شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
محمود سامي باشا البارودي
ولد محمود سامي باشا في 27/7/1255هـ الموافق 1818م لأبوين من الجراكسة وكان أبوه حسن حسني بك البارودي من أمراء المدفعية في الجيش المصري ثم صار مدير البربر ودنقله في عهد محمد علي باشا جد الأسرة الخديوية وكان عبد الله بك الجركسي جده لأبيه أما لقب البارودي فنسبة إلى بلدة ايتاي البارود إحدى بلاد مريرية البحيرة الذين كانا أجداده مراد البارودي ملتزماً لها وكان ملتزم في ذلك العهد بنسب إلى التزامه.
وكان أحد أجداد البارودي يرقون بنسبهم إلى حكام مصر المماليك وكان محمود سامي يعتز بهذا النسب في شعره وكل أعماله فكان له فيه أثر قوي في جميع أدوار حياته وفي المصير الذي انتهى إليه.
وقد حُرم البارودي العطف الأبوي منذ نعومة أظفاره فقد مات أبوه بدنقله وهو في السابعة من عمره فكفله بعض أهله وضموه إليهم وتلقى في بيتهم دراسة الأولى إلى الثانية عشرة ثم التحق بالمدرسة الحربية مع أمثاله من الجراكسة والترك أبناء الطبقة الحاكمة فقد كانت الجندية مظهر السيادة والعزة فكان لزاماً على أبناء هذه الطبقة أن يتعلمو فنونها لينهضوا بالمناصب الرئيسية في الدولة، وخرج البارودي من المدرسة الحربية مع أمثاله في أخريات سنة 1271هـ الموافق 1854م وهو في السادسة عشر ولسوء حظه وحسن حظ الأدب كانت ولاية مصر آلت إلى عباس الأول ثم إلى سعيد وكان عباس قد عدل عن الخطة التي بدأها محمد علي حين رأى الدولة العثمانية تنظر إلى جيش مصر بعين الريبة والقلق وبدأ يخيم على مصر جو من الركود وأطل عهد سعيد وخرج الباشا شاويش محمود سامي من المدرسة الحربية في هذا الجو الراكد تستجد في حناياه أسباب اليقظة والقلق ترى ما يصنع؟
لقد سُرح الجيش واقفرت ميادين القتال من ألوية مصر أما محمود سامي الذي لم يمضِ بعد غمار الحياة والذي يجري في عروقه الإمارة والمجد فقد أحس بأن ثورة الشباب تهزه هزاً عنيفاً تطلع إلى الماضي القريب وتذكر مسيرة الأعلام المصرية إلى بلاد العرب وسورية والأناضول فتمنى لو أنه ينعم بنعيم أولئك الغزاة ومشاركتهم في سرائهم وضرائهم، وتطلع إلى ما قبل هذا الماضي فارتسمت أمامه صورة أجداد والمماليك الذين كانوا يحكمون على ضفاف الوادي فحنّ إلى عهدهم وتمنى لوكان معهم. فكيف يتسنى لهذا الشاب عن هذا الألم ألا سبيل إلى ميادين يخلقها وحروب يخوض غمارها مع الخائفين. إن العرب أجداد الأولين والعربي جد لكل من تكلم بالعربية قد سجلوا في شعرهم وقائع الحروب فليرجع الشاب إلى ديوان الحماسة، اندفع الشاب يقرأ الشعر العربي فتختزن ذاكرته القوية كل ما طاب، وألقى البارودي في هذا الشعر روعة وجمالاً يأخذان باللب ويحركان اللسان إلى القول، وذلك الشعر لا يقف عند الحروب والميادين بل يتناول الحياة كلها جدها وهزلها حلوها ومرها ففيه النزل والوصف بالحكمة وكل ما يطمع الإنسان أن يجد فيه. وتحركت نفس الشاب لقول الشعر بعد أن توفر على مطالعته واستظهاره أليس هو البارودي سليل المماليك الطموح إلى المجد والفخر بماض مؤثل، هذه النزعة في شعر البارودي بدت منذ شبابه ومنذ بدأ فريضة يستقر لتحفظ الأجيال في سنى 1279هـ سافر إسماعيل باشا بعد أن تولى أريكة مصر يرفع إلى السلطان في الآستانة الشكر على ولايته والحق سامي البارودي بالحاشية التي صحبته أثناء مقامه بدار الخلافة، فتوسم فيه إسماعيل النجابة والطموح فعاد به إلى مصر من تلك السنة وعاد البارودي وقد بلغ الرابعة والعشرين من سنة، ورقى في رتبته وعين على قيادة فرقتين من الفرسان، ففتح فيه آفاقاً من الحياة أمامه ولم يلبث في منصبه إلا قليلاً حتى أوفد إلى فرنسا مع جماعة من الضباط حيث شهدوا مناورة الجيش الفرنسي السنوية، ومن فرنسا سافروا للندن فشهدوا من الأعمال العسكرية ما زادهم بها علماً وعادوا لمصر، فإذا الحظ يلقى البارودي فيرقى إلى رتبة قائم مقام في فرسان الحرس الخاص ولما شبت الثورة في جزيرة كريت على الدولة العثمانية أرسل اسماعيل مجاملة للسطان ببعث جند يعاون قوات السلطان على قمع تلك الثورة، وكان البارودي رئيس ياورحرب في ذلك الجند وما كان به سعده من يوم لقد شعر سامي بسيفه يهتز في قرابه وبيده مقبض هذا السيف ليضرب الثائرين، وأحسن سامي البلاء في ذلك الحرب فأنعم عليه السلطان بالوسام العثماني من الدرجة الرابعة من يومها أخذت الأنظار تطلع عليه بإعجاب واكبار، فلقد ترنم هذا الشاب بأنغام من الشعر لم يألفها أهل زمانه فما هو الجديد الذي استرعى الأسماع في شعره؟ الذي استرعى الأسماع هو نزوعه إلى تصوير الواقع كما هو في بساطة وسلامة قوة وفي شعره ظاهرة لم يفطن لها أحد فهو اعتمد في تصويره للواقع على حاسة النظر، فإذا قرأت قصيدته التي قالها في حرب كريت ترى فيها تصوير المرئيات واضحاً كل الوضوح وسوف نقرؤها في عيون قصائده، ولما كانت سنة 1294هـ أعلنت روسيا الحرب على تركيا وأرسل اسماعيل باشا جيشاً لمساعدة تركيا سافر البارودي مع الجيش واشترك في الحرب وكوفىء على موقفه البطولي بإنعام السلطان عليه برتبة أمير لواء وبنيشان الشرف من الدرجة الثالثة، وعاد البارودي من تلك الحرب وقد أدرك الأربعين من عمره وبلغ من الرتب العسكرية أسماها فعين مديراً للشرقية فمحافظاً للعاصمة، وبينما هو في هذا المنصب ترك إسماعيل حكم مصر بعد تدخل الدول الأجنبية وكان طبيعياً أن تثير هذه الحوادث عواطف الشعب المصري على التدخل الأجنبي وأن تلهب في النفوس شرارة القومية وتدفقها للتثبت بالشورى والحكم النيابي وزاد ارتقاء توفيق عرش مصر رجاء الشعب في بلوغ هذه المطالب، لكن توفيق لم يلبث حين آل إليه الأمر أن أعاد المراقبة الثنائية وأصدر قانون التصفية وعارض الحكم النيابي وأعاد السلطة المطلقة، وفعل هذا ضعفاً منه أمام التدخل الأجنبي لقد آذن هذا العمل من توفيق بإثارة مشكلة جديدة لم تكن بادية في عهد إسماعيل، تلك حركة المصريين في الجيش فقد كان الرؤساء عن الجيش من الجراكسة، ولم يكن يرقى من المصريين إلى الصفوف الأولى من المصريين، أحد، وكان رؤساء الجيش للمصريين والتدخل الأجنبي كان هو السبب في تحريكها وكانت الشكوى أولاً مقصورة على طلب العدل ورفع الظلم لذلك كان محمود سامي وهو جركسي محبوباً من المصريين وموضع رجاء العسكريين في رفع الحيف النازل بهم فلما ثار المصريون بناظر الحربية عمان رفقي واستقال أسند توفيق هذه الوزراة لسامي البارودي فوقف موقف الحيرة ليظل على ولائه لصاحب العرش أم على وفائه للشعب، ورأى رياض باشا رئيس الوزارة يومئذ إيثار البارودي للشعب فدس عليه جند توفيق فاضطره للاستقالة ودفعه إلى اعتزال السياسة والعيش بعيداً عن جو القلق والاضطراب، ورأى توفيق حركة الجيش تقوى وتكبر فنحى رياض من الوزارة وأسندها إلى شريف باشا فألف البارودي الوزارة وأسندها إلى شريف باشا ودعا البارودي بالعودة للحكم واستقال شريف باشا فألف البارودي الوزارة بعد أن أصبح زمام الأمر في مصر إلى الضباط الذين يعتبرون الشراكسة أجانب كغيرهم، فأراد البارودي أن يتلافى هذا والحركة ويصل بحسن رأيه لإقامة العدل والإصلاح؛ لكن الأمور ساءت على غير هواه، وفكر الضباط في خلع توفيق ونازعته نفسه إلى مكان المجد وتحركت فيه أسباب الامتداد بمكان أجداده المماليك الذين حكموا مصر، وحاول أن يتخلص الاعتزال في مزارعه بعد أن نصح الضباط المرابيين وصارحهم برأيه ولكن إندفاعه في حركة الضباط حال بينه وبين المخلص منهم فلم يكن له بد من أن يسير معهم ويربط حظه بحظهم، فلما اضطرمت نيران الثورة أرغمه زعماؤها على اصطلاء نارها فخب فيها ووضع وحكم عليه بعد انقضائها بالنفي إلى جزين سيلان حتى عمى ثم شفع فيه فأذن له بالقدوم لمصر بعد مضي سبعة عشر عاماً من منفاه وبقي في منزله ليشتغل بالأدب إلى أن مات سنة 1322هـ الموافق 1904م رحمه الله تعالى.
وما زال حقد الضباط المصريين سائداً يخلفه الآباء للأبناء منذ سبعين سنة حتى قام جمال عبد الناصر مع رفاقه أعضاء الثورة لخلع فاروق ملك مصر وإجباره على التنازل عن العرش على يد أكبر أعضاء الثورة سناً ورتبة اللواء نجيب ونصحه أن ينجو بنفسه وإلا فالويل له فاستكان للأمر الواقع وذهب مع أولاده لجزيرة ((بريوني)) في ايطاليا حتى وافاه الأجل المحتوم وكان طلب أن يدفن في مصر في مقبرة والده فؤاد فأجيب لطلبه فجيء بنعشه ودفن ليلاً ولم تجر له مراسم التأبين ولم يعلم به الشعب وبموته انقرضت سلالة محمد علي باشا التي لم تدم غير سنة، ولولا نبرة جمال بالإشتراكية لخلد في أبطال الرجال وذهب هو بدوره بعد أن أصلح ما بينه وبين الدول العربية وخلفه آخر عضو في الثورة الرئيس أنور السادات وقل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء. تنزع الملك ممن تشاء.
لقد أوردنا فذلكة من مقدمة الدكتور محمد حسين هيكل باشا الذي قدمها لديوان البارودي في طبعته الثانية معبراً ما يكنه من تقدير وإكبار للديوان المذكور ونبدأ بملخص مقدمة البارودي الذي افتتح به ديوانه فقال: اللهم إني أحمدك وأشكرك على جزيل ما سويت واحمدك على ما أسبغت من النعم وأعوذ بك من عثرات اللسان وغفلات الجنان وأشهد محمداً رسولك الأمين وعلى آله وأصحابه آمين وبعد:
فإن للشعر لمعة خيالية يتألق وميضها في سماء الفكر، فتبعث أشعتها إلى صحيفة القلب فيفيض بلألائها نوراً يتصل خيطه بأسلة اللسان، فيبعث بألوان من الحكمة وخير الكلام ما أئتلفت ألفاظه وانتقلت معانيه، وكان قريب المأخذ بعيد المرمى سليماً من وصمة التكلف فمن آتاه والله منه حظاً فقد ملك أعنة القلوب، ونال مودة النفوس ولو لم يكن من حسنات الشعر الحكيم إلا تهذيب النفوس وتنبيه الخواطر إلى مكارم الأخلاق لكفى وأنك لترى الأمم على اختلاف ألسنتهم وتعدد مشاربهم لهجين به عاكفين عليه، لا يخلو منه جيل دون جيل، ولقد سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه قول زهير: فإن الحق مقطعه ثلاث يمين أو نفار أو جلاء فجعل يعجب بمعرفته بمقاطع الحكمة، وللشعر رتبه لا يجهلها إلا من جفا طبعه ونبا عن قبول الحكمة سمعه، وقد كنت في ريعان الفتوة واندفاع القريحة ألهج به لهج الحمام بهديله، وآنس به أنس العديل بعديله لا تذرعاً إلى وجه أنتويه ولا تطلعا إلى غنم أحتويه، وإنما هي أغراض حركتني وإباء جمح بي فلم أتمالك أن أهبت فحركت جرسي وهتفت فسريت به عن نفسي كما قلت:
تكلمت كالماضين قبلي بما جرت
به عادة الإنسان أن يتكلما
وإنما الشعر لب المرء يعرضه
على المجالس إن كيساً وإن حمقا
وإن أشعر بيت أنت قائله
بيت يقال إذا أنشدته صدقا
فعزمت على الاقتصار تفادياً من خطأ ولا غرور فالإنسان مفتون بشعره وولوع ببنات فكره ولولا ذلك لما دوّن الناس أشعارهم ولا اتخذوا الأدب شعارهم، وبقاء الذكر حياة الأبد وبقاء الخلود، ولله در القائل.
على المرء أن يسعى
وليس عليه إدراك المرام
والله اسأل أن يلهمني الصواب ولا يحرمني الثواب، وإذا كان لنا أن نبدأ بذكر اقتباسات من قصائده وأشعاره فنذكر أولاً القصيدة التي قالها في حرب اليونان لمّا ذهب على مقدمة الجيش المصري لمساعدة السلطان لقمع حركة الطغيان وقد أوردنا أكثرها وهي طويلة مذكورة في ديوانه.
أخذ الكرى بمعاقد الأجفان
وهفا السرى بأعنة الفرسانِ
والليل مشوار الذوائب ضارب
فوق المتالع والربى بجرانِ
لا تستبين العين في ظلماته
إلا إلتماع أسنة المران
تسري به ما بين لجة فتنةٍ
تسمو غواربها على الطوفانِ
في كل مربأةٍ وكل ثنيةٍ
تهدار سامرة وعزف قيانِ
فتشنّ عادية ويصهل جرد
وتصيح أجراس ويهتف عان
قوم أبى الشيطان إلا خسرهم
فتسللوا من طاعة السلطان
ملأوا الفضاء فما يبين لناظر
غير إلتماع البيض والخرسان
فالبدر أكدر والسماء مريضة
والبحر أشكل والرماح دوان
والخيل واقفة على أرسانها
لطراد يوم كريهةٍ وطعانِ
وضعوا السلاح إلى الصباح واقبلوا
يتكلمون بألسن النيرانِ
حتى إذا ما الصبح أسفر وارتمت
عيناي بين ربى وبين مجان
فإذا الجبال أسنة وإذا الوهاد
أعنة والماء أحمر قانِ
فتوجست فرط الركاب ولم تكن
لتهاب فامتنعت على الأرسانِ
نزعت فرجعت الحنين وأنما
تحناتها شجن من الأشجانِ
ذكرت مواردها بمصر وأين من
ماء بمصر منازل الرومانِ
ومن قصيدة النسيب:
صلةُ الخيال على البعادِ لقاءُ
لو كان يملك عينيَ الأغفاءُ
يا هاجري من غير ذنب في الهوى
مهلاً فهجرك والمنون سواءُ
أغريت لحظك بالفؤاد فشفهُ
ومن العيون على النفوس بلاءُ
هي نظرة فامنن علي بأختها
فالخمر من ألم الخمارِ شفاءُ
رقت لي الورقاء في غدواتها
وبكت علي بدمعها الأنباءُ
فبقلب كل فتىً غرام كامنٌ
وبعطف كل مليحةٍ خيلاءُ
فدع التكهن يا طبيب فأنما
دائى الهوى ولكل نفس داءُ
ألم الصبابة لذة تحيا به
نفسي ودائي لو علمت دواءُ
وبمهجتي رشئية من دونها
أسد لها قصب الرماح أباءُ
جودى عليّ ولو بوعد كاذب
فالوعد فيه تعله ورجاءُ
زعموك شمساً لا تلوح بظلمةٍ
ولقولهم عندي يد بيضاء
لا ترهبي قول الوشاة فأنهم
قد أحسنوا في القول حين أساؤوا
فعلام تخشين الزيارة بعدما
(أمن ازديارك في الدجى الرقباء)
وقال في قصيدة:
سواي بتحنان الأغاريد يطرب
وغيري باللذات يلهو ويلعب
وما أنا من تأسر الخمر لبه
ويملك سمعيه اليراع المثقب
ولكن أخوهم إذا ما تأرجحت
به سورة نحو العلا راح يدأب
ومن تكن العلياء همة نفسه
فكل الذي يلقاه فيها محبب
إذا أنا لم أعط المكارم حقها
فلا عزّني خال ولا ضمي أبُ
خلقت عيوفا لا أرى لابن حرة
لدي يداً أغضي لها حين يغضب
وبحر من الهيجاء خضت عبابه
ولا عاصم الا الصفيح المشطب
توسطته والخيل بالخيل تلتقي
وبيض الظبا في الهام تبدو وتقربُ
فما زلت حتى بين الكر موقفي
لدى ساعة فيها العقول تغيبُ
كذلك دأبي في المراس وأنني
لأمرح في غيي التصابى وألعبُ
يوماً لفتى ما لا يكون طماعةً
ولم يدر أن الدهر بالناس قلب
ولكنها الأقدار تجري بحكمها
علينا وأمر الغيب سرٌ محجبُ
وقال وهو بسرنديب وقد سمع باكية تبكي:
وباكية شجت قلبي بلحنٍ
تهيج لها المسامع والقلوبُ
سألت فقيل قد فقدت حبيباً
وهل يبقى على الدنيا حبيبُ
بكيت لها ولم أفهم صداها
وقد يبكي من الطرب الغريب
وقال:
ليس ابن آدم ذا جهل بمصرعه
لكنه يتأسى الجدَّ باللعب
تراه يلهو ولا ينفك ذا حذرٍ
وراحة النفس لا تخلو من التعبِ
وقال من قصيدة في حرب الروس يذكر شوقه للوطن:
هنيئاً لريّا ما تضم الجوانح
وإن طوّحت بي في هواها الطوائح
فتاة لها في منصب الحسن سورة
نقصر عنها الغيد وهي رواجح
أحاط على مثل الكثيب إزارها
ودارت على مثل الفتاة الوشائح
ففي الغصن منها أن ثنت مشابهة
وفي البدر منها أن تجلت ملامحُ
كأن اهتزاز القرط في صفح جيدها
سنا كوكب في مطلع الفجر لائح
عجبت لعيني كيف تظمأ دونها
وأنسانها في لجة الماء سابح
أحن لها شوقاً ودون مزارها
مسالك يأويها الردى ومنادحُ
يكافحني شوقي إذا الليل جنني
واغدو على جمع العدى فأكافحُ
وقال في الفخر على رؤى المتنبي:
رضيت من الدنيا بما لا أوده
وأي امرىء يقوى على الدهر زنده
أحاول وصلاً والصدور خصيمة
وأبغي وفاءً والطبيعة ضدهُ
حسبت الهوى سهلاً ولم أدر أنه
أخو غدرات يتبع الهزل جده
ومن عجبٍ أن الفتى وهو عاقل
يطيع الهوى فيما ينافيه رشده
وما الحب إلا حاكم غير عادل
إذا رام أمراً لم يجد من يصده
فأي فؤاد لا تذوب حصاته
غراماً وطرف ليس يقذيه سهده
بلوت الهوى حتى اعترفت بكل ما
جهلت فلا يغررك فالصاب شهده
لعمرك قد ولى الشباب وجل بي
من الشيب قطب لا يطاق مردهُ
فأي نعيم في الزمان أروقه
وأي خليل للوفاءِ وأعدُّهُ
فإما حياة مثل ما تشتهي العلا
وإمّا ردى يشفى من الداء وفدهُ
وقال من قصيدة:
تغنى الحمام ونمَّ الشذى
ولاح الصباح فيا حبذا
وما زال يرضع طفل النبات
ثدي الغمامة حتى اغتدى
فقم نغتنم صفو أيامها
وندفع بالراح عنا الأذى
فما بعد عصر الصبا لذةٌ
ولا مثل صفو الحميا غذا
تذود عن القلب أحزانه
وتفضي عن العين شوب القذى
وتجلو الظلام بلألائها
كأن بأيدي السقاة الجذا
إذا ما احتساها كريم هدا
وإن عب فيها لئيم هذى
فدع ما تولى وخذ ما أتى
فلن يصلح العيش إلا كذا
وقال من قصيدة يصف أيام الربيع ويذكر مواسم اللهو في عصر الشباب:
رمت بخيوط النور كهربة الفجر
ونمت بأسرار الندى شقة الزهر
وسارت بأنفاس الخمائل نسمة
بليلة مهوى الذيل عاطرة النشر
فقم نغتنم صفو البكور فإنها
غداة ربيع زهرها باسم الثغر
ففي الجو هتان يسيل وفي الثرى
سيول ترامى بين أودية غُزرِ
كأن الندى فوق الشقيق مدامع
تجول نجداً أو جمان على تبرِ
وقد شاقني والصبح في خدر أمة
حنين حمامات تجاوبن في وكر
هتفن فأطربن القلوب كأنما
تعلمن ألحان الصبابة من شعري
لعمرك ما في الدهر أطيب لذة
من اللهو في ظل الشبيبة واليسر
وقال من قصيدة يرثى ولده:
بكيت علياً إذ مضى لسبيله
بعين تكاد الروح في دمعها تجري
وإني لأدري أن حزني لا يفي
برزئي ولكن لا سبيل إلى الصبر
وكيف أذود القلب عن حسراته
وأهون ما ألقاه يصدع في الصخر
يلومني أني تجاوزت في البكا
وهل لأمري لم يبك في الحزن من عذر
إذا المرء لم يفرح ويحزن لنعمة
وبؤس فلا يرجى لنفع ولا ضر
وما كنت لولا قسمة الله في الورى
لأصبر لكنَّا إلى غاية نسرِ
لقد خفف البلوى وإن هي أشرقت
على النفس ما أرجوه من موعد الحشرِ
وقال من قصيدة يقرظ ديوان حافظ بك إبراهيم:
هيهات ليس لحافظٍ من مشبهٍ
في القول غير سميه الشيرازي
جاراه في حسن البيان وفاقه
في المنطق العربي بلا حجاز
لبق بتصريف الكلام يسوقه
ما شاء بين سهولة وعزاز
فإذا تغزل فالنفوس نوازع
وإذا تحمس فالقلوب نوازي
كالصارم البتار في إفرنده
وصقاله والمارن الهزهاز
حاك القريض بلهجةٍ عربية
أغنت عن الإسهاب والإيجاز
قد كان جيد القول عطلاً قبله
فحباه وأحسن حليةٍ وطرازِ
ملكت مودته القلوب فأصبحت
تلقاه بالتوقير والأعزازِ
لا زال يبلغ شأو كل فضيلةٍ
بمضاء صمصامٍ وصولة بازِ
وقال من قصيدة يصف روضة المقياس بالروضة بمصر ويشتاق لها:
هل في الخلاعة والصبا من بأس
بين الخليج وروضة المقياس
أرض كساها النيل من إبداعه
ولباسه الموشّى أي لباسِ
فكأنما هوت المجرة بينها
فتشكلت في جملة الأغراسِ
يتلهب النوار في أطرافها
فتخاله قبساً من الأقباسِ
تصبو العيون إلى سناه فترتمي
مهوى الفراشة لا مع النبراس
لو شام بهجتها وحسن روائها
فيما أظن لحار عقلُ إياسِ
يا ساقيّ تنبها فلقد بدا
فلق الصباحِ ولات حين نعاسِ
طوفي عليّ بها فقد نم الصبّا
أثناء روحته بسر الآسِ
ما كل ما طلب الفتى هو مدرك
إن الأمور بحكمة وقياسِ
وقال في بيتين:
أملتُ رجائي في غد فانتظرته
فما جاء حتى طال حزني على أمسي
وقلبت أمري فيك حتى إذا انقضت
وسائل ما آتى بكيت على نفسي
وقال من قصيدة وهو بسرنديب:
متى ترد الهيم الخوامس منهلاً
تبلّ به الأكباد وهي عطاش
أرى الغيث عم الأرض من كل جانب
وموضع رحلي لم يصبه رشاش
فهل نهلة من جدول النيل ترتوي
بها كبدٌ ظمآنة وحشاش
وهل من مقيلٍ تحت أفنان سدرةٍ
لها من زرابّى النباتِ فراش
وقال من قصيدة في الحكمة:
بادر الفرصة واحذر فوتها
فبلوغ العز في نيل الفرص
واغتنم عمرك إبان الصبا
فهو أن زاد مع الشيب نقص
إنما الدنيا خيال عارض
قلّما يبقى وأخبار تقص
فابتدر مسعاك واعلم أن من
بادر الصيد مع الفجر قنص
لن ينال المرء بالعجز المنى
إنما الفوز لمن هَمّ قنص
ميز الأشياء تعرف قدرها
ليست الفرةُ من جنس البرص
إنما الجاهل في العين قذى
حيثما كان وفي الصدر غصض
واحذر النمام تأمن كيده
فهو كالبرغوث إن ربَّ قرص
هذه حكمة كهل خابرٍ
فاقتنصها فهي نعم المقتنصُ
وقال مفتخراُ:
لعمرك ما خفت حصاني
لنازلة ولا ارتعد الفريضُ
وما قصرتُ في طلب المعالي
ولكن ربما خاب الخريصُ
وقال من قصيدة في الغزل:
أين ليالينا بوادي الغضى
ذلك عهد ليته ما انقضى
كنت به من عيشتي راضياً
حتى إذا ولىّ عدمت الرضا
أيام لهو وصبا كلمات
ذكرتها ضاق عليّ الغضا
وقال من قصيدة بروض قوله للشعر:
ورب يوم طويل العمر قصَّرهُ
جريُ السوابق والوخادة النشطُ
كأنما الوحش من تلهاب جمرته
مبدداً تحت أشجار الغضى خبطُ
ترى القوم صرعى لا حراك لهم
كأنهم من عتيق الخمر قد سقطوا
وليلة ذاتِ تهتان وأنديةٍ
كأنما البرق فيها صارم سلط
لف الغمام أقاصيها ببردته
وانهل في حجرتها وابل سبطُ
مزقتُ جلبابها بالخيل طائعةً
مثل الحمائم في أجيادها الغلط
وقد تخلل خيط النور ظلمتها
كأنما تخلل شعر اللمةُ الوخطُ
كأنما القطر درٌ في جوانبه
يكاد من صرف الأزهار يلتقطُ
يوم من الدهر أهوى ما بذلت له
ما شاء في مثله لو كان يشترطُ
وقال من الحكمة:
تمهل ولا تعجل إذا رمت حاجة
فقد يلحق الخسران من يتورطُ
فذو الحزم يرعى القصد في كل حالة
وذو الجهل إما مفرِط ومفرِّطُ
وقال من قصيدة في الغزل:
سكرت بخمر حديثك الألفاظُ
وتكلمت بضميرك الألحاظُ
يا دمية لولا التقية لاستوت
في حبها الفتاك والوعاظُ
ما لي منحتك خلتي وجزيتني
نار لها بين الضلوع شواظ
هلا مننت إذا امتلكت فطالما
منَّ الكريم وقلبه مغتاظُ
فلقد هجرت إليك كل عشيرتي
فقلوبهم أبداً علىَّ غلاظُ
ونفيت عن عيني المنام فمالها
غير المدامع والسهاد لماظ
فصلي محباً ما أصاب خطيئة
في دين حبك والغرام حفاظِ
تأبى المضاجع لا تزور جفونه
سنة الكرى وأولو الهوى أيقاظُ
وقال من قصيدة:
متى أنت من أحموقة الغىّ نازع
وفي النفس للشيب الأبية وازعُ
ألا أن في تسع وتسعين حجة
لكل أخي لهو عن اللهو رادعُ
فحتام تصبيك الغواني بدلَّها
وتهفو بليتيك الحمام السواجع
أما لك في الماضين قبلك زاجر
يكفُّكَ عن هذا بلى أنت طامع
فلا تحسبن الدهر لعبة هازل
فما هو إلا صرفه والفجائع
يود الفتى أن يجمع الأرض
كلها إليه ولم يدر ما الله صالح
وقال من قصيدة في الغزل:
من لي بظبية خدر كلما وعدتْ
بزورة أعقبت للوعد أخلافاً
تحكى الغزالة ألحاظاً إذا نظرت
والورد خدّ وغصن البان عطافاً
تاهت بنقطةِ خال فوق وجنتها
زيدت بها عثرات الحسن أضعافاً
وقال أيضاً:
حياتي في الهوى تلف
وأمري فيه مختلف
أبيت الليل مكتئباً
وقلبي في الحشا يجف
فنومي كله سهرٌ
وعيشي كله أسفُ
وما أخفيه من وجدي
وحزني فوق ما أصف
فهل من صاحب يرثى
لما ألقى فينعطف
أيقتلني الهوى ظلُماً
وما في الناس لي خلفٌ
أليس العشق سلطاناً
له الألوان ترتجفُ
إذا كان الهوى خصمي
فقل لي كيف انتصفُ
وقال في الغزل أيضاً:
أي قلب على صدودك يبقى
أو لم يكف أنني ذبت شوقاً
لم تدع مني الصبابة إلاّ
شبحاً شفهُ السقام فدقا
ودموعاً أسالها الوجد حتى
غلبت أدمع الغمامة سبقا
فتصدق بنظرةٍ منك تشفى
داء قلبٍ من الغرام مُلقى
وقال في الغزل أيضاً:
غلب الوجد عليه فبكى
وتولى الصبر عنه فشكا
وتمنّى نظرة يشفي بها
علة الشوق فكانت مهلكا
يا لها من نظرة ما قاربت
مهبط الحكمة حتى انتهكا
نظرة ضم عليها هدبه
ثم أغراها فكانت شركا
غرست في القلب مني حبه
وسقته أدمعي حتى زكا
آه من بُرح الهوى أن له
بين جنبي من النار ذكا
كان أبقى الوجد مني رمقاً
فاحتوى البين على ما تركا
إن طرفي غرّ قلبي فمضى
في سبيل الشوق حتى هلكا
قد تولى إثر غزلان النقا
ليت شعري أيّ وادٍ سلكا
وإلى هنا أوردنا المختار من بعض قصائده وأشعاره ونختم هذه القصائد بالقصيدة التي قالها بعد وصوله لسيلان والمختارات التي أوردنا هي من الجزء الأول والثاني من ديوانه المطبوع إلى حرف الكاف فقط ولعل الجزء الثالث قد طبع ولم يكن عندي والقصيدة هي:
محا البين ما أبقت عيون المها مني
فشبت ولم أقض اللبانة من سني
عناءٌ وبأسٌ واشتياق وغربة
ألا شدَّ ما ألقاه في الدهر من غبنِ
فأن أك فارقت الديار فلي بها
فؤاد أصقلته عيونُ المهى عنيِّ
بعثت به يوم النوى إثر لحظةٍ
فأوقعه المقدار في شرك الحسنِ
فهل من فتى في الدهر يجمع بيننا
فليس كلانا عن أخيه بمستغنِ
ولما وقفنا للوداع وأسبلتْ
مدامعنا فوق الترائب كالمُزنِ
أهبت بصبري أن يعود فبزنى
وناديت حلمي أن يثوبَ فلم يضنِ
وما هي إلاَّ خطرةٌ ثم أقلعت
بنا عن شُطوطِ الحيّ أجنحة السُّفنِ
ولولا بُنيَّاتُ وشيبٌ عواطل
لما قرعتْ نفسي علي فائتٍ سنّي
يَرىَ بصري من لا أود لقاءهُ
وتسمع أذني ما تعاف من اللحن
تحملت خوض المنّ كل رزيّة
وحمل رزايا الدهر أحلى من المنِّ
لم أجد فيما قرأت من رثى البارودي بعد موته بمصر سنة 1322 وهكذا توفي البارودي مأسوفاً عليه بعد أن قضى السنين الطويلة في منفاه بسيلان حتى عمى فعفا عنه الخديوي عباس حلمي ورد إليه مزارعه وترك بعد وفاته أولاداً من زوجته الثانية التي تزوجها في سيلان رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه جنان الفردوس مع الشهداء والصالحين آمين.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :8780  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 112 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.