الاثنينية ::المكتبة

مكتبة الاثنينية

عبد الله بن عباس ⁽¹⁾ (2)

عبقريته:

لا ريب في أن ابن عباس من العباقرة الأفذاذ، ولو أردنا أن نستقصي نواحي عبقريته لألفينا أنفسنا أمام سفر حافل بأروع أسرار العبقرية وأقوى عناصرها: وحسبنا في هذه العجالة أن نعرض بعض مظاهر هذه العبقرية عرضاً موجزاً. وقبل أن نعرض لهذه المظاهر بشيء من التفصيل يحسن بنا أن نذكر هنا كلمة صعصعة بن صوحان وقد ورد على علي بن طالب رضي الله عنه - من البصرة فسأله عن ابن عباس - وكان على خلفه بها - فقال صعصعة: ((يا أمير المؤمنين)): إنه آخذ بثلاث، وتارك لثلاث، آخذ بقلوب الرجال إذا حدث، ويحسن الاستماع إذا حدث، وبأيسر الأمرين إذا خولف. وترك المراء، ومقارنة اللئيم، وما يعتذر منه.

هذه الكلمة على إيجازها تشير إلى جملة نواح من عبقريته، فهي تشير إلى قوة شخصيته وعلمه وفصاحته ولولا ذلك لما استطاع أن يأخذ بالقلوب إذا حَدّث، وفى أخذه. يحسن الاستماع إذا حُدِّثْ دلالة على أدبه العالي ونبل تواضعه؛ وفي أخذه بأيسر الأمرين إذا خولف دليل على دماثة خلقه ورحابة صدره، وناهيك بما في تركه للمراء ومقارنة اللئيم وما يعتذر منه، من دلالة قوية على حكمته وحصافة عقله وسمو أخلاقه. وحسب الرجل أن يتصف بمثل هذه السجايا والمواهب ليكون من أعظم عباقرة العالم وأخلدهم في صحائف التاريخ، وها نحن أولاء نحاول أن نفصل بعض ما أجملته هذه الكلمة الجامعة فيما يأتي:

علمه وعقله:

يروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال لابن عباس: ((إنك لأصبح فتياننا وجهاً، وأحسنهم عقلاً، وأفقههم في كتاب الله عز وجل))، وكان عمر يحبه ويدنيه ويشاوره مع أجلة الصحابة، وكان يقول إذا اقبل ابن عباس: جاء فتى الكهول ذو اللسان السؤول، والقلب العقول، وعن الواقدي أن عمر وعثمان رضي الله عنهما كانا يدعوان ابن عباس فيسير مع أهل بدر وكان يفتى في عهد عمر وعثمان إلى أن مات. وعن طاووس قال: أدركت خمسين أو سبعين من الصحابة إذا سئلوا عن شيء فخالفوا ابن عباس لا يقومون حتى يقولوا هو كما قلت أو صدقت وعن عمر بن دينار قال: ما رأيت مجلساً أجمع لكل خير من مجلس ابن عباس، الحلال والحرام، والعربية والأنساب، وعن أبي الزناد وعن عبيد الله بن عبد الله قال: ((ما رأيت أحداً كان أعلم بالسنة ولا أجل رأياً ولا أثقب نظراً من ابن عباس، ولقد كان عمر يعده للمعضلات مع اجتهاد عمر ونظره للمسلمين)) ومما يدل على بعد نظره وأصالة رأيه إشارته على علي بن أبي طالب أن يستنيب معاوية على الشام وألا يعزله عنها في بادىء الأمر حتى قال له فيما قال إن أحببت عزله فولِّه شهراً وأعزله دهراً. ولما تراوض الفريقان على تحكيم الحكمين طلب ابن عباس أن يكون من جهة علي ليكافىء عمرو بن العاص، فامتنع أهل اليمن إلا أن يكون أبو موسى الأشعري من جهة علي فكان من أمر التحكيم ما كان؛ ولما عزم الحسين على الخروج إلى العراق نهاه ابن عباس وأراد أن يتعلق بثيابه وأشار عليه بآرائه الصائبة فلم يقبل منه، وله من أمثال هذه المواقف مع علي ومعاوية وابن الزبير ما يشهد له بالنظر الثاقب والرأي السديد.

قال أبو عمرو بن العلاء: نظر الحطيئة إلى ابن عباس في مجلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه - غالباً عليه فقال: من هذا الذي يرع الناس بعلمه ونزل عنهم بسنه؟ قالوا: عبد الله بن عباس فقال فيه أبياتاً منها:

إني وجدت بيان المرء ناقلة

تهدي له ووجدت العي كالصمم

والمرء يفنى وتبقى الكَلِمُ سائرة

وقد يلام الفتى يوماً ولم يلم

وهكذا استطاع ابن عباس أن يزاحم بمنكبيه شيوخ الصحابة وأكابرهم وأن ينتزع من عبقريهم العظيم لقب فتى الكهول. فكان بذلك خير قدوة للشباب الطموح وكان أصدق مثل لقول المتنبي:

فما الحداثة من حلم بمانعة

قد يوجد الحلم في الشّبان والشيب

بلاغته وقوة بديهته:

((كنت إذا رأيت ابن عباس قلت أجمل الناس، فإذا نطق قلت أفصح الناس، فإذا تحدث قلت أعلم الناس)).

قال الجاحظ: ومن الخطباء الذين لا يضاهون ولا يجارون عبد الله بن عباس قالوا خطبنا بمكة - وعثمان رضي الله عنه محاضراً - خطبة لو شهدتها الترك والديلم لأسلمتا! وذكره حسان بن ثابت رضي الله عنه فقال:

إذا قال لم يزل مقالاً لقائل

بمنتظمات لا ترى بينها فضلا

كفى وشفى ما في النفوس ولم يدع

لذي أربة في القول جداً ولا هزلا

سموت إلى العليا بغير مشقة

فنلت ذراها لا دنيا ولا وغلا

ولقد كان له في حلبة البيان والمناظرة مواقف سجلت له الفخر الخالد والفضل الذي لا ينازع. ولعلَّ من أروعها وأولها على سمو بيانه وقوة بديهته مناظرته لمعاوية الرهط الذين انتدبهم لمناظرته وفيهم عمرو بن العاص وزياد والمغيرة بن شعبة وأمثالهم من دهاة العرب وفرسان البيان، ولولا ضيق المقام لأوردنا هذه المناظرة لما فيها من بلاغة وسحر بيان، وحسبنا أن نشير إليها هنا ليرجع إليها من أراد في كتب الأدب ومراجعه.

طباعة

تعليق

القراءات :499

التعليقات :0

صفحة 69 من 112

من ألبوم الصور

المزيد >>

من أمسيات هذا الموسم

بتاريخ: 11/05/1436ھ الموافق: 03/02/2015م

الجمعية النسائية الخيرية الأولى بجدة

أول جمعية سجلت بوزارة الشئون الاجتماعية، ظلت تعمل لأكثر من نصف قرن في العمل الخيري التطوعي،في مجالات رعاية الطفولة والأمومة، والرعاية الصحية، وتأهيل المرأة وغيرها من أوجه الخير.

المزيد >>