مواقف الفاروق |
تناولنا في أحاديثنا السالفة بعض مواقف الفاروق رضي الله عنه الممثلة لعدالته واهتمامه بشؤون الرعية اهتماماً حرمه كل لذة غير لذة العدل في الرعية والسهر على سعادتهم ورفاهيتهم، ونتناول في حديث اليوم أمثلة من مواقف الفاروق تتمثل فيها شفقته على الرعية ومثاليته في الفقه والنزاهة: |
أما عفته عن مال المسلمين، فقد تجلت في سيرته منذ تقلد أمرهم، فقد لبث بعد توليه الخلافة زمناً لا يتناول شيئاً من بيت المال حتى إصابته خصاصة وضيق فاستشار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر معاشه وقال لهم: إني كنت امرأ تاجراً وقد شغلتموني بأمركم هذا. فما ترون أنه يصلح لي من هذا المال؟. فأشار عليه بعض الصحابة بأن يأكل منه ويطعم دون تحجير. وأشار عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيما يصلح إليه من مال المسلمين بقوله: ما يصلحك ويصلح عيالك بالمعروف ليس لك من هذا الأمر غيره. فأعجبه قول علي وصادف موضعه من نفسه. ولذا كان يقول: إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة وليِّ اليتم إنم استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف فإذا يسرت قضيت، ولقد كانت سيرته مطابقة لأقواله: فهذا الربيع بن زياد الحارثي يفد على عمر فيشكو إليه وجعاً من طعام أكله، فيقول له الربيع: يا أمير المؤمنين: إن أحق الناس بمطعم طيب وملبس لين ومركب وطىء لأنت. وكان عمر متكثاً وبيده جريدة فاستوى جالساً فضرب بها رأس الربيع وقال: والله ما أردت بهذا إلا مقاربتي، وإني لكنت أحسب أن فيك خيراً. ألا أخبرك بمثلي ومثل هؤلاء؟!! إنما مثلنا كمثل قوم سافروا وقد دفعوا نفقتهم إلى رجل منهم، فقالوا له أنفق علينا. فهل له أن يستأثر عليهم بشيء؟. قال: لا. |
هكذا كان عمر رضي الله عليه يرى أنه بمثابة الخازن لأموال المسلمين فليس له أن ينفق شيئاً إلا لصالحهم، ولذا كان يحاسب نفسه وعماله وأقاربه أشد حساب ويتقشف في معيشته أشد التقشف، وهو الذي فتح الله به على المسلمين الفتوح العظيمة وأورثهم على يديه كنوز كسرى وقيصر، وكان مع ذلك لا يرى لنفسه ولا لأهل بيته حقاً في أموال المسلمين إلا كأحدهم بل كأقلهم حظاً في ذلك، أما شفقته على الرعية ومواساته لهم فقد تجلت بأروع مظاهرها في عام الرمادة وهو عام قحط عظيم دام تسعة أشهر، واشتد الجوع فيه حتى كان الناس يسلقون رمة العظام المحروقة ويشوون الجلود ويأكلونها. وقد اهتم عمر لذلك اهتماماً عظيماً وأخذ يستنجد بعماله في الأقطار المخصبة كمصر والشام فتأتيه منها الأرزاق فيفرقها على البلاد المجدبة يبعث بها عماله إلى البوادي والأطراف القاصية ليكافحوا ذلك الخطر الداهم وينقذوا المسلمين من الهلاك الذي بات يتهددهم، وعمر في تلك الحقبة لا يقر له قرار ولا يذوق للراحة طعماً. حتى لقد قال غلامه أسلم: كنا نقول لو لم يرفع الله المحل عام الرمادة لظننا أن عمر يموت مهموماً بأمر المسلمين، نعم لقد كان عمر يواصل ليله نهاره في تفقد أحوال المسلمين ومواساة فقرائهم ومرضاهم وإطعام الجياع منهم بنفسه. ومن أمثلة شدة جزعه للقحط الذي أصاب المسلمين في ذلك العام الحادثة التالية: بينما هو نائم في المسجد وقد وضع رداءه مملوءاً حصى تحت رأسه. إذا هو بهاتف يهتف يا عمراه فانتبه مذعوراً فعدا إلى الصوت، وإذا أعرابي ممسك بخطام بعير والناس حوله، فلما رآه عمر ظنه مظلوماً فقال: من ذاك؟ فأنشد أبياتاً يذكر فيها الجدب فوضع عمر يده على رأسه ثم صاح واعمراه واعمراه! تدرون ما يقول؟ أيذكر جدباً وإسناناً وعمر يشبع ويروى والمسلمون في جدب وأزل (ضيق) من يوصل إليهم من الميرة والتمر ما يحتاجون إليه؟. فوجه رجلين من الأنصار معهما إبل كثيرة عليها الميرة فدخلا اليمن فقسما ما كان معهما. |
ولم تقف مواساة عمر لرعيته في محنتهم تلك عند هذا الحد، بل لقد حرم على نفسه في هذا العام اللحم والسمن وسائر الطيبات وقصر طعامه على الخبز والزيت حتى إذا نحروا يوماً جزوراً وعرقوا له قطعا من كبدها وسنامها، قال: أنى لك هذا؟. قالوا من الجزور التي نحرناها اليوم. قال: بخ بخ! بئس الوالي أنا إن أكلت طيبها وأطعمت الناس كراديسها (والكراديس رؤس العظام) أرفع هذه الجفنة وهات لنا غير هذا الطعام، فأتى بخبز وزيت وجعل يكسر بيده ويثرد ذلك الخبز ثم التفت إلى غلامه وقال له: ويحك بابرنا أحمل هذه الجفنة حتى تأتي بها أهل بيت بِثَمْغ (موضع وقف لعمر) فإني كم أنهم منذ ثلاثة أيام وأحسبهم مقفرين فضعها بين أيديهم. وكان يقول في تلك الحقبة: ((كيف يعني شأن الرعية إذ لم يعني ما أصابهم)) وهكذا يضرب عمر أروع الأمثال لمواساة الراعي لرعيته ومشاركته لهم في محنتهم وتفقده لشؤونهم بنفسه والتضحية في سبيل سعادتهم وهناءهم بكل مرتخص وغالٍ. |
بهذا الحديث نختتم أحاديثنا عن أمجاد الفاروق رضي الله عنه. ولسنا نعني أننا استقصينا تلك الأمجاد أو وفيناها حقها من الإشادة والتنويه، ولم يكن ذلك هدفنا، فهو ما لا يتسع له مثل هذا المقام. وإنما قصدنا تقديم صفحات وضاءة من تلك الأمجاد نتوج بها هذه الأحاديث. ولذا سنقتصر في حديث اليوم على الإلمام ببعض سمات المنهج الذي انتهجه الفاروق لسياسة الأمة العربية وإعدادها لحياة العزة والقوة السيادة والعمران. وأبرز هذه السمات بعد الذي قدمناه من أمثلة عدله وشفقته على الرعية، اتخاذه الشورى أساساً لحكومته، فلم يكن يبرم أمراً حتى يجمع المسلمين ويستشيرهم فيه وكانت شوراه على درجات يستشير العامة أولاً ثم يجمع المشيخة من الصحابة فما استقر عليه رأيهم عمل به، وكان يؤثر القراء بمجالسه ومشاورته كهولاً كانوا أو شباناً، ولم يكن يستنكف من مشاورة أحد حتى المرأة والأحداث، فإذا ظهر له الحق والصواب في جانب أحد منهم أخذ به وانصاع لحكمه، ومن كلماته المأثورة في الشورى قوله: لا خير في أمر أبرم من غير شورى وكان رضوان الله عليه حريصاً كل الحرص على توطيد أركان الشورى، ولذا ظل ينادي بها حتى الساعات الأخيرة من حياته، فقال في آخر وصاياه: الأمر بعدي شورى، وانتدب لذلك ستة من كبار الصحابة وأجلائهم. وبلغ من حرصه على إنفاذ أمر الشورى أن قال في آخر وصية له: أجمعوا أمركم فمن تأمر منكم على غير مشورة فأضربوا عنقه. أما السمات الأخرى البارزة في منهج عمر الإصلاحي فإنها تبدو واضحة في عنايته بتنظيم الحكومة الإسلامية وتعليم الأمة العربية وتربيتها تربية فاضلة تستجيب لمطالب العقل والجسم في حكمة واتزان وتعد الأمة لعمران الأرض وإصلاحها وإشاعة خيراتها بين جميع الطبقات حتى لا تستأثر بها طبقة دون أخرى. |
أما تنظيم الحكومة فيتجلى فيما وضعه من أسس صحيحة لضبط أموال الأمة وصيانتها وإنفاقها في صالح المسلمين، فهو أول من دون الدواوين في الإسلام، واتخذ بيت مال للمسلمين ونظم جباية الخراج، ورتب أعطيات الناس والجنود على حسب أسبقيتهم وجهادهم، وفي عهده أنشئت مدينتا البصرة والكوفة بإرشاده وتوجيهه في تخطيط الكوفة أن تكون سعة المناهج (الشوارع الرئيسية) أربعين ذراعاً وما يليها ثلاثين ذراعاً وما بين ذلك عشرين ذراعاً والأزقة سبع اذرع ليس دون ذلك، وإذا قدرنا هذا التخطيط بعين الزمن الذي صدر فيه علمنا مدى بعد نظر الفاروق وسبقه إلى تخطيط المدن الناشئة تخطيطاً لا يزال يعوز كثيراً من المدن والعواصم في هذا العصر. ومن أمثلة عناية الفاروق بالعمران أمره عمر بن العاص بحفر خليج من النيل إلى البحر الأحمر لتيسير حمل المؤن إلى المدينة ومكة، فلم يحل الحول حتى جرت فيه السفن وسمي خليج أمير المؤمنين ولم يزل تحمل فيه المؤن حتى عهد عمر بن عبد العزيز ثم أهمله الولاة فغلب عليه الرمل وانقطع. ومن أمثلته تشجيع الناس على العمران قوله على المنبر: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين) وذلك أنه رأى رجالاً يحتجرون من الأرض ما لا يعمرونه فاستحثهم بذلك على عمران ما احتجروه وإلا كان غيرهم أولى به، ومن أمثلته حقه على تثمير المال وتنميته ينصح المسلمين الذين نزلوا أسواق العراق ومن كان على شاكلتهم قوله: (لو أنه إذا خرج عطاء أحد هؤلاء، ابتاع منها فجعلها بسوادهم، فإذا خرج عطاؤه الثانية ابتاع الرأس والرأسين فجعله فيها فإني أخاف أن يليكم ولاة لا يعد العطاء في زمنهم مالاً، فإن بقي أحدهم أو أحداً ممن ولِّيَ كان لهم شيء قد اعتقدوه فيتكوّن عليه). |
ومن كلماته المشهورة في الحث على العمل والسعي في طلب الرزق قوله: ابتغوا الأرزاق من ضِبَابِ الأرض وقوله: (لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللَّهم ارزقني وقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة وإن الله تعالى رزق الناس بعضهم من بعض). |
أما عنايته بالتعليم ونشره، فقد برزت بروزاً واضحاً في وصاياه لعماله وولاته، فلا تكاد تخلو وصية له من تحريضهم على تعليم الرعية، وقد مر بنا بعض ذلك فيما استشهدنا به من وصاياه وخطبه وقد ندب لهذه الغاية نفراً من كبار الصحابة كعبادة ابن الصامت ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء ليعلموا الناس القرآن ويفقهوهم في دينهم. وكتب إلى أهل الشام يوصيهم بقوله: علموا أولادكم الكتابة والسباحة والرمي والفروسية ومروهم فليثبوا على الخيل وثبا، ورووهم ما سار من المثل وحسن من الشعر وإنها لوصية جامعة لأصول التربية الجسمية والعقلية والفروسية بأروع مظاهرها. ومن وصاياه الثمينة: (تعلموا العلم وعلموه الناس، وتواضعوا لمن تعلمتم منه العلم، وتواضعوا لمن علمتوه العلم، وتكونوا من جبارة العلماء فلا يقوم علمكم بجهلكم). |
ولم تكن عنايته بنشر التعليم مقصورة على المدن والحواضر، بل لقد كان يبعث إلى أهل البوادي من يعلمهم كما أنه جعل في المدينة أشخاصاً يفحصون المارة فيمن وجدوه غير متعلم أخذوه إلى الكتّاب. وجيء إليه مرة بإعرابي فقال له عمر: هل تحسن القرآن؟ قال الإعرابي نعم. فقال عمر: فاقرأ أم القرآن. فقال الإعرابي: والله لا أحسن البنات فكيف الأم فضربه عمر ثم أسلمه إلى الكتاب فمكث فيه مدة ثم هرب وأنشد: |
أتيت مهاجرين فعلموني |
ثلاثة أسطر متتابعات |
كتاب اللَّه في رق صحيح |
وآيات القرآن مفصلات |
وخطوا لى أبا جاد وقالوا |
تعلم سعفصا وقريشات |
وما أنا بالكتابة والتهجي |
وما حظ البنين من البنات |
|
ومن هذه الأمثلة يتضح لنا أن مكافحة الأمية وإشاعة التعليم بين الطبقات كافة ليس هو من بدع هذا العصر كما يظهر الجاهلون، بل هو سنة الإسلام التي أستنها نبيه العربي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم وتابعه فيها خلفاؤه الراشدون ومن سار على نهجهم من ملوك المسلمين وقادتهم المصلحين. |
|