شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(أمجادنا في التاريخ) (2)
ازدهار الحضارة في العصر العباسي:
نوهنا بما بلغته الحضارة العربية في العهد العباسي من تقدم ورقي واستشهدنا على ذلك بنبذة لعلم من أعلام الشرق الإسلامي هو المرحوم سيد أمير علي. وأرجأنا بقية الكلام عن هذا الموضوع الطريف إلى حديث اليوم. وها نحن أولاً نصل حديثنا الآنف الذكر بنبذة أخرى عن الحضارة العربية في هذا العصر. لعلم من أعلام الغرب النابهين. هو الدكتور غوستاف لوبون نقلاً عن كتابه النفيس (حضارة العرب) قال هذا الكاتب الفيلسوف الكبير في كلامه عن تنظيم الدولة وازدهار الحضارة في هذا العصر وخاصة عهد الرشيد.. كان الرشيد حين جلس على عرش الخلافة في السنة الثالثة والعشرين من عمره. وكان تنظيم شؤون دولته أول ما فكر فيه. فوصلت ولايات الدولة بوسائل نقل منظمة وأنشئت مرابط لتتمكن البرد من قطع المساوف على عجل. وعني بحمام الزاجل لربط ما بين المدن بالرسائل. وقد كانت إدارة البريد من أهم وظائف الدولة كما في أوروبا الحديثة.. وكانت مالية الدولة دقيقة الضبط. وكان دخل الدولة قائماً على الجزية والخراج والمكوس وإحياء الموات واستخراج المعادن. وقد روى مؤرخو العرب أن دخل الخليفة السنوي كان مائتي مليون فرنك (مساوياً لهذا المبلغ المقدر بالعملة الفرنسية).
وكانت إدارة مالية الدولة موزعة بين أربعة دواوين مماثلة لدواوين الزمن الحاضر. وهي ديوان الغنائم ونفقات الجند وديوان الضرائب وديوان الجباية وديوان مراقبة الدخل والخرج. وكانت أوامر الخلفاء تكتب في سجلات خاصة ليرجعوا إليها عند الضرر وكان الوزير المرجع الأعلى لجميع شؤون الدولة. وكان أكثر الخلفاء يتركون له مقاليد الحكم ويشابه في عصر الخلفاء منصب رئيس الوزراء في أيامنا. ولم تكن الشرطة في عهد الخلفاء أقل انتظاماً من البريد والمالية وكانت للتجارة نقابة لمراقبة أمور البيع والشراء - ومنع الغش والتدليس. وكان انتظام مالية الخلفاء سبباً في تعبيد الطرق وإنشائهم للفنادق والمساجد والمستشفيات والمدارس في أنحاء الدولة ولا سيما في بغداد والبصرة والموصل. وقد اتسع نطاق الزراعة والصناعة.. وأنشئت مصانع للنسائج الحريرية في الموصل وحلب ودمشق وصار العرب يستغلون الممالح ومناجم الكبريت والرخام والحديد والرصاص بطرق فنية دقيقة. وقد وسعت دائرة - التعليم العام. واستدعى الأساتذة من مختلف أقطار العالم بلغ علم الفلك درجة رفيعة من التقدم فانتهى إلى نتائج لم ينته إليها الأوروبيون إلا في العصر الحاضر.
وقد أقدم العرب على تلك المباحث التي لم يكن لهم عهد بها بشوق ونشاط. وأكثروا من إنشاء المكتبات العامة والمدارس والمختبرات في كل مكان وسنرى حينما ندرس في فصول أخرى مقوّمات حضارتهم. إنهم كانت لهم مبتكرات في شتى العلوم. ومما تقدم نرى - العرب قد بلغوا درجة رفيعة من الثقافة بعد أن أتموا فتوحهم بزمن قصير ولكن لما كانت الإدارة الرشيدة والفنون والعلوم مما لايليها عفواً لم يفعل العرب غير مواصلة الحضارات التي أينعت قبل ظهورهم كالحضارة اليونانية اللاتينية - فكانت لهم مبتكرات فيما ورثوه من علومها وفنونها وطرق حكمها. وهم في ذلك على خلاف الروم المنحطين الذين سلموا إلى العرب تراث تلك الحضارات من غير أن يكونوا قد انتفعوا به. كان حب العرب للعلم عظيماً ولم يترك الخلفاء في بغداد طريقاً لاجتذاب العلماء ورجال الفن إلا سلكوه. وقد شهر أحد الخلفاء الحرب على قيصر الروم ليأذن لأحد الرياضيين المشهورين في التدريس ببغداد. وكان العلماء ورجال الفن والأدباء من جميع الملل والنحل يتقاطرون إلى بغداد التي كانت مركز الثقافة العالمية. وقد بلغ سلطان العرب - السياسي في عصر الرشيد وابنه المأمون أقصى درجات العزة والقوة. فكانت بلاد الصين حدّاً لدولة العرب من الشرق. وكان البحر المحيط الأطلسي حداً لها من الغرب.. والحق أن العرب الأشداء الذين لبوا دعوة محمداً استطاعوا أن يفتحوا في أقل من قرنين دولة بلغت ما بلغته دولة الرومان العظمة والاتساع وكانت أكثر دول الأرض هيبة وتمدناً).
وحسبنا شهادة هذين العلمين من أعلام الشرق والغرب ومن أقطاب التاريخ الحديث. حسبنا شهادتهما وإشادتهما بحضارة العرب دليلاً على ما بلغه العرب الأماجد في العصر العباسي من رقي وتقدم وما سبقوا إليه العالم من حضارة ومدينة - في وقت كان فيه الغرب يتخبط في دياجير الجهالة والوحشية ويحارب العلم والمدنية تحت ستار الدين وبقيادة زعمائه الجاهلين. أما إشادة علمائنا المتقدمين بحضارة العصر العباسي وما بلغته بغداد في هذا العهد من رقي وتقدم فقد أفردت لها المؤلفات والأسفار الضخمة ومن أجلِّها تاريخ الخطيب البغدادي وفيما يلي نقتبس بعض ما ذكره ابن كثير نقلاً عن البغدادي وغيره. قال ابن كثير في سياق كلامه على ارتياد المنصور للموضع الذي بنى فيه مدينة السلام (بغداد). قال.. (فحينئذ أمر المنصور باختطاطها فرسموها له بالرماد فمشى في طرقها ومسالكها فأعجبه ذلك. ثم سلم كل ربع منها لأمير يقوم على بنائه وأحضر من كل بلد فُعَّالاً وصناعاً ومهندسين. فاجتمع عنده ألوف منهم ثم كان هو أول من وضع لبنة فيها بيده وقال.. بسم الله والحمد لله. والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. ثم قال.. إبنوا على بركة الله. الخ. ومن هذا نعلم أن العرب - كانوا يضعون تصميمات دقيقة للمدن قبل إنشائها وأن عادة وضع الملك أو الحاكم للحجر الأساسي عند البدء في تشييد المباني الكبيرة قد عرفه العرب قديماً وليس هو من مستحدثات الغرب كما يظن الجاهلون بتاريخ أسلافهم الماجدين. وما ذكره ابن كثير في وصف بغداد (قال الحافظ أبو بكر البغدادي. لم يكن لبغداد نظير في الدنيا في جلالة قدرها. ومخافة أمرها وكثرة علمائها وأعلامها. وتميز خواصها وعوامها وعظيم أقطارها وسعة أطوارها وكثرة دورها ودروبها ومنازلها وشوارعها ومساجدها وحماماتها وخاناتها وطيب هوائها وعذوبة مائها وبرد ظلالها واعتدال صيفها وشتائها وصحة ربيعها وخريفها وأكثر ما كانت عمارة وأهلاً في أيام الرشيد..الخ).
ولا غرابة بعد ما ذكرناه في أن تصبح بغداد في عهد الرشيد وخلفائه عروس المدائن وأم العواصم. ولقد خلد محاسنها - ومشاهدها كثير من الشعراء والكتّاب ومن أجمل ما قيل فيها من الشعر قول سعد بن محمد الهمداني..
فدى لك يا بغداد كل مدينة
من الأرض حتى خطتي وديارها
فقد طفت في شرق البلاد وغربها
وسيرت خيلي بينها وركابيا
فلم أر فيها مثل بغداد منزلا
ولم أر فيها مثل دجلة واديا
ولا مثل أهليها أرق شمائلا
وأعذب ألفاظاً وأحلى معانيا
وقول طاهر بن المظفر..
سقى اللَّه صوب الغاديات محلة
ببغداد بين الكرخ فالخلد فالجسر
هي البلدة الحسناء خصت لأهلها
بأشياء لم يجمعن مذ كن في مصر
هواء رقيق في اعتدال وصحة
وماء له طعم ألذ من الخمر
ودجلتها شطان قد نظما لنا
بتاج إلى تاج وقصر إلى قصر
تراها كمسك والمياه كفضة
وحصباؤها مثل اليواقيت والدر
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :639  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 91 من 112
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج