أمجادنا في التاريخ (3) |
قدمنا في أحاديثنا السابقة صفحات رائعة من تراث الحضارة العربية في العصر العباسي، ونوهنا بالمكانة الباذخة التي بلغتها بغداد خصوصاً في عهد الخليفة هارون الرشيد، ونقدم اليوم صفحات أخرى مشعة من ذلك التراث الخالد تمثلت في عهد الخليفة العبقري المأمون بن هارون الرشيد، ذلك الخليفة الذي يقول عنه العلامة الكبير المرحوم سيد أمير علي في كتابه القيم (مختصر تاريخ العرب) يعتبر عصر المأمون ألمع عصر في التاريخ العربي، ويسمى بحق عصر الإسلام الذهبي، فالذي لا ريب فيه أن السنوات العشرين التي قضاها في خلافة المسلمين، قد تركت آثاراً خالدة لتطور المسلمين العقلي في جميع الحقول الفكرية. ذلك أن منجزاتهم لم تقتصر على أي فرع معين من فروع العلم والأدب، بل شملت كل ناحية من عالم الفكر والعقل، فازدهرت الفلسفة والرياضيات وعلم الفلك والطب، وقطعت خطوات عظيمة خلال تلك الحقبة المجيدة من المدنية الآسيوية، وانتقل تراثها العقلي إلى إسبانيا الإسلامية والقسطنطينية المسيحية، ومنها تحدرت إلى أوروبا الحديثة. وقد أنشأ المأمون المدارس والكليات في جميع أنحاء الدولة، كما أنشأ مجلساً استشارياً للدولة مؤلفاً من ممثلي الطوائف جميعاً.). |
وقد أفاض العلامة الجليل المرحوم كرد على ما في كتابه القيم (الإسلام والحضارة العربية) في بيان حسن سياسة المأمون وحزمه واهتمامه بشؤون الرعية. وفيما يلي نقتبس جملة مما ورد في ذلك الكتاب النفيس. قال: (ووقع للمأمون غير مرة أنه كان يخف إلى الأقطار التي تنشب فيها فتنة جديدة، لا يعتمد على رجاله، على كثرة الصالحين منهم للعمل. ولما انتفضت أسفل الأرض كلها بمصر عربها وقبطها، وأخرجوا العمال وخالفوا الطاعة. وكان ذلك لسوء سيرة العمال. هبط المأمون مصر، وسخط على عامله عيسى بن منصور، وأمر بحل لوائه.. وقال: لم يكن هذا الحدث العظيم إلا عن فعلتك وفعل عمالك، حملتم الناس ما لا يطيقون، وكتمتموني الخبر، حتى تفاقم الأمر واضطرب البلد. وقال: ما فتق على فتق في مملكتي إلا وجدت سببه جور العمال..). |
ثم قال المؤلف: (وخص المأمون بالإغضاء على المساوىء والتغاضي عن التفاهات وحمل الناس على عمل الخير، وهذا مع كثرة عنايته بأخبار عماله ورعيته). |
ثم يقول: (وكان لا يجلس إلى دار الخلافة حتى تأتيه كلها) - يعني تقارير المخبرين بأحوال الرعية - وكان يدور ليلاً ونهاراً متستراً. ومع كل هذا كان المأمون أبداً إلى جانب المسامحة والعفو، وتتجافى نفسه العظيمة عن كل ما يشتم منه رائحة الطمع والإسفاف إلى أموال العمال، وكانت المصادرات والنكبات تبطل في أيامه، ولا ينكب إلا من حاول نقض بنيان الدولة.. |
وقال أيضاً: (ولقد كان من أهم قوانين إدارة المأمون التوسعة على عماله حتى لا يسرقون الرعية والسلطان، ويضيعوا حقوقهم.. وما كان المأمون بالخليفة الذي يتخلى عن خاصة عماله لأدنى سبب، بل يغض الطرف عن مساويهم، ويتركهم في برزخ بين الرغبة والرهبة، ولذلك استراح وأراح الناس معه. وعلى قدر ما كان يراعي الخاصة يراعي العامة، فقد قال في وصيته للخليفة بعده: لا تغفل أمر الرعية والعوام، فإن الملك بهم وبتعهدك لهم، الله الله فيهم وفي غيرهم من المسلمين، ولا ينتهين إليك أمر فيه مصلحة للمسلمين ومنفعة إلا قدمته وآثرته على غيره من هواك، وخذ من أقويائهم لضعفائهم ولا تحمل عليهم في شيء وأنصف بعضهم من بعض بالحق بينهم، وقربهم وتأن بهم). |
وقال المؤلف أيضاً: (كتب إلى عامله في دمشق في التقدم إلى عماله في حسن السيرة وتخفيض المؤونة وكف الأذى عن أهل محله، وأن يتقدم إلى عماله في ذلك أشد التقدمة، وأن يكتب إلى عمال الخراج بمثل ذلك. وكتب بهذا إلى جميع عماله في أجناد الشام.. وكان يعدل الخراج إذا شكا منه أهله..). |
وقال أيضاً: (أصاب أهل مكة سيل جارف، مات تحته خلق كثير، فكتب والي الحرمين إلى المأمون يذكر له الحال، فوجه إليه المأمون بالأموال الكثيرة وكتب إلى الوالي: (أما بعد فقد وصلت شكيتك لأهل حرم الله إلى أمير المؤمنين، فبكاهم بقلب رحمته، وأنجدهم بسيب نعمته، وهو متبع ما أسلف إليهم، بما يخلفه عليهم، عاجلاً أو آجلاً، إن أذن الله في تثبيت عزمه على صحة نيته. قالوا: فصار كتابه هذا آنس لأهل مكة من الأموال التي أنفذها. وكان له في كل بلد حوادث من الإحسان قلما يتسامى إليها أحد من الخلفاء). |
ومن أمثلة عدل المأمون الرائعة الواقعة التالية التي ذكرها ابن كثير في تاريخه، قال: (وكان يتحرى العدل، ويتولى بنفسه الحكم بين الناس والفصل، جاءته امرأة ضعيفة قد تظلمت على ابنه العباس وهو قائم على رأسه، فأمر الحاجب فأخذ بيده فأجلسه معها بين يديه، فادعت عليه بأنه أخذ ضيعتها واستحوذ عليها، فتناظرا ساعة، فجعل صوتها يعلو على صوته، فزجرها بعض الحاضرين. فقال له المأمون: اسكت، فإن الحق أنطقها والباطل أسكته. ثم حكم لها بحقها، وأغرم ابنه عشرة آلاف درهم). |
وقد اشتهر المأمون بجملة خصال فاضلة في مقدمتها الحلم وحبه للعفو، حتى أنه كان يقول: (ليت أهل الجرائم يعرفون أن مذهبي العفو، حتى يذهب الخوف عنهم، ويدخل السرور إلى قلوبهم). |
وقد عقد العلامة الخضري فصلاً تحدث فيه عن الأخلاق التي يتميز بها المأمون في كتابه (محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية) نقتبس منه الفقرات التالية قال: (أول ما ظهر من حلم المأمون، ميله للعفو وكراهيته للانتقام، فإنه عفا عن جميع من ساعدوا خصومه عليه ولم يهجهم بشيء حتى الفضل بن الربيع، الذي أخذ قواده وجنوده وسلاحه، وجميع ما أوصى به أبوه له، فذهب بها إلى الأمين، وتركه يمر مجرداً عن كل ذلك، ثم أفسد عليه أخاه وأغراه على خلعه، وكان أشد عليه من كل شيء. ومع هذا لم يأخذه بجرمه. ولما دخل على المأمون، وأعلنه المأمون بالعفو عنه، سأله الرضا، فقال المأمون: أجل العفو لا يكون إلا عن رضا. وسجد المأمون شكراً لله على أن ألهمه نعمة العفو.. |
ثم قال: (وكان له في العفو لذة لا يعادلها لذة، حتى أنه لما ظفر بعمه إبراهيم عفا عنه مع عظم جرمه). |
ثم قال: (ومن مزايا المأمون أنه كان في جدله ميالاً إلى الإقناع، فكان يناقش من يخالفه حتى يبين له الحجة. وله في ذلك مجالس مأثورة مشهورة وله في الجدال حجج قوية ناصعة، مع سعة الصدر والاحتمال لما يبدر ممن حضره في المناقشة..). |
وكان مع هذه الأخلاق أديباً يعرف جيد الشعر ورديئه، ويثيب على ما أعجبه ثواباً فوق الأمل. حدث عمارة بن عقيل قال: أنشدت المأمون قصيدة فيها مدح له، فيها مائة بيت أو أكثر، فما بدأت صدر بيت إلا بادرني قافيته فقال عمارة: والله يا أمير المؤمنين، ما سمعها مني أحد قط، فقال المأمون: هكذا ينبغي أن يكون. فقال عمارة: قال لي عبد الله بن السمط: علمت أن المأمون لا يتبصر بالشعر، فقلت من ذا يكون أعلم به منه؟ فوالله لترانا ننشده أول البيت فيسبقنا إلى آخره قال: إني نشدته بيتاً أجدت فيه فلم أره تحرك له. فقلت ما الذي أنشدته؟ فقال: |
أضحى أمام الهدى المأمون منشغلاً |
بالدين والناس بالدنيا مشاغيل |
|
فقلت ما صنعت شيئاً، وهل زدت على أن جعلته عجوزاً في محرابها، في يدها سبحتها. فمن القائم بأمر الدنيا؟ إذا تشاغل عنها وهو المطوق بها. هلا قلت كما قال جرير في عبد العزيز بن الوليد: |
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه |
ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله |
|
ولعلم المأمون بالشعر وحبته له راجت سوقه في عصره وكثر الشعراء والأدباء والمغنون. ومن مواقف المأمون الدالة عن حسن سياسته، وسعة صدره في الجدل والمناظرة وبراعته في إقناع خصومه، وكسب رضاهم، بقوة الحجة ونصاعة البيان، الواقعة التالية التي ذكرها المسعودي في كتابه (مروج الذهب) حيث قال: (فإنه يوماً لجالس إذ دخل عليه علي بن صالح الحاجب، فقال: يا أمير المؤمنين، رجل واقف بالباب عليه ثياب بيض غلاظ مشمرة ويطلب الدخول للمناظرة فقلت إنه بعض الصوفية، فأردت أن أشير أن لا يؤذن له. فبدا المأمون فقال: أذن له. فدخل عليه رجل ثيابه قد شمرها ونعله في يده. فقال: السلام عليكم ورحمة الله. فقال المأمون: وعليك السلام. قال: أتأذن لي في الدنو منك؟ قال ادن فدنا ثم قال: اجلس. فجلس. ثم قال: أتأذن لي في كلامك؟ فقال تكلم بما تعلم أن لله فيه رضا، قال: أخبرني عن هذا المجلس الذي أنت قد جلسته أباجتماع من المسلمين عليك ورضا منك، أم بالمغالبة لهم بالقوة عليهم بسلطانك؟ قال لم أجلسه باجتماع منهم ولا بمغالبة لهم. وإنما كان يتولى أمر المسلمين سلطان قبلي أحمده المسلمون، إما على رضا وإما على كره، فعقد لي ولآخر معي ولاية هذا الأمر بعده في أعناق من حضره من المسلمين، فأخذ علي من حضر بيت الله الحرام من الحاج العهد لي ولآخر معي، فأعطوا ذلك، إما طائعين وإما كارهين، فمضى الذي عقد له معي على هذا السبيل التي مضى عليها، فلما صار إليّ علمت أني أحتاج إلى اجتماع كلمة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها على الرضا، ثم نظرت فرأيت أني متى تخليت عن المسلمين اضطرب حبل الإسلام، وانتفضت أطرافه وغلب الهرج والفتنة، ووقع التنازع، فتعطلت أحكام الله سبحانه وتعالى، ولم يحج أحداً بيته، ولم يجاهد في سبيله ولم يكن له سلطان يجمعهم ويسوسهم، وانقطعت السبل، ولم يؤخذ المظلوم من ظالم، فقمت بهذا الأمر، حياطة للمسلمين ومجاهداً لعدوهم، وضابطاً لسبلهم وآخذا على أيديهم. إلى أن يجتمع المسلمون على رجل تتفق كلمتهم عليه على الرضاية. فأسلم الأمر إليه وأكون كرجل من المسلمين. وأنت أيها الرجل رسول إلى جماعة المسلمين فمتى اجتمعوا على رجل ورضوا به، خرجت إليه من هذا الأمر. فقال الرجل: السلام عليكم ورحمة الله وقام. فأمر المأمون علي بن صالح، أن ينفذ في طلبه من يعرف مقصده، ففعل ذلك ثم رجع فقال: اتجه يا أمير المؤمنين إلى مسجد فيه خمسة عشر رجلاً، فقالوا له: لقيت الرجل؟ فقال: نعم، قالوا: فما قال: قال: ما قال إلا خيراً، ذكر أنه ناظر في أمور المسلمين إلى أن تأمن سبلهم، ويقوم بالحج والجهاد في سبيل، ويأخذ للمظلوم من الظالم، ولا يعطل الأحكام، فإذا رضي المسلمون برجل، سلم الأمر إليه، وخرج إليه منه. قالوا ما نرى بهذا بأساً وتفرقوا، فأقبل المأمون على يحيى فقال: كفينا مؤونة هؤلاء بأيسر خطب، فقلت: الحمد لله الذي ألهم أمير المؤمنين الصواب والسداد في القول). |
ولئن كان مجلس المأمون المار ذكره يعطينا مثلاً رائعاً لما تحلى به المأمون من حسن البيان وسعة الصدر، والبراعة في إقناع الخصم المناظر بالحجة وسلامة المنطق، فإنه لم يكن الوحيد في مجالسه ولم يكن فلتة في حياة المأمون الحافلة بأمثاله من مجالس الجدل والمناظرة، ولقد حفلت كتب التاريخ بذكر الكثير منها، ومن الكتب التي أشادت بهذه المجالس وأهدافها كتاب (ضحى الإسلام) للأستاذ أحمد أمين. وفيما يلي نقتبس منه الفقرات الآتية، قال رحمه الله تعالى (وكان للخلفاء في مجالس كثيرة ولا سيما المأمون، فقد كان مثقفاً واسع الثقافة، يجيد فروعاً كثيرة من العلوم، وفي كلها يناظر، فقد روى طيفور في كتابه (تاريخ بغداد) كثيراً من المجالس، فقد روى أن المأمون لما دخل بغداد وقربها قراره، أمر أن يدخل عليه من الفقهاء والمتكلمين وأهل العلم جماعة، يختارهم لمجالسته ومحادثته.. واختير له من الفقهاء لمجالسته مائة رجل، فمازال يختار طبقة بعد طبقة حتى حصل منهم عشرة، كان أحمد بن أبي داود أحدهم وبشير المريسي). |
(وأمر أن يسمى قوم من أهل الأدب يجالسونه ويؤامرونهم، فذكر له جماعة منهم الحسن بن الضحاك) ثم عقب الأستاذ أحمد أمين على ذلك بقوله: (بل يظهر أن المأمون رمى من مجالسه إلى غرض بعيد، هو أن تثار بين يديه المسائل الدينية المختلفة، فيسمع من كل رأيه وحججه، ثم يفصل في أوجه الخلاف في ضوء هذه الحجج، ورجا من هذا ألا يكون بعد خلاف. فقد قال يحيى بن أكثم (أمرني المأمون عند دخوله بغداد، أن أجمع له وجوه الفقهاء وأهل العلم من أهل بغداد، فاخترت له من أعلامهم أربعين رجلاً وأحضرتهم، وجلس لهم المأمون، فسأل عن مسائل، وأفاض في فنون الحديث والعلم، فلما انقضى ذلك المجلس الذي جعلناه للنظر في أمر الدين. قال المأمون: يا أبا محمد، كره هذا المجلس الذي جعلناه للنظر - طوائف.. وإني لأرجو أن يكون مجلسنا هذا، بتوفيق الله وتأييده على إتمامه، سبباً لاجتماع هذه الطوائف على ما هو أرضى وأصلح للدين، أما شاك فيتبين ويتثبت فينقاد طوعاً، وأما معاند فيرد بالعدل كرهاً.. بهذا أراد أن يجعل مجلسه مجمعاً علمياً له النظر في مسائل الخلاف، وله القول الفصل فيها..). |
ثم تكلم صاحب (ضحى الإسلام) عن جمع الكتب وترجمتها من اللغات المختلفة إلى اللغة العربية، وعن تكوين المكتبات في العصر العباسي، ولا سيما عهد الرشيد والمأمون، وخصه بشيء من التفصيل مكتبة (بيت الحكمة) التي أنشأها الرشيد وتعهدها بعده المأمون برعايته وعنايته فنمت واتسعت واحتلت منزلة رفيعة بين المكتبات العالمية، كما بين ما بذله المأمون من عناية فائقة في تزويد هذه المكتبة بالعلوم العقلية والفلسفية، وذلك حيث يقول: (فإذا انتقلنا بعد إلى عصر المأمون، رأينا أن رغبته في الفلسفة والعلوم العقلية أشد وميله أقوى وتبع ذلك - اتساع العمل في (بيت الحكمة) روى ابن النديم: (إن المأمون كان بينه وبين ملك الروم مراسلات، وقد استظهر عليه المأمون، فكتب إلى ملك الروم يسأله الإذن في إنفاذ ما يختار من العلوم القديمة، المخزونة المدخرة ببلد الروم، فأجابه إلى ذلك بعد امتناع، فأخرج المأمون لذلك جماعة منهم الحجاج بن مطر، وابن البطريق وسلما صاحب بيت الحكمة، وغيرهم، فأخذوا مما وجدوا ما اختاروا، فلما حملوه إليه أمرهم بنقله فنقل..). |
وقال ابن نباته عند الكلام على سهل بن هارون: (وجعله كاتباً على خزائن الحكمة، وهي كتب الفلاسفة التي نقلت للمأمون من جزيرة قبرص. وذلك أن المأمون لما هادن صاحب هذه الجزيرة، أرسل إليه يطلب خزانة كتب اليونان، وكانت مجموعة عندهم في بيت لا يظهر عليه أحد.. فأرسلها واغتبط بها المأمون، وجعل سهل بن هارون خازناً لها). |
قال صاحب ضحى الإسلام: (ويستنتج من هذا أن المأمون أرسل بعثة إلى القسطنطينية لإحضار الكتب اليونانية من طبية وفلسفية وأنه كان بين أفراد البعثة صاحب بيت الحكمة وهو مسلم). |
|