تؤخر ذلك، قم الآن فجعل عمر يرفع يديه ويقول: الحمد لله الذي جعل من ذريتي من يعينني على أمر ديني. نعم، يا بني؛ أصلي الظهر، ثم أصعد المنبر فأردها علانية على رؤوس الناس. قال له ابنه: ومن لك أن تعيش إلى الظهر، ثم من لك أن تسلم نيتك إلى الظهر إن عشت إليها؟ فقام عمر، فصعد المنبر وخطب الناس ورد السهلة.
وهكذا أنزل عمر بن عبد العزيز لشعبه عن ثروته وضياعه، فبعد أن كان دخله السنوي وهو أمير يقدر بأربعين ألف دينار أصبح دخله بعد توليه الخلافة لا يتجاوز أربعمائة دينار في السنة ينفق منها على نفسه وأهله ويواسي منها المحتاجين ولا يفوته أن يجعل منها نصيباً في بيت مال المسلمين.
فلا غرابة بعد ذلك إذا خلده التاريخ في صفحاته علماً من أعلامه الخالدين وقدوة للملوك والقادة المصلحين.
مكة المكرمة في: 21/6/1373هـ
 
طباعة

تعليق

 القراءات :879  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 94 من 112
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

أحاسيس اللظى

[الجزء الثاني: تداعيات الغزو العراقي الغادر: 1990]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج