جولة في شمال إفريقية |
(1) |
مقدمة: |
بعد اصطيافنا بسورية ولبنان كنت متفقاً مع صديقي الشريف زيد بن شحاد
(1)
أن نسافر لإيران ولما جاءت الأخبار بحدوث الكوليرا هناك عدلنا عن فكرة السفر إليها وقررنا أن تسافر لشمال افريقية ومنها إلى الأندلس (الخلد المفقود) حيث كنا في شوق لنراها. وسبقني الشريف إلى القاهرة ولحقته بدوري ومكثنا بها ما يقرب من شهر جددنا عهود الإنس بأمسيات لياليها الجميلة وأخذت أحسن لصديقي السفر براً إلى ليبيا ومنها إلى تونس فالجزائر فالمغرب ومنها نقفز إلى الأندلس عن مضيق جبل طارق.. تجهم رفيقي من طول هذه الرحلة التي يبلغ طولها ما ينوف عن خمسة آلاف كيلومتر فهونت عليه الأمر بتجزئة السفرة إلى مراحل حيث نقيم في كل دولة من هذه الدول الأربع أسبوعاً أسبوعاً. والسفر بالطائرة وإن كان أسرع وأيسر، غير أن السفر براً أروع وأمتع، للاطلاع على كل شبر من الأرض وما يحويه الطريق من قرى ودساكر ومزارع وفلوات وجبال وآثار وأنهار ومدن وبساتين. |
بدء الرحلة: |
وفي منتصف جمادي الثانية استأجرنا سيارة أجرة إلى بنغازي بخمسة جنيهات لكل واحد منا وكانت السيارة من نوع (أنيسة) ماركة (تاونس) وتحمل ثمانية ركاب أخص منهم بالذكر (سي البشير) وخادمته مبروكة ووليده (آلة عود) ولهذا العود قصة مثيرة للإعجاب فإن (سي البشير) ظل معانقاً لعوده طوال الطريق إلى درنة، ولما خلا مقعد أحد الركاب استأجر مكانه لعوده هذا حتى طرابلس الغرب بخمس جنيهات. |
تحركنا من القاهرة نؤم الإسكندرية في الساعة التاسعة صباحاً فوصلنا الإسكندرية بعد ساعتين وجلسنا فيها لبعض العصر واستأنفنا السير منها إلى العلمين ميدان المعارك الدامية في الحرب العالمية الثانية، ما بين المحور ودول الحلفاء الأربع وكاد (روميل) قائد قواد المحور أن يستولي على الإسكندرية لولا أساطيل الحلفاء وطائراتهم. رأينا في طريق العلمين الأنصاب التذكارية التي أقامها كلا الطرفين ووجدنا بعض السياح يتجولون هناك.. وبعد الغروب وصلنا (مرسى مطروح) فتعشينا فيها ثم واصلنا السير إلى السلوم وجلسنا بها وهي بلدة على شاطىء البحر، فندق متواضع ودائرة الجمرك والشرطة وبعض المنازل، وفي الصباح جرت معاملة الجمرك وتسجيل النقود والسمة بالخروج من إقليم مصر. |
في ليبيا |
وبعد أن قطعنا المنطقة الحرام وصلنا (أم ساعد) أول مركز لمملكة ليبيا، وبعد التفتيش المتبع ووضع السمات على الجوازات استأنفنا السير إلى (طبرق) والطريق صحراوي. وقرب طبرق رأينا بعض الأشجار والأبنية وأنابيب الماء الآتية من (درنة) وعلى مقربة من طبرق رأينا (قصر السلام) الذي يقيم فيه الملك إدريس السنوسي وأنابيب الماء تمتد من درنة حتى أكثر من مائتي كيلومتر؛ وفي طبرق توجد آبار البترول ووجدنا بعض الجنود في سيارات عسكرية في طريقنا وقرأنا في الصحف أن ميناءها سيوسع لترسو عليه ثلاث ناقلات بترول، وكنا نود البقاء في طبرق بعض الساعات لكن سائقنا (حسين) واصل السير منها إلى بلدة (درنة) فوصلناها بعد الغروب. |
بلدة درنة: |
وبلدة درنة حديثة المباني متسعة الشوارع زاخرة بأنواع البضائع وبها عدد من الفنادق والمطاعم ودور السينما ومدارس متعددة وبمقربة منها يقع شلال أبي منصور الخلاب وماؤه عذب وسلسال وتطل عليها من الشرق (عقبة الفتائح) التي تصعد إلى الجبل فتبدو البلدة للناظر كأنها غادة تعانق البحر في شوق ويزداد منظرها بهاء في الليل. |
تعشينا بأحد مطاعمها. وكانت أول أكلة (مفلفلة) لم يستسغها رفيقي العزيز. وبلدة درنة ما أشبهها بمدن سورية ببساتينها ومياهها وأزهارها الخلابة. |
وبعد العشاء تحركت سيارتنا قاصدة بنا (بن غازي) فمررنا بالجبل الأخضر وبعض القرى والمزارع وأخذنا النعاس لطول الطريق. |
في بنغازي |
وبعد نصف الليل وصلنا بنغازي عاصمة برقة بسلام فنزلنا في فندق متواضع ونمنا حتى الصباح، وبعد إفطار خفيف تجولنا في البلدة وهي مدينة حديثة يبلغ عدد سكانها مائة ألف وقد دمرت الغارات الجوية أفخر عمارات المدينة القديمة أثناء الحرب العالمية الثانية ولا تزال بعض أسوارها القديمة باقية؛ وشوارع المدينة فسيحة تتخللها الميادين والحدائق وبها فنادق ومطاعم وملاهٍ وملاعب ومدارس وجامعة علمية وحديقة حيوانات. |
وفي تجوالنا مررنا على ضريح المجاهد العظيم عمر المختار الذي أعدم شنقاً سنة 1931 من قبل الجنرال (غراسياني) قائد قوة إيطاليا في ليبيا يومئذ، وكان لإعدامه رنة حزن وأسى عميقة في قلوب العرب والمسلمين أجمعين.. أذكر أبياتاً لأحمد شوقي في رثائه: |
ركزوا رفاتك في الرمال لواءً |
يستصرخ الوادي صباح مساءَ |
يا ويحهم نصبوا مناراً من دم |
يوحي إلى جيل الغد البغضاء |
في ذمة الله الكريم وبره |
جسد ببرقة وسد الصحراء |
جرح يصيح على المدى وضحية |
تتلمس الحرية الحمراء |
لم تُبق منه رحى الوقائع أعظما |
تبلى ولم تُبق الرماح دماء |
كرفات نسر، أو بقية ضيغم |
باتا وراء الساقيات هباء |
|
وهكذا دار الزمن دورته فطاح موسوليني وغراسياني وانتصر الليبيون وفازوا بالاستقلال. |
صلينا بجامع بنغازي الكبير صلاة الظهر واستأجرنا مقعدين في (البولمان)
(2)
إلى طرابلس وتحركنا في الساعة الثالثة بعد الظهر، وكنا ما يقرب من سبعين شخصاً ما بين رجل وامرأة. وكان مرورنا على قرى ودساكر وكان السائق يقف كل ساعتين تقريباً على مقهى. وبعد مسيرنا مائتي كيلومتر حصل خلل في محرك السيارة ولم يهتد السائق لعلتها فطلب فرع الشركة سيارة أخرى من اجدابية وكانت على بعد ثمانين كيلومتراً منا، فجاءنا (بولمان) آخر ركبنا فيه جميعاً، وكنا نظن السفر فيه أكثر راحة من السيارة (البوكس) فكان أتعب منه. |
في اجدابية: |
وصلنا (اجدابية) بعد ساعتين فنزلنا في مطعم وتناولنا عشاءً خفيفاً وكان صاحب المطعم قد حج في العام المنصرم فأبى كرمه أن يأخذ منا قيمة ما أكلناه فشكرناه. |
في طرابلس الغرب |
ووالينا مسيرنا طول الليل فوصلنا صباحاً إلى طرابلس الغرب عاصمة ليبيا: ونزلنا في أحد فنادقها الكبيرة ونمنا بعد الظهر بعد أن تغدينا في مطعم الفندق. وفي تجوالنا بالبلد رأينا سائق سيارتنا من القاهرة (حسين المخزومي) فدعانا للغداء في اليوم الثاني فاعتذرنا له فأقسم بالله أن نلبي دعوته فقبلناها وتوالت الدعوات طيلة إقامتنا بطرابلس. |
وهنا يجدر بنا أن نذكر لمحة من تاريخ ليبيا السياسي: |
كانت ليبيا حتى عام 1911 ولاية من ولايات السلطنة العثمانية وكانت إيطاليا تترقب استعمارها فشنت عليها الحرب واستولت على المدن الساحلية (طرابلس ـ وبنغازي ودرنة) معتمدة على أسطولها الضخم، وبعد سنة تخاذلت تركيا أمامها بحكم بعدها وإنهماكها في حرب روسيا والثورات الداخلية، فتنازلت لها على شرط منحها الاستقلال الذاتي، فكان هذا الشرط حبراً على ورق بعد انسحاب الجيش التركي، ولكن الليبيين صمدوا في وجه العدو الغاصب وقاتلوا بضراوة وبسالة ولم يستطع المستعمر التوغل داخل البلاد وظل محاصراً في المدن الساحلية المذكورة إلى عام 1922. ولما استولى موسوليني على مقاليد الحكم في إيطاليا بعث جيشاً جراراً بقيادة (الجنرال غراسياني) المشهور بقسوته لإبادة المناضلين من الليبيين وقادة المجاهدين فأحرق القرى التي يعتصم فيها المجاهدون وكون مجلساً عرفياً لمحاكمتهم صورياً والحكم عليهم بالإعدام ثم غدر بحكومة (برقة) التي يرأسها السيد إدريس السنوسي (ملك ليبيا اليوم) فلم يجد الأمير إدريس غير الالتجاء لأرض الكنانة ومنها واصل قيادة المجاهدين حتى سقوط البطل المجاهد المختار فتشتت رفاقه وتوقف القتال. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية واندحار إيطاليا وبعد المعركة السياسية التي خاضها الليبيون الأحرار وفي مقدمتهم الأمير إدريس السنوسي قررت هيئة الأمم المتحدة سنة 1949 اعتبار ليبيا دولة مستقلة، وفي سنة 1952 قررت الجمعية لوطنية الليبية مبايعة الأمير إدريس ملكاً دستورياً على ليبيا بمقاطعاتها الثلاث (طرابلس وبرقة وفزان). |
مشاهداتنا في طرابلس |
بعد هذه الفذلكة التاريخية نعود لما رأيناه وشاهدناه في طرابلس. ففي اليوم الثاني قصدنا دار سفارتنا فيها فتشرفنا بزيارة سفيرنا الكريم: سعادة الأستاذ (عبد المحسن الزيد) وموظفي السفارة وجلهم من المدينة في مقدمتهم الشريف غالب بن محسن الشدقمي والسيد فؤاد حافظ والسيد عبد العزيز أوليا فأقام لنا السفير حفلة عشاء فاخرة كما أقام لنا مثلها الشريف غالب والسيد فؤاد حافظ وأقام لنا السيد عبد المنعم الإدريسي حفلة غداء فاخرة في أحد بساتين ليبيا الشهيرة وأقام لنا الحاج عبد الله الطرابلسي حفلة عشاء وفي كل هذه المآدب يتجلى الكرم العربي والصداقة الأخوية التي تربطنا بإخواننا السعوديين والليبيين من وراء البحار؛ وفي الوقت نفسه طاف بنا الشريف غالب في داخل البلد فأطلعنا على شوارعها ومبانيها وبساتينها وأنديتها وفنادقها. |
* * * |
وطرابلس بلد جميل على ساحل البحر الأبيض المتوسط، سكانه يربون على مائتي ألف وشوارعها تصف بها الأشجار من كل جانب وتطل على الخليج الساحلي المباني الحكومية والفنادق الكبيرة والمقاهي النظيفة. رأينا (قصر الخلد) والقصر الملكي. |
|