شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الإسعاف في الإسلام (1)
أيها السادة:
تقوم جمعيات الإسعاف في الأمم المتمدينة بجهود عظيمة في خدمة الإنسانية وتخفيف آلامها، فنجد من تقدير تلك الأمم وعطفها وبرها ما يشدها أزرها ويشجعها على المضي قدماً في طريقها. وتقوم جمعية الإسعاف عندنا على حداثة عهدها بمساعيها المبرورة في خدمة هذا الوطن المقدس فلا تجد من أبنائه ما هي خليقة به من مؤازرة وتشجيع ولكن ذلك لا يفت في عضدها ولا يصرفها عن أداء واجبها بل إن إخلاصها لغايتها وإيمانها بالله يدفعانها إلى ابتكارها وسيلة أخرى من وسائل الإسعاف، أحسبها بزت فيها سائر جماعات الإسعاف، وأعني بها هذا الإسعاف الثقافي الأولى، إسعاف العقول والنفوس بهذه المحاضرات المشتملة على طائفة منتخبة من عناصر التثقيف والتهذيب فإذا هي تهيئ بذلك للجمهور مصحة ومدرسة ومنتدى في آن واحد. ثم هي في الوقت نفسه تمهد بعملها هذا الطريق لأداء رسالتها السمية وتعميم مبادئها النبيلة بطريقة مغرية وأسلوب جذاب.
إن لم نسد إليها ما هي جديرة به من مؤازرة وتأييد:
لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
لذلك أيها السادة اخترت الإسعاف موضوعاً لمحاضرتي ليكون بمثابة تحية مني لهذه الجماعة وتنويهاً بفضل عملها ومجهوداتها وقد آثرت أن يكون حديثي في هذا الموضوع مستمداً من تاريخنا الإسلامي الزاخر باسمي مبادىء الإسعاف وأجل مساعيه. وبدهي ألا أحاول في محاضرتي هذه استقصاء تاريخ الإسعاف في الإسلام فذلك ما لا يتسنى لي الإحاطة به في مثل هذا المقام وإنما غايتي أن أقدم لحضراتكم في هذه المحاضرة أمثلة نموذجية من جهود السلف الصالح في هذا السبيل.
وستجدون في هذه الأمثلة على قلتها دروساً عالية وأدلة ناطقة بما بذله الأسلاف الأماجد من جهود موفقة. في وضع أسس هذا العمل الإنساني النبيل.
وليس بدعاً أيها السادة أن يظل الإسلام الإسعاف بجناحيه وهو الدين الذي أرسل الله به رسوله رحمة للعالمين فكان صلوات الله وسلامه عليه المثل البارز في الرحمة والعطف والمواساة وكان أعظم داعٍ إلى بذل المعروف وإغاثة الملهوف والرأفة بالضعفاء والبائسين.
وسرعان ما سرت هذه الروح الكريمة في نفوس المؤمنين وتغلغلت بين طيات قلوبهم، فتبارى في هذا الميدان جماعة من الخلفاء والأمراء واقتفى أثرهم كثير من الأغنياء فكان من آثار ذلك ما سأقص على حضراتكم طرفاً موجزاً منه وإذ كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الينبوع الذي تفجرت منه هذه العيون والمنهل الذي أستنذت منه هذه الجداول فما أخلقني أن أتوج هذا الموضوع بإكليل من جواهر كلمه صلى الله عليه وسلم وقبس من ذلك النور الوهاج الذي هدى الإنسانية خير أسباب سعادتها ورشادها.
أرأيتم أيها السادة تمثيلاً لمعنى التعاطف والتراحم أروع من هذا التمثيل الذي مثل به النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين في قوله: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعي له سائر أعضاء الجسد بالسهر والحمي أرأيتم كيف أجمل هذا الحديث فكرة التعاطف الإسلامي في أسمى وأجل معانيه وكيف ضرب للإنسانية جمعاء أعلى مثل للأخوة والمواساة في لفظ موجز وتمثيل رائع. إن جلال هذا الحديث وسمو فكرته لتزداد روعة وسناء إذا قارناه بما جاء في الأحاديث الأخرى المستفيضة المتضمنة أسمى مبادئ الإسعاف والمواساة كقوله صلى الله عليه وسلم المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة وقوله صلى الله عليه وسلم من أغاث ملهوفاً كتب الله له ثلاثاً وسبعين مغفرة، واحدة فيها صلاح أمره كله واثنتان وسبعون له درجات يوم القيامة، وقوله صلى الله عليه وسلم بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق فاخره فشكر الله تعالى له فغفر له وقوله صلَّى الله عليه وسلم: بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئراً فنزل فشرب ثم خرج وإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقي فلقي الكلب فشكر الله تعالى له فغفر له. قالوا يا رسول الله: وإن لنا في البهائم أجراً، قال في كل كيد رطبة أجر أي في كل ذات روح. أي دعوة إلى المواساة والإسعاف أبلغ من هذه الدعوة؟ وأي أسلوب أروع من هذا الأسلوب في تحبيب الرحمة إلى القلوب وأغراء الإنسان بالعطف على أخيه الإنسان؟ وأي رحمة أسمى من هذه الرحمة العلوية وهي تبسط جناحيها لتظل بهما كل كائن حي حتى البهائم التي لا نكاد نقيم لحياتها وزناً ولا حساباً؟ أن يكن ثمت ما هو أروع وأحسن من تلك الدعوة الكريمة وهذه التعاليم الرحيمة فهي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وحياته الحافلة بأسمى معاني الرحمة والبر، فقد كان صلوات الله وسلامه عليه المثل البارز في الرأفة والمواساة، يحدب على الأيتام والأرامل والمنكوبين ويعطف على الفقراء والمساكين يواسيهم بنفسه ويصلهم ببره ويعود مرضاهم ويتفقد شؤونهم ويقضي حوائجهم وما أبلغ كلمة السيدة خديجة رضي الله عنها في تصوير هذه الناحية من حياته صلَّى الله عليه وسلم: إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق) فلا غرو وتلك دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وذلك طابع سيرته الغراء - أن نري السلف الصالح آخذاً بأوفر نصيب من أعمال البر والمواساة ولا غرابة في أن نرى النساء المسلمات تساهمن بنصيبهن في هذا السبيل وفي طليعتهن أمهات المؤمنين: فهذه عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وهذه أم أيمن حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم يتقدمن غيرهن من نساء المسلمين في يوم أحد ويساهمن في إسعاف الجرحى والمكدودين يحملن القرب على متونهن، يسقين منها أولئك المجاهدين ويسعفنهن في ذلك الموقف العصيب. وهذه امرأة غفارية تأتي النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة من غفار فيقلن له - وهو يسير إلى خيبر - يا رسول الله قد أردنا أن نخرج معك إلى وجهك هذا فنداوي الجرحى: نعين المسلمين بما استطعنا فيأذن صلى الله عليه وسلم لهن فيذهبن معه ويقمن بهذا الواجب خير قيام.
أما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أحرزوا قصب السبق في هذا الميدان، على أن يظل هذا المضمار وفارسه الذي لا يشق له غبار - هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسأعرض على حضراتكم أمثلة من أعمال هذا البطل العظيم وإسعافاته البالغة حد الروعة والجلال:
فمن ذلك القصة التالية:
بينما عمر يعمر ذات ليلة إذ مر برحبة من رحاب المدينة فإذا هو ببيت شعر لم يكن بالأمس، فدنا منه فسمع أنين امرأة ورأى رجلاً قاعداً، فدنا منه فسلم عليه، ثم قال: من أنت، قال: رجل من أهل البادية جئت إلى أمير المؤمنين أصيب من فضله، فقال: ما هذا الصوت الذي أسمعه في البيت؟ قال: انطلق رحمك الله لحاجتك. قال علي ذلك ما هو؟ قال: امرأة تمخض. قال: هل عندها أحد قال: لا. فانطلق حتى أتى منزله فقال لامرأته أم كلثوم بنت علي رضي الله عنهما: هل لك في أجر ساقه الله إليك؟ قالت: وما هو؟ قال: امرأة غريبة تمخض ليس عندها أحد. قالت: نعم. إن شئت. قال: فخذي معك ما يصلح المرأة لولادتها من الخرق والدهن. وجيئيني ببرمة وشحم وحبوب. فجاءت به فقال لها: انطلقي وحمل البرمة ومشت خلفه حتى انتهى إلى البيت فقال لها: أدخلي إلى المرأة، وجاء حتى قعد إلى الرجل، فقال له: أوقد لي ناراً ففعل فأوقد تحت البرمة حتى أنضجها، وولدت المرأة، فقالت امرأته يا أمير المؤمنين بشر صاحبك بغلام، فلما سمع الأعرابي يا أمير المؤمنين كأنه هابه، فجعل يتنحى عنه، فقال له: مكانك كما كنت، فحمل البرمة فوضعها على الباب، ثم قال اشبعيها ففعلت، ثم أخرجت البرمة فوضعتها على الباب فقام عمر فأخذها فوضعها بين يدي الرجل. وقال: كل ويحك فإنك قد سهرت من الليل. وقال لامرأته: أخرجي. وقال للرجل إذا كان غداً فائتنا نأمر لك بما يصلحك. فلما أصبح أتاه ففوض لابنه في الذرية وأعطاه.
ومن ذلك ما روي عن أسلم قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى حرة وأقم؛ حتى إذا كنا بصرار (بئر قديمة على ثلاثة أميال من المدينة) إذا نار تُورى. قال يا أسلم، إني أرى ههنا ركباناً قصر بهم الليل والبرد، انطلق بنا فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم، فإذا بامرأة معها صبيان، وقدر منصوبة على نار وصبيانها يتضاغون. فقال عمر: السلام عليكم يا أهل الضوء وكره أن يقول يا أصحاب النار. فقالت وعليكم السلام. فقال أدنو: فقالت:
أدن بخير أودع، فدنا منها فقال:
ما بالكم؟ قالت: قصر بنا الليل والبرد قال وما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت الجوع قال: وأي شيء في هذا القدر؟ قالت ماء أسكنها به حتى يناموا والله بيننا وبين عمر. فقال: أي رحمك الله، وما يدري عمر بكم؟ قالت يتولى أمرنا ثم يغفل عنا؟
فاقبل علي فقال: انطلق بنا فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عدلاً من دقيق وكبة من شحم، وقال: أحمله علي، قلت أنا أحمله عنك. قال: أنت تحمل وزري يوم القيامة لا أم لك؟ فحملته عليه فانطلق وانطلقت معه إليها نهرول فألقى ذلك عندها وأخرج من الدقيق شيئاً، فجعل يقول لها: ذري علي وأنا أحر لك وجعل ينفخ تحت القدر وكانت لحيته عظيمة. فرأيت الدخان يخرج من لحيته حتى طبخ لهم ثم أنزلها وقال: أبغني شيئاً فاتته بصفحة فافرغها فيها فجعل يقول لها: اطعميهم وأنا أسطح لهم (أي أبسطه حتى يبرد).
فلم يزل حتى شبعوا. وترك عندها فضل ذاك ثم قام وقمت معه، فجعلت تقول:
جزاك الله خيراً. كنت بهذا الأمر أولى من أمير المؤمنين فيقول قولي: خيراً إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني هناك إن شاء الله. ثم تنحى ناحية عنها ثم استقبلها فربض مربضاً، فقلت له: لك شأن غير هذا؟ فلا يكلمني، حتى رأيت الصبية يصطرعون، ثم ناموا وهدأوا. فقام يحمد الله ثم أقبل علي فقال: يا أسلم إن الجوع أسهرهم وأبكاهم فأحبب إلا انصرف حتى أرى ما رأيت.
إن القلم يعجز عن تصوير هذه العاطفة الكبيرة التي كان يحملها قلب هذا الخليفة العظيم ولعلّ القصة نفسها أبلغ وأروع تصويراً لتلك العاطفة النبيلة ولعلّ أروع ما في هذه القصة موقف عمر الأخير وكلمته المتدفقة عطفاً ورقة وحناناً ( يا أسلم إن الجوع أسهرهم وأبكاهم. فأحببت ألا انصرف حتى أرى ما رأيت) لندع هذا إلى موقف آخر من مواقف عمر الإسعافية الفذة.
خرج عمر في سواد الليل فرآه طلحة رضي الله عنهما، فذهب عمر فدخل بيتاً ثم دخل بيتاً آخر فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت، فإذا عجوز عمياء مقعدة. فقال لها: ما بال هذا الرجل يأتيك قالت إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى. فقال طلحة لنفسه: ثكلتك أمك طلحة أعثرات عمر تتبع.
وكان عمر إذا أتى باللقيط فرض له مائة درهم وفرض له رز يأخذه وليه كل شهر بما يصلحه، ثم ينقله من سنة إلى سنة وكان يوصي بهم خيراً ويجعل رضاعهم ونفقتهم من بيت المال وأمر فكتب له عيال أهل العوالي فكان يجري عليهم القوت وجمع ستين مسكيناً وأطعمهم الخبز فأحصوا ما أكلوه فوجدوه يخرج من جريبين، ففرض لكل إنسان منهم له ولعياله جريبين في الشهر هذا وقد تجلت عاطفة عمر رضي الله عنه بأجلى مظاهرها في عام الرمادة وهو سنة 18هـ العام الذي حصل فيه قحط شديد في الحجاز دام تسعة أشهر، فكان عمر رضي الله عنه يجلب الطعام والملابس من الأمصار الإسلامية، يوزع منها على المسلمين في المدينة وما حولها، يتعهدهم ويواسيهم بنفسه، ويوجه كذلك بالغذاء والملابس إلى نجد واليمن يتعاهد الجميع بما يصلح شأنهم ولقد بلغ من مواساته للمسلمين في تلك السنة أن حرم على نفسه اللحم والسمن وقصر غذاءه على الخبز والزيت فأصاب منهما اليسير ويؤثر المسلمين بما يصل إليه، فعن أم سلمة أن عمر رضي الله عنه كان يصوم الدهر، فكان زمان الرمادة إذا أمسي أتى بخبز قد ثُرِد بالزيت، إلى أن نحروا يوماً من الأيام جزوراً فأطعمها الناس، وعرفوا له طيبها فأتى به فإذا قدر (قطع) من سنام ومن كبد فقال: إني هذا؟ قالوا يا أمير المؤمنين من الجزور التي نحرنا ليوم. قال: بخ بخ بئس الوالي أنا إن أكلت طيبها وأطعمت الناس كراديسها (الكراديس رؤوس العظام) ارفع هذه الجفنة، هات لنا غير هذا الطعام، فأتي بخبز وزيت. وجعل يكسر بيده ويثرد ذلك الخبز، ثم قال: ويحك يا سرفا (اسم غلامه) احمل هذه الجفنة حتى تأتي بها أهل بيت بثمغ (موضع وقف لعمر) فإني لم آتهم منذ ثلاثة أيام وأحسبهم مقفرين فضعها بين أيديهم.
ولم يقتصر عطف عمر ومواساته على جماعة المسلمين بل امتد رواق هذا العطف فأظل الذميين حتى اليهود أشد الناس عداوة للذين آمنوا فقد مر عمر رضي الله عنه بباب قوم وعليه سائل يسأل: شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه وقال: من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي، قال: ما ألحاك إلى ما أرى، قال: اسأل الجزية والحاجة والسن. فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل - أي أعطاه شيئاً ليس بالكثير ثم أرسى إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضر باءه فوالله ما أنصفناه أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ والفقراء هم المسلمون، وهذا من مساكين أهل الكتاب. ووضع عند الجزية وعن ضرباته، هذا بعض مواقف عمر الإسعافية وأنها لخبر. يأتسي به المسلمون وأجل ما تفخر به الإنسانية.
فليس بدعاً بعد هذا أن نرى خلفاء المسلمين وملوكهم وأمراءهم يتبارون في هذا المضمار فيخلدون في صحيفة الإسعاف أعمالاً مجيدة وخدمات جليلة يذكرها التاريخ بلسان الإكبار والفخار فكم أنشأوا من ملاجيء ومستشفيات وأجروا عليها أنواع الأرزاق والمبرات وسأعرض على حضراتكم فيما يلي نماذج مما قاموا به من أعمال خالدة في هذا السبيل. فمن ذلك ما قام به الوليد بن عبد الملك.وتخصيصه لذوي العاهات من العطاء ما يقوم بحياتهم وإعطائه كل مقعد خادماً وكل ضرير قائداً. هذا إلى ما قام به من إصلاح الطرق وحفر الآبار في البلدان ليستقي منها الناس في يسر وسهولة ومن ذلك ما قام به الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز في هذا السبيل من عمل الخانات (2) في البلدان القاصية فقد كتب إلى سليمان بن أبي السرى أن أعمل خانات فمن مر بك من المسلمين فأكرموه يوماً وليلة وتعهدوا دوابهم ومن كانت به علة فاقروه يومين وليلتين، وإن كان متقطعاً فأبلغه بلده.
ومن ذلك ما قام به الجواد الأصفهاني من الأعمال الخالدة الذكر..وفيما يلي أنقل لحضراتكم نبذة مما كتبه عطوفة الأمير شكيب أرسلان في كتابه الارتسامات اللطاف عن هذا المحسن العظيم، قال حفظه الله في ترجمته ((فهو الوزير أبو جعفر محمد بن علي بن منصور اتصل بخدمة أنا بك زنكي في الموصل في الثلث الأول من القرن السادس للهجرة، وبعد أن قتل الملك المذكور استوزره سيف الدين غازي بن أنابك زنكي وفوّض المور وتدبير الدولة إليه)).
قال بن خلكان:
((فظهر حينئذ جود الوزير المذكور وانبسطت يده ولم يزل يعطي ويبذل الأموال ويبالغ في الإنفاق حتى عرف بالجواد، إلى أن قال ((وأثر آثاراً جميلة وأجري الماء إلى عرفات أيام الموسم من مكان بعيد وعمل الدرج من أسفل الجبل إلى أعلاه وبنى سور مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وما كان خرب من مسجده وكان يحمل في كل سنة إلى مكة شرفها الله تعالى والمدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام من الأموال والكسوات للفقراء والمنقطعين ما يقوم بهم مدة سنة كاملة وكان له ديوان مرتب باسم أرباب الرسوم والقصاد لا غير، ولقد تنوّع في فعل الخير حتى جاء في زمنه بالموصل غلاء مفرط فواسى الناس حتى لم يبق شيئاً)).
ومما كتبه ابن جبير الرحالة الأندلسي عن هذا الوزير العظيم قوله ((ولهذا الرجل رحمه الله من الآثار السنية والمفاخر العلية التي لم يسبق إليها أكابر الأجواد وسراة الأمجاد فيما سلف من الزمان، ما يقرر الإحصاء ويستغرق الثناء ويستصحب طول الأيام على الألسنة بالدعاء وحسبك أنه اتسع اعتناؤه بإصلاح عامة طرق المسلمين بجهة الشرق من العمران إلى الشام إلى الحجاز حسبما نذكره. واستنبط المياه وبنى الجبار واختط المنازل في المغازات وأمر بعمارتها مأوى لأبناء السبيل وكافة المسافرين وابتنى بالمدن المتصلة من العراق إلى الشام فنادق عينها لنزول الفقراء أبناء السبيل الذين يضعف أحدهم عن تأدية إلا كرية وأجرى على قومه تلك الفنادق والمنازل ما يقوم بمعيشتهم وعين لهم ذلك في وجوه تأيدت لهم فبقيت تلك الرسوم الكريمة ثابتة على مالها إلى الآن فسارت بجميل ذكر هذا الرجل الرفاق وملئت ثناء عليه الآفاق)).
ومن ذلك ما قام به السلطان قلاوون في مصر فقد أنشأ بيمارستان (3) وأعد فيه غرفاً متسعة وفرشها بالأسرة للمرضى من الفقراء والأغنياء على السواء وخاصة النساء.
ومن ذلك ما اثر عن صلاح الدين الأيوبي في هذا الباب من مآثر وأعمال ردد صداها المشرق والمغرب فقد كان من عطف صلاح الدين على الغرباء الطارئين أن أقام لهم ((بيمارستان)) لعلاج من مرض منهم وأمر بتعيين حمامات يستحمون فيها متى احتاجوا إلى ذلك وأمر بعمار محاضر ألزمها معلمين يعلمون أبناء الفقراء والأيتام خاصة وتحري عليهم الجراية الكافية لهم. بل لقد بلغت عاطفة صلاح الدين من النبل والسمو أن يبعث طبيبه إلى أحد زعماء الصليبيين ليداويه على ما كان بينه وبين الصليبيين من حروب وعداء.
هذا أيها السادة بعض ما قام به الأسلاف الأماجد من أعمال الإسعاف والمواساة ولو أني حاولت أن أحصي ما قاموا به من جهود وما شيدوا من مؤسسات لخدمة الإنسانية وإسعادها لاستغراق ذلك سلسلة من المحاضرات فإن ما حفظه التاريخ من آثار تلك الأعمال وما أبقت عليه يد البلى من آثار تلك المؤسسات مما يكاد يفوت الحصر ولا يكاد يخلو من مأثره مصر من الأمصار التي أظلها الإسلام والمدينة العربية. وإنكم لتشاهدون بين ظهرانيكم الكثير من تلك الملاجىء والرباطات الخيرية الجامعة بين إيواء الغريب ومواساته ببعض ما يسد عوزه مع تسهيل أسباب الطلب والتحصيل له. على أنه مما يؤسف له أن نرى بعض هذه الملاجيء قد اتخذها الكسالى والعاطلون مأوى لهم حتى أصبحت على جد التعبير العامي (تنبل خانه) وذلك ما حدى ببعض الحكومات المعاصرة إلى إغلاق بعض ما لديها من التكايا والملاجيء القديمة..
وأخيراً أشكركم أيها السادة على إقبالكم على سماع هذه المحاضرة وأشكر هيئة الإسعاف التي أتاحت لنا هذه الفرص الطيبة، وأرجو أن يكون لهذه المحاضرات أثرها المنشود في تثقيف العقول وتهذيب النفوس وحفز الهمم إلى اقتفاء آثار الأسلاف الأماجد فقد آن لنا أن:
تبنى كما كانت أوائلنا
نبني ونفعل مثل ما فعلوا
 
طباعة

تعليق

 القراءات :595  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 79 من 112
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج