شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
التربية النبوية (1)
ذلك هو الموضوع الذي اقترح علي الأستاذ الفاضل صاحب ((المنهل)) الأغر أن أكتب فيه لحوليته الممتازة. وهو الموضوع الذي شغفت بالبحث فيه منذ أتيح لي الوقوف على بعض مصادره وينابيعه الزاخرة بأطرف التوجيهات التربوية وأروع مثلها العليا، وهو البحث الذي أذعت عنه بضعة أحاديث من منبر الإذاعة السعودية، ولم أوفه بعد ما هو جدير به من بحث واستقصاء وعرض وتحليل، وإذا كنت لم أستطع أن أوفيه حقه في سلسلة من الأحاديث وجملة من الصحف والمقالات؛ فما عساي أن ابلغه في الصفحات التي حددت لي من هذا الجزء الخاص من (المنهل) وإذا لم يكن لي بد من تلبية رغبة الأستاذ الأنصاري الكريم فلأحاول في مقالي هذا أن أقبس قبساً من ذلك السراج الوهاج، وأن أرسم الخطوط الأولية لتلك التربية المثالية، سالكاً سبيل الإجمال والإيجاز:
عنايته صلى الله عليه وسلم بالتربية والتعليم:
تحتل قضية التربية مكانة مرموقة من عنايته عليه الصلاة والسلام، وقد تجلت هذه العناية في كثير من مواقفه وتوجيهاته العالية وفي طائفة كبيرة من أحاديثه الشريفة وإرشاداته الثمينة، وحسبنا في هذا المقام قوله عليه السلام في الإشادة بفضل التربية؛ والتنويه بما لها من شأن خطير: أدبني ربي فأحسن تأديبي.
ويكفينا هنا من مواقفه الدالة على إجلاله لشأن العلم والتعليم، إيثاره حلقات الدرس على مجالس الذكر والعبادة، وتتويجه هذا العمل الجليل بقوله: إنما بعثتُ معلماً وناهيك بما في ذلك من تنويه بفضل التعليم وتشريف لزمرة المعلمين.
ومن أقواله الدالة على ما للتعليم من فضيلة عظيمة قوله لمعاذ حين بعثه إلى اليمن ليعلم الناس القرآن وشرائع الإسلام: لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا وما فيها.
أهداف التربية النبوية:
يمكن تلخيص الأهداف الأساسية للتربية النبوية في الأحاديث الآتية:
1 ـ بعثت لأتمم مكارم الخلاق في هذا الحديث أبلغ تنويه بالتربية الخلقية وبالمنزلة السامية التي تحتلها من عنايته صلى الله عليه وسلم.
2 ـ خيركم من لم يترك آخرته لدنياه، ولا دنياه لآخرته، ولم يكن كلاً على الناس.
في هذا الحديث أوضح دليل على أن التربية النبوية كانت ترمي إلى إعداد المسلم لأن يكون عضواً صالحاً في المجتمع، عالماً لما يعلي من شأنه ويصونه عن ذل العجز والافتقار إلى الناس، آخذاً بأوفر نصيب من أسباب السعادة الحقة في الدنيا والآخرة.
3 ـ المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، اِحرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز.. إن في هذا الحديث خير دعامة لتربية المسلم على القوة والعزة والكرامة والطموح والإقدام، والحرص على العمل النافع والاعتماد على النفس بعد الله، وعدم الإخلاد إلى العجز والقنوط.
طريقته صلى الله عليه وسلم في التربية:
تجنح التربية النبوية إلى التيسير على المتعلمين والرفق بهم وصيانتهم عن مواقف العنت والتعنيف، ومن الآثار الداعمة لهذا الاتجاه قوله: إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً ولكن بعثني معلماً ميسراً. وقوله: علموا ولا تعنفوا فإن المعلم خير من المعنف. ومن شواهد رفقه بالمتعلم حديث ذلك الصحابي الذي شمت أحد المصلين وهو في الصلاة، فما زاد عليه السلام على أن أرشده - بعد الصلاة - إلى ما ينبغي له أن يفعله في مثل هذه الحال، وفي ذلك يقول الصحابي: فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كبرني - أي ما نهرني ولا ضربني ولا شتمني.. الحديث.
ولقد كان صلى الله عليه وسلم ينهج في التعليم منهجاً عملياً يتجلى في تعليمه الصحابة الوضوء والصلاة، ومناسك الحج وغيرها من التكاليف الشرعية بطريقة عملية، وقد سار على نهجه هذا الصدرُ الأول من السلف الصالح، وفي ذلك يقول أبو عبد الرحمن السُّلمي: (حدثنا من كان يقرؤنا من أصحاب رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يأخذون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يُعلموا ما في هذه من العلم والعمل، قال فيعلمنا العلم والعمل).
ومن أبرز خصائص التربية النبوية التدرج بالمتعلمين والتبسط معهم، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: نحن معاشر الأنبياء، نخاطب الناس على قدر عقولهم ومن شواهد هذا النهج القويم ما أورده صاحب (الترتيبات الإدارية) حيث يقول: ((ذكر البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه)): كونوا ربانيين، علماء فقهاء. قال البخاري: ويقال الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره. قال الحافظ ((والمراد بصغار العلم ما وضح من مسائله؛ وبكباره ما دق منها)).
القدوة الحسنة:
لا يخفى ما للقدوة من أثر قوي في التربية ولا غرابة في أن يكون الرسول صلوات الله عليه، المثل الأعلى في القدوة الصالحة، فقد أدبه ربه بارىء الخلق ومربيهم بأمثال قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (الأعراف: 199)، وقوله إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ (النحل: 90)، وقوله وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (لقمان: 17)، وقوله َبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ (آل عمران: 159)، ولقد زكاه جل شأنه وأثنى عليه بقوله وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم: 4)، ونوه سبحانه وتعالى بمنزلته في القدوة بقوله: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (الأحزاب: 21) فليس بدعاً إذاً في أن يكون صلى الله عليه وسلم خير أسوة لأصحابه في مواقف البر والإحسان والبطولة والتضحية، وأعلى مثل لهم في الفضائل ومكارم الأخلاق، وأعظم قدوة للمربين في التربية والتأديب وحسن الرعاية للأطفال؛ يحدب على صغارهم ويترفق في توجيههم وإرشادهم ويتلطف في محادثتهم وإيناسهم ويفسح لهم المجال للعب المباح ولا يضن عليهم بمزاحه ومداعباته، كما يحبو النابهين من الأحداث ثقته وحسن تقديره ويندبهم للمهمات تشجيعاً لهم وإذكاءً لمواهبهم، أما الشبان وذوو الكفايات الممتازة، فقد كانوا يلقون من تكريمه وتقديره ما يكون أقوى حافز لهم على الإمعان في التفوق والتبريز، كما كان يمنح الكهول والشيوخ من عطفه ورعايته ما يكون خير عون لهم على بلوغ الدرجة التي ترشحهم لها مؤهلاتهم.
وسائل التشويق:
لوسائل التشويق والإيضاح مكانة بارزة في طريقته صلى الله عليه وسلم تهدف إلى زيادة الإيضاح والبيان وإلى تجديد القوى والنشاط، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة أي يتعهدهم بها آناً بعد آن منعاً للسآمة، وكان يلقي عليهم من الأسئلة ما يجدد نشاطهم وانتباههم، وكثيراً ما يستعمل الأسلوب الاستفهامي كقوله: ألا أخبركم بكذا؟ أتدرون ما مثل هذا؟ ونحو ذلك؛ كما كان لضرب الأمثال والقصص الحق نصيب ملحوظ من أسلوبه التعليمي، بل لقد أباح رواية القصص والحكايات العجيبة عن بني إسرائيل وقال حدثوا عن إسرائيل ولا حرج وكانت تجري في مجالس سمره طرف من القصص والأسمار، كحديث أم زرع وحديث خرافة؛ ولم يهمل صلوات الله عليه وسائل التشويق والإيضاح الحسية، ومن أمثلة ذلك تصويره الأمل والأجل بالتخطيط تارة وبالحصا تارة أخرى؛ وتمثيله بعض المسائل بأصابعه ويديه الكريمتين: ولما كان اللعب عاملاً بعيد الأثر في حياة الأطفال فقد أولت التربية النبوية هذه الناحية ما هي جديرة بها من رعاية وعناية، ومن المأثور في ذلك: ((من كان له صبي فليتصاب له)) وإذا كان التراب ومشتقاته كالصلصال ونحوه ذا أثر بارز في ألعاب الأطفال وإشباع غرائزهم وميولهم وتمرين حواسهم مما جعله يحتل مكاناً مرموقاً في رياض الأطفال، فإن في الأثر الآتي: ((التراب ربيع الصبيان)) أبلغ إشارة إلى الدور الذي يمثله التراب ومشتقاته في ألعاب الصبيان، ولما كانت الصور عنصراً مهماً من عناصر لعب الأطفال ووسيلة ناحجة في تثقيفهم وتدريبهم على بعض شؤون الحياة، فقد رخص عليه السلام للصبيان بالصور كما يدل على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان صواحبي يلعبن معي فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل ينقمعن منه - أي يستترن - فيسر بهن إلى فيلعبن معي وقد فسروا البنات باللعب والصورة شبه الجواري يلعب بها الصبيان، وعلى العلماء الترخيص فيها بما في هذه اللعب من تدريب للأطفال على تربية الأولاد؛ على أن لهذا الحديث بقية تمكن أن يفهم منها أن الرخصة في هذه اللعب قد لا تقتصر على تدريب البنات على تربية الأولاد، وقد تتسع لبعض الأهداف الرفيعة التي ترمي إليها التربية الحديثة المتزنة، كتربية الحواس والخيال. وإيضاح المعلومات وتقرير الحقائق البعيدة وما إلى ذلك.. فقد جاء في سياق لعب السيدة عائشة بالبنات أنه صلى الله عليه وسلم رأى بيدها فرساً مربوطاً له جناحان فقال: ما هذا؟ قالت فرس قال: فرس له جناحان؟ قالت ألم تسمع أنه كان لسليمان خيل لها أجنحة؟ فضحك صلى الله عليه وسلم..
ومما يمكن اعتباره داخلاً في هذا الاتجاه التربوي الطريف مما يتمشى مع أحدث اتجاهات التربية الحديثة، ترخيصه صلى الله عليه وسلم بتربية بعض الحيوانات في المنزل واللعب بها بما لا يؤدي إلى تعذيبها؛ كما يدل على ذلك حديث أبي عمير، وأبو عمير هذا طفل كان له نغر يلعب به فمات فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم حزيناً فقال ما شأنه؟ قال مات نغره فقال صلى الله عليه وسلم مداعباً له (يا أبا عمير ما فعل النغير؟) والنغير طائر صغير كالعصفور وهو تصغير للنغر ولعلَّه الطائر المعروف اليوم في المدينة بالنغري.
وقد ذكر صاحب ((الترتيبات الإدارية)) في هذا الباب أمثلة لترخيصه صلى الله عليه وسلم بتربية بعض الحيوانات في المنزل نذكر منها ما يأتي:
1 ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لآل النبي صلى الله عليه وسلم وحش فإذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لعب واشتد وأقبل وأدبر، فإذا أحس برسول الله صلى الله عليه وسلم قد دخل، ربض فلم يرم، ما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت كراهية أن يؤذيه.
2 ـ وعن علي رضي الله عنه أنه شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الوحشة فقال له (ألا اتخذت زوجاً من حمام فآنسك وأكلت من فراخه؟ أو اتخذت ديكاً فآنسك وأيقظك للصلاة).
كلمة ختامية:
هذا عرض مجمل للتربية النبوية نختمه بكلمة موجزة نلفت بها الأنظار إلى الأثر العظيم الذي أحدثته تلك التربية في الرعيل الأول من السلف الماجدين، فإن ذلك الأثر الجليل أسطع برهان على عظم تلك التربية وبلوغها الدرجة العليا من السمو والكمال، أليست هذه التربية التي جعلت من المؤمنين السابقين أبطالاً يستعذبون الموت وأقسى ألوان العذاب في سبيل العقيدة ويخوضون من أجلها أهوال الحروب والأخطار؛ بنفوس تؤثر الجهاد تحت راية التوحيد على عيش الراحة والنعيم وقلوب تحب الموت والاستشهاد في سبيل الله كما يحب الناس الدعة والحياة؟ أليست هي التربية التي آخت بين المهاجرين والأنصار تلك المؤاخاة التي أصبحت مضرب الأمثال في الحب والوفاء والإيثار؟ أليست هي التي جعلت المسلمين الأولين يتسابقون في بذل أعز ما يملكون من ثروات ونفوس، والمسلمات السابقات يتبارين في تقديم أثمن ما لديهن من حلي وزينة، ويضحين بفلذات أكبادهن راضيات مغتبطات.
أليست هذه التربية التي تمخضت عن أولئك الخلفاء العظام الذين بسطوا لواء الإسلام على أكثر أقطار المعمورة وأفاءوا على الدنيا ظل العدل والحرية والمساواة؟ أليست هي التي أنجبت للعالم تلك النخبة الممتازة من العلماء الأعلام والعباقرة النابهين الذين وضعوا أقوى الأسس والدعائم لأعظم تشريع وأنضر حضارة عرفهما التاريخ؟ أليست هي التربية التي أخرجت من سكان الصحارى والقفار قواداً دهاة في ميادين الحرب والسياسة، ورواداً هداة في حقول التعليم والإرشاد.
أن تربية هذه بعض آثارها الرائعة، وتلك آثاره من تراثها الخالد، لقمينة بإثارة كنوزها الثمينة والاسترشاد بمثلها العليا.
وأخيراً، أختتم كلمتي هذه بحديث من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام اشتمل على خير أساس لسعادة المجتمع ألا وهو حديث كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته؛ والأمير راع والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.. لو عمل المسلمون بهذا الحديث الشريف كل في دائرة اختصاصه لأصبحوا أقوى أمة وأعز أمة وأرقى أمة، وفق الله الجميع للسير على هذا المنهج القويم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :570  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 71 من 112
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة بديعة كشغري

الأديبة والكاتبة والشاعرة.