دمعة على الماضي |
احتجبتُ عن الكتابة مدة طويلة أصبت خلالها باضطرابات نفسية وتوتر في الأعصاب رغم مدافعتي ومطاردتي لها، وزاد الطين بلة أن قل طعامي وشرابي وكنت أرى الأحلام المزعجة والرؤى الخبيثة فيعتريني الخوف والقلق فأظن أن منيتي قد دنت فيحلو لي أن أجلس وحيداً أجتر أخطائي وأوهامي وأقلق حتى لسماع الموسيقى لأعذب الألحان وكرهت المطالعة والتحرير حتى الرسائل الإخوانية وكدتُ أفقد كل أمل في الحياة وتعجبني أشعار اليأس وشكوى الزمان كقول المتنبي: |
يا ساقيي أخمر في كؤوسكما |
أم في كؤوسكما هم وتسهيد |
أصخرة أنا ما لي لا تحركني |
هذي المدام ولا تلك الأغاريد |
إذا طلبت كميت اللون صافية |
وجدتها وحبيب القلب مفقود |
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه |
أني بما أنا شاك منه محسود |
|
أو قول أبي نواس: |
غير مأسوف على زمن |
ينقضي بالهم والحزَن |
إنما يرجو الحياة فتى |
بات في أمن من المحن |
|
أو قول البارودي: |
محا البين ما أبقت عيون المهامنّي |
فشبتُ ولم أقض اللبانة من سني |
عناء ويأس واشتياق وغربة |
ألا شد ما ألقاه في الدهر من غبن |
|
على أني أحوقل وأراجع وأستعيذ بالله من الوسواس الخناس. فأذكر قول ابن نباتة: |
يا مشتكي الهم دعه وانتظر فرجاً |
ودارِ وقتك من حين إلى حين |
ولا تعاند إذا أصبحتَ في كدر |
فإنما أنت من ماء ومن طين |
|
وقول الآخر: |
إذا اشتدت بك البلوى |
ففكر في ألم نشرح |
فبعد العسر تيسير |
إذا فكرته فافرح |
|
والبيت المشهور: |
وليست حياة المرء إلا أمانيا |
إذا هي ولت فالحياة على الأثر |
|
لم يزدني كل هذا إلا قلقاً واضطراباً، وأغرب ما في الأمر أني كتبت في العام الماضي مقالاً (القلق داء ودواء) نشر بالمنهل الأغر، فكان بعض الإخوان ينكر حالتي ويلومني لما وصلت إليه من الأوهام والتخيلات، وأذكر يوماً وأنا داخل للمسجد النبوي أن التقيت بصديقي عارف براده فسأل عن حالي وأكد لي أن ليس بي شيء، ومر علينا ساعتئذ مولاي السيد محمود أحمد فقال له الأخ عارف أنظر يا سيد للأستاذ ويعتقد أنه مريض وليس به أي علاقة للمرض، فقال: مريض وليس به أي علاقة للمرض، فقال السيد أطال الله عمره لا يعتبر كلام الأستاذ حتى يقرره الطبيب. جواب صحيح! لكنهما لم يعلما عن باطن حالي وبعضهم اتهمني بالجحود وبنعم الله علي، وفي الحقيقة لم ينقصني مال أو تعب العيال بعد أن كبروا وتعلموا ولم يبق غير الأصغر منهم ولم يكن بجانبي في محنتي هذه غير قرينتي وشريكة حياتي، حتى هي الأخرى كادت أن تزهق مني
(1)
ولم أجد من أبثّه شكواي إلا جار الجنب والصاحب بالجنب وهما فضيلة الشيخ عبد المجيد حسن، والشريف زيد بن شحاد؛ وكنت أعتقد أنه لو لا مداومتي على الصلاة وتلاوة القرآن لافتقدت شيئاً من عقلي، غير أن الله سبحانه حفظ عقلي من الخبال، وأخيراً عولت على السفر وتغيير الجو كنصح الأطباء وما إن تم اختبار ابني الأصغر (عبد السلام) حتى بادرت بقطع التذاكر للسفر إلى بيروت مع ابني ووالدته؛ وإني لأعجب من نفسي الآن إذ كنت أتوقع سقوط الطائرة أمام عيني وأستسلم لموت مفاجىء، وكان بجانبي في المقعد الثاني الأخ محمد سالم زميلي في التدريس في ما مضى من الزمان فسأل عن حالي فأجبته أن لدي توتراً في الأعصاب فشكا لي بمثل حالتي وأن سفره هو للعلاج وتغيير الهواء. |
وصلت بنا الطائرة (الكونفير) لمطار بيروت الدولي، وبعد الاجراءات الجمركية ركبنا سيارة أجرة وأشرت للسائق: (إلى عاليه) وبعد نصف ساعة كنا بالجبل بعاليه في فندق وندسور المطل على الوادي فأخذنا غرفة كبيرة بداخلها حمام على قدر مساحة الغرفة مفروش بالمرمر، وقطع الحمام ملونة باللون الوردي وأنا لم أر في المدن التي دخلتها حماماً مثله في الفنادق حتى في لندن وباريس. ويظهر أن الفندق كان قصراً لأحد الباشوات في ما مضى من الزمان، وفي اليوم الثاني أسرعت أم عزيز بطلب طبيب في عاليه، فحضر وادعى أنه أبو الطب كبقراط أو جالينوس، وبعد المعاينة والثرثرة الفارغة قال إني صحيح الجسم غير أن الكبد (كسلان) فوصف حقنا آخر ما وصل إليه علاج الأكباد، فطفقت أتعاطى الحقن أسبوعاً ولم أجد لها أثراً أبداً، وكانت (عاليه) بواديها المخضر وأزهارها اليانعة وهوائها الطلق أضيق في عيني من كفة الحابل، ومكثت أسبوعاً لا أخرج من الغرفة ويلذّ لي أن أجلس وحيداً كئيباً فاتفقت أم عزيز مع صاحب الفندق لاستقدام طبيب نفساني مشهور من بيروت، وحضر الطبيب النفساني وهو: (الدكتور علاء الدين الدروبي) ففحص جسمي وسألني عن أحوالي وما أعانيه من الاضطراب النفسي وما لحقني من الصدمات في ما مضى، فأجبته على قدر سؤالاته فقال إن العلاج علاجان علاج سريع ويحتاج للنوم بالمستشفى ما يقرب من شهر أعالج فيه بالكهرباء وعلاج بطيء لستة أشهر أعالج بالعقاقير، وقد اخترت العلاج البطيء فوصف لي دواء أستعمله دواماً ثلاث مرات قبل الطعام ودواء آخر استعملته عند النوم حبتين، واستدرك حضرته قائلاً إن أثر الدواء لا يظهر في بحر أسبوع أو أسبوعين. شرعت أستعمل الدواء الجديد ولا من أثر، فحضر ابني الأوسط (محمد رؤوف) الذي يدرس (هندسة عمارة) بالقاهرة، ولما حضر تجلدت أمامه قدر المستطاع وذهبنا معاً إلى بعض المصايف والأماكن المشهورة (كالأرز) ومغارة قاديشا وإهدن وبشري موطن جبران خليل جبران وطرابلس وسير ومغارة جعيتا ذهبت إلى هذه الأماكن رغم أنفي مسوقاً مع الأدلاء وكل تلك المناظر والهواء المنعش والأزهار الفواحة من الجبال والوهاد ما استعذبتها ولا استلطفتها وكنت كما قال المتنبي: |
ومن يكُ ذا فم مر مريض |
يجد مراً به الماء الزلالا |
|
* * * |
عولنا على السفر إلى دمشق فتوجهنا وهنا أبدأ بالدخول في صلب المقال، وما إن وصلنا لوادي بردى حتى رأيتني أنتعش وألهج بأبيات لأحمد شوقي: |
خلفت لبنان جنات النعيم وما |
نبئت أن طريق الخلد لبنان |
جرى وصفق يلقانا بها بردى |
كما تلقاك نحو الخلد رضوان |
والحور في دمر وحول هامتها |
حور تكشّف عن ساق وولدان |
وربوة الواد في الجلباب راقصة |
النحر كاسية والنحر عريان |
آمنت بالله واستثنيت جنته |
دمشق دار لها الفيحاء بستان
(2)
|
|
وذلك بعد أن امتدح لبنان بقصيدته: (يا جارة الوادي) من ضمنها قوله في زحلة: |
قسماً لو انتمت الجداول والربى |
لتهلل الفردوس ثم رعاك |
مرآك مرآه وعينك عينه |
لم يا زحيلة لا يكون أباك |
|
وما إن دخلت دمشق وقر قرارنا في شقة استأجرناها بالمزرعة بسفح جبل قاسيون حتى رأيت النشاط يدب في جسمي وشعرت بالجوع وطفقت أتلذذ بالمأكل والمشرب ولا أدري هل كان ذلك من تأثير الدواء أم من جو دمشق الجميل!.. |
* * * |
على أن لي بدمشق ذكريات قديمة مرة ودفينة في النفس وبعضها حلو لذيذ تعاودني الذكرى كلما جئت دمشق وفي هذه المرة كان تأثري شديداً فرأيتني أرجع إلى ما وراء التاريخ خمسين عاماً 1335هـ كيف همتُ على وجهي وحيداً لألتقي بأهل والدتي
(3)
بدمشق حينما كان فخري باشا حاكم المدينة العسكري يجلي سكان المدينة، وكم كان فرحي للقاء جدتي وأخوالي وكان دليلي ابن الخالة عبد الحميد عنبر الذي غمرني بعطفه وكنا نزلاء في دار فخمة لأحد كبار الأكراد أجلته الحكومة التركية؛ ولم نمكث غير شهور عدة حتى نقلنا إلى دار متواضعة بجوار ضريح (محيي الدين بن العربي) وكانت الحكومة قد رتبت لنا خبزاً وراتباً قدره ليرتان تركيتان، وقد دهمنا الشتاء ببرده وزمهريره ولم يكن لدينا من الملابس والفرش ما نقاومه به، وبعد شهور ظهر وباء حمى التيفوس والكوليرا في المهاجرين من المدينة وخاصة الفقراء منهم وسقط منهم خلق كثير دفنوا (بجبل قاسيون) ومدافن (الميدان) (والعقيبة والعمارة) منهم عشرات من ذوينا وأقاربنا فمات من انتهى أجله وبقي من لم ينته أجله، وفي أواخر عام 1336 أتتنا أخبار الزحف البريطاني لفلسطين وانهزام الأتراك مع حلفائهم الألمان وكنا نسمع بأن فرقة عربية بقيادة (الأمير فيصل بن الحسين) آتية مع الجيش الزاحف، وبين عشية وضحاها سقطت فلسطين ودخل الجيش البريطاني بقيادة الجنرال (اللنبي) لدمشق ومعه شرذمة من الجيش العربي وكان يوماً مشؤوماً على العرب بضياع فلسطين وسورية باستيلاء الإنكليز على فلسطين واستيلاء فرنسا على سورية، ثم شعرنا بتأليف دولة عربية تألفت في دمشق برئاسة الملك (فيصل بن الحسين) ولم تمض مدة طويلة على تلك الحكومة الفتية حتى جاءها الإنذار من فرنسا بحل الحكومة وتسريح الجيش ومغادرة الملك البلاد، غير أن وزير الدفاع أصر على الدفاع عن دمشق مع من لبى نداءه من الجيش والأهلين وخرج بتلك الشرذمة القليلة للقاء العدو في طريق بيروت، وكان الجيش الفرنسي يتألف من فرق السنغال والجزائر بقيادة الجنرال غورو فتمزقت الشرذمة وفر أكثرهم وبقي العظمة يقاتل مع من بقي معه حتى سقط عن فرسه صريعاً ومات شهيداً ودفن في (ميسلون) وبذلك سجل بعزيمته الصادقة أن من واجب المسلم أن يجاهد في سبيل الله ثم وطنه حتى الرمق الأخير. |
مرت هذه الحوادث في مخيلتي كشريط سينمائي أفقت بعدها لأراني بعد خمسين سنة عالقة بذهني هذه الذكريات المؤلمة. وفي يوم من أيام إقامتي ذهبت إلى حي الصالحية ماراً على الدور التي أقمنا بها متمثلاً بقول قيس: |
أمر على الديار ديار ليلي |
أقبّل ذا الجدار وذا الجدارا |
وما حب الديار شغفن قلبي |
ولكن حب من سكن الديارا |
|
وبدأتُ بعد ذلك للصعود على جبل قاسيون لزيارة الموتى من أقاربي ومنهم جدّي لأمي عبد القادر عنبر خان، ولما وصلت لمقابرهم تمثل لي أن كلاًّ منهم ينشدني: |
أيها الزائر ليا |
قف على قبري مليا |
واقرأ السبع المثاني |
رحمة منك اليا |
في حياتي كنت مثلك |
أقرأ القرآن حيا |
عن قريب تبقى مثلي |
ليس بعد الله شيا |
|
قرأت ما تيسر من سورة يس والفاتحة والمعوذتين والصمدية على أرواحهم ومن يليهم من الشهداء وأرقت دموعاً ساخنة للعظة والذكرى. |
|