شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مجالس السَّمر
قال لي أحد تلامذتي (1) وقد أصبح كهلاً حينما كنت معاون مدير المدرسة الناصرية عام 1360هـ: لقد قرأت لك يا أستاذي بجريدة المدينة ومجلة المنهل مقالات شيقة بعنوان (ذكريات لا تنسى منذ نصف قرن) كان في بعضها عبرة وعظة وخاصة لدى أجلاء أهل المدينة إلى الشام إبان الحرب العالمية العظمى وما قاسوه من الجوع والمرض حتى رجوع الباقين منهم، وفي بعض تلك المقالات متعة وسلوى لما كان يجري في الأعياد. فهل تسمح لقراء المنهل أن تحدثنا عن مجالس السمر في الماضي وكيف كنتم تقضون لياليها قبل المذياع والمرناء والأندية الأدبية والمحاضرات الليلية؟ قلت: اسمع يا حبيبي، أنا حينما بلغت الثانية عشرة من عمري عام 1334هـ دق ناقوس الحرب العظمى فذهبت مع من ذهب إلى دمشق وأمضيت سنتين رجعت بعدهما للمدينة ودخلت المدرسة (الفيصلية) الابتدائية عام 1337هـ وكان قد دخل الحجاز في حكم الشريف الحسين بن علي رحمه الله وكان أمير المدينة ابنه الأكبر الأمير علي (ملك الحجاز فيما بعد) وكنت مراهقاً لم أتجاوز الخامسة عشرة وكان زميلي في الصف في الرحلة الأولى شاعر المدينة ومؤرخها الفذ السيد عبيد الله مدني أحياه الله الحياة الطيبة حتى نرى تاريخه القيم مطبوعاً منشوراً قبل أن يدركنا ريب المنون والأجل المحتوم، وكان السيد عبيد يودني ويدعوني لداره العامرة بسوق المدينة ويفتح لي مكتبة والده لأنتقي منها كتب القصص والتاريخ فكان يصحبني بعض الأحيان لمجلس أعمامه (2) رحمهم الله فأسلم عليهم سلام الطالب الزميل لابن أخيهم.
ولما انتظمت في سلك تلامذة المدرسة الراقية (3) رزقت بزميلي ـ بتشديد الياء وفتحها ـ: السيد عثمان حافظ، رئيس تحرير جريدة المدينة اليوم، والسيد أحمد العربي عضو مجلس الشورى فكنا نتلصص في بعض الليالي لمجالس السمر التي كانت تعقد في مجلس الشريف شحاذ قائم مقام المدينة يومئذ وفي مجلس أخيه الشريف ناصر بن علي بالكشك الكبير بمقعد بني حسين، ومجلس الشيخ يوسف خشيرم بحوش منصور، ومجلس الشيخ عمر كردي بدارهم بالمناخة (4) ؛ أما ما كان يجري من السمر في تلك المجالس، فقد كان تبادل الأحاديث وأخبار البلد وأسعار الحاجيات. وللشباب قرب تلك المجالس، مجالس خاصة عن كبارهم يلعبون الشطرنج أو الداما أو الورق أو الكنجفة، وبعض تلك المجالس كانت لا تخلو من آلات الطرب والغناء حيث كان مباحاً كما كنا نحن نشترك في مجالس الذكر والموالد التي كانت تقام ليلاً في بعض الشهور المباركة من ربيع الأول ورجب ورمضان وأشهر الحج. وفي عام 1342هـ سافرت للهند لطلب العلم مبتعثاً من قبل مربينا المرحوم السيد أحمد الفيض آبادي.
وبعد أن نلت الشهادة العالية من مدرسة مظاهر العلوم العالية رجعت للمدينة لأراها تحت الحكم السعودي وقد تبدل الحال إلى أحسن مما مضى، فعينت مدرساً بمدرسة العلوم الشرعية التي أسسها السيد أحمد المذكور عام 1341هـ باسم مدرسة العلوم الشرعية ـ تساءلت عن مجالس السمر التي مر ذكرها فعلمت أن أكثرها قد طوى بساطه ولم يبق منها غير مجلس السادة المدنية المار ذكرهم وفتحت مجالس أخر كمجلس آل الخريجي ومجلس الشيخ سعود دشيشة ومجلس الشيخ محمد دغستاني ومجلس الشيخ عبد الحفيظ كردي ومجلس الشيخ ذياب ناصر وفي هذه المجالس كان يجري فيها ما يجري في المجالس السابقة، إلا أن أندية الطرب والغناء أصبحت ممنوعة كما أن مجالس الإذكار والموالد منعت أيضاً لمخالفتها لمذهب السلف الصالح ولما كان فيها من البدع المنكرة، وقد كان يجتمع بعض الصحاب ليكونوا جماعة يسهرون في بيت كل واحد بالدور ويتبادلون الأحاديث وأهم لعبهم الورق (الجوكر) أو (السكسين) (5) أو قراءة بعض القصص.
* * *
وقمت أنا بدوري معهم أيضاً ردحاً من الزمان ثم فكرت في تأسيس نادي المحاضرات فأسسناه في الثانوية بالمدينة اليوم أنا وسامي حفظي معاون رئيس البلدية عافاه الله والشيخ عبد الله حجار عافاه الله والمرحوم السيد ماجد عشقي والزميل السيد عثمان حافظ، وأسس بالمقابل الأستاذ عبد القدوس الأنصاري منشىء مجلة المنهل نادي الحفل الأدبي للشباب السعودي العربي، ومن أعضائه الشيخ عبد المجيد خطاب والشيخ كامل خطاب، والمرحوم أحمد رضا حوحو والمرحوم السيد أحمد الخياري والسيد أسعد الحسيني وغيرهم، وأرجو أن يعلق على كلمتي هذه فهي صدى السنين الحاكي (6) .
* * *
أتخذ الناديان صبغة أدبية علمية تدرج منها إلى صبغة اجتماعية، وكان حاكم المدينة (أميرها) المرحوم عبد العزيز بن إبراهيم المشهور باليقظة والحزم فبلغه أنه يدعى إلى الناديين علية الزعماء وأعيان الحجاج، واتفق أن دعا نادي المحاضرات المرحوم (القوتلي) قبل أن يتولى رئاسة الجمهورية بسورية والحاج أمين الحسيني والمرحوم حسن البنا، كما كان الناديان يدعوان كبار القوم من أعيان البلد كالمرحوم الشيخ محمد سرور الصبان وكبار الأدباء كالمرحوم علي باكثير وكان الأستاذ الأنصاري حريصاً أن لا يقرب باب السياسة ولكنه أجبر عليه فقد بلغنا المرحوم الشيخ إسماعيل رئيس ديوان إمارة المدينة المنورة الأمير بلغه خبر تلك الاجتماعات فهون أمره عليه وأشار علينا بتوقيف النادي، كما أشار على الأستاذ عبد القدوس بذلك أيضاً على ما أظن. الخلاصة هذا ما كان يجري في ليالي السمر قبل ثلاثين سنة أو يزيد غير أنه كان إلى جانب ذلك مجلس العامة من عيون الشرفاء والصناع وأرباب الحرف.
* * *
في هذه المجالس كانت تجري مساجلات وفكاهات أدبية وأشعار غزلية لم اشترك فيها بالفعل بل سمعت ما كان يتلى فيها من الأشعار والنكات الحلوة.
هذا وسأثبت في ما يلي بعض تلك المساجلات والأشعار الرقيقة وهي كالدوبيت أو الشعر النبطي وكانت مشهورة (بالكسرات) وأول هذه الكسرة من الغزل الرقيق:
يا سيد زاد الحلا لونكْ
ويش السواد الِّلي في العينين
يوم اسمع الناس يطرونك (7)
سالت دموعي على الخدين
* * *
لا يا زهر ليم (8) جيتك ضيفْ
كب (9) الجفالا تجيب أعذار
جسمي نحل والعضام (10) وقيف
والقلب لولا ضلوعه طار
* * *
وقول الآخر:
بين (النصيري وأبو جيدان) (11)
غزال يمشي على هونو
ضرب قلبي برمش العين
يا رب تحميه وتصونو
وقائل هذه الكسرة اسمه موسى النخلي:
سمع هذه الكسرة المرحوم الشريف ماجد (12) فعلق عليها بكسرة يقول فيها (وكان إذ ذاك جالساً في بستان النصيري):
موسى تهيض من اللي شاف
ونا تهيضتْ من الكسره
ربك خلقنا من الأشراف
ما حط في قلبنا حسره
* * *
ومن المساجلات البديعة قول سليمان يخاطب المرحوم محمد القين (13) :
يا القين دور لنا رهوان
العربجي باع فيتونه
أبغي تمشي على البستان
وأشاهد الخوخ في غصونه
* * *
أجاب القين هازئاً بسليمان، وقامعاً له بكسرته اللاذعة فقال:
أخاف إن جيت يا سليمان
اللي بغيته يدسونه
يدخلونك مع البقران
والغرب فوقك يشدونه
* * *
وقال المرحوم الشريف ماجد يخاطب جار الله الحيدري المشهور بقول الكسرات ومحمد القين الأستاذ في الفن:
حلفتكم بالوليّ يا اثنين
وأيضاً أؤكد بجاه الله
المعرفة حزتها يا القين
وإلا أنت من تحت يا جار الله
* * *
وقد أجاب القين، الشريف ماجداً، هازئاً بزميله جار الله بقوله:
أنا أشوف كل فعلي زين
والمعرفة في عيون خلق الله
ورفيقي مبحلق العينين
يحكي على ما هداه الله
كني بمبحلق العينين انه حمار.
الليم أشكى على الليمون
قطف (النوامي) سقم حالي
العود مبري وأنا المسقوم
يا رب تشفق على حالي
أجاب الليمون يا خالي
تشكي من السقم يا خالي (14)
أنا المقطوف مني ألوف
وتراني صابر على حالي
* * *
وهذه آخر كسرة للمرحوم محمد القين:
يا أهل الهوى بعتكم قسمي
ونزلت سومه مع الدلال
مسحت من دفتره اسمي
ما بعد هذا المشيب خبال
* * *
رحم الله الشريف ماجداً، ومحمد وجار الله الحيدري وموسى وسليمان.
* * *
وبعد، فإني هنا أنهي مقالي عن مجالس السمر في الماضي مبدياً أسفي لموت الكسرات بموت قائليها ولكل زمان دولة ورجال.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1438  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 57 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الثالث - النثر - مع الحياة ومنها: 2005]

وحي الصحراء

[صفحة من الأدب العصري في الحجاز: 1983]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج