شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أيام من عمري
جولة في أوروبا
(5)
في لندن
مكثنا أنا والابن محمد أسبوعاً بلندن وذلك في شهر أغسطس قلب الحر وكان الجو طوال الأسبوع غائماً ومطيراً، غير أن الأعمال كانت تسير سيراً كالمعتاد. رغم هطول الأمطار ساعات من النهار خرجنا في ثلاث رحلات لمشاهدة معالم المدينة العظيمة التي تضم مع ضواحيها عشرة ملايين من البشر وذكرنا شيئاً مما شاهدناه في المتحف البريطاني ومكتبته الضخمة.. ومتحف الشمع الذي يشتمل على تماثيل أشهر الوزراء وملوك بريطانيا وملوك ورؤساء الكومنولث فترى كل شخص على هيئته الطبعية ولباسه ولونه ولو نفخ الله فيه الروح لتكلم ومشى. وفي قبو المتحف تماثيل المجرمين في الزمن الغابر وما كان يجري من تعذيبهم والتنكيل بهم، فهذا تقطع أوصاله وهو معلق كالخروف وذاك تسمل عيناه وذا تقطع رقبته بالمقصلة إلى غير ذلك من المناظر المؤذية والمخيفة، كما دخلنا قبة الأفلاك وهي لا تقل روعة عن قبة الفلك في ميونيخ فرأينا كيف يتكور الليل على النهار والنهار على الليل وحالة الفصول الأربعة وسير الشمس والقمر وحركة الكواكب والفلاح بصورة مبسطة يفهمها كل إنسان. وفي رحلة نهرية في التايمز مررنا على أشهر العمارات والوزارات في وستمنستر والبرلمان البريطاني والكاتدرائية بأبراجها الشاهقة وساعة ((بيج بن)).. عمارات كبيرة وقصور ضخمة وأبراج عالية ومسلات معقدة وبوابات أثرية وحدائق فواحة ومعامل كبيرة، كل ذلك يطبع في نفسك ما للشعب الإنكليزي من قوة ومنعة وصلابة رغم انفكاك المستعمرات عنهم وارتباطها بالكومنولث. والإنكليز في بلادهم متمسكون بالنظام بدون رقيب فترى في محطات الأتوبيس طوابير من الناس واقفة في انتظار الخطوط، وعندما يصل الأتوبيس يبدأ الركاب في التحرك والدخول بدون جلبة وكل من يأتي يقف في آخر الطابور وإذا جاء الأتوبيس مليئاً فإن الكمساري يعلن ذلك في كلمة واحدة (فل). وهكذا في جميع الدوائر الرسمية ومحال البنوك والثقة متبادلة بين عامة الشعب فلا تجد من يزوغ من دفع أجرة تذكرة الركوب أو قيمة الجريدة التي على الشارع بدون بائع وترى زجاجات اللبن المليئة والفارغة أمام البيوتات لا يأخذها إلا أصحابها ولا تجد من يغالطك في الحساب اللَّهم إلا الحلوان (البقشيش) فهو ضربة لازب لا مفر منه. ولقد ركبنا مرة سيارة أجرة ونسيت نفح السائق بشيء خلاف الأجرة فوقف مطالباً كأن ذلك من تمام الأجرة..
قصدنا في صباح أحد أيام الأسبوع إلى قصر بكنجهام لمشاهدة موسيقى الفرسان التي تصدح أمام القصر الملكي فرأينا أفواجاً من السياح والنظارة حتى قدمت الجوقة الموسيقية وهي عبارة عن كوكبة من الفرسان يتجمعون في ساحة القصر أمام الشرفة الملكية وتصدح موسيقى القرب التقليدية، وقد تظهر الملكة في المناسبات لتحيي الجمهور. ولقد تعجب من تأميم الطب في بريطانيا وقد عجزت عن تأميمه الدول الاشتراكية، ففي كل حي ومحلة يوجد طبيب يتردد على الأسرة وكل أجنبي يأتي إلى أية حارة يجب أن يسجل اسمه لدى طبيب الحي حتى إذا احتاج إلى علاج أصبح له الحق في الذهاب لعيادته أو استدعائه مجاناً. ولقد احتجنا إلى علاج بسيط (مرهم) فلم تبعه لنا الصيدلية ولم تقبل إلا صرفه بأمر الطبيب وفي هذا أكبر خدمة إنسانية تقدمها الحكومة للشعب.
وهناك بعض الأشياء يلاحظها السائح في لندن كغلاء الخضر كالخيار والباذنجان والفلفل الرومي والفاكهة فيباع الخيار مثلاً بالبوصة والسنتمتر ملفوفاً في ورق السلوفان. وتراه معروضاً في أبرز مكان مكتوباً عرضه وطوله بالبوصة وقيمته بالشلن.
وأوقات البيع محدودة في أكثر العواصم ومنها لندن، فترى الدكاكين والمعارض مكتوباً على مواجهتها مواعيد الفتح والإغلاق وفي باقي الأوقات وخاصة بالليل تجدها مغلقة بأبواب الزجاج ومضاءة من الداخل معروضاً بداخلها المبيعات حتى إذا رغب أحد في شراء بعض المعروضات أتى في وقته المحدد للبيع..
ومما يلفت نظر السائح في لندن وجود (قطار تحت الأرض ـ اندرجروند) وهذا النفق طوله ثلاثون كيلومتراً عدا تفرعاته التي تتجاوز مئات الفروع مع مئات المحطات وهو ذو أربع طبقات تحت الأرض وقد يكون طبق خامس لم نشاهده بعد وفي كل محلة أو ضاحية توجد محطة لهذا القطار وينزل إليه بوساطة مصاعد على شكل غرفة أو معارج كعربية أو درج عادي لا يقل ارتفاع كل دور عن خمسة أمتار، وحينما ننزل إلى المحطة نرى خرائط ملونة مثبتة في جدار المحطة، تبين لك اتجاه القطر الغادية والرائحة بحيث لو عملت بإرشاد هذه الخرائط وصلت إلى المكان المطلوب. وهناك نفق تحت نهر التايمس وشارع كبير يصل ما بين الضفتين وقد قيل لنا إن عمر هذا النفق يزيد على مائة سنة وعمل فيه كثير من سكان المستعمرات من الهند والزنوج أكثر من مائة ألف ومات في العمل عشرات الألوف ومثل هذا القطار موجود في ألمانيا وفرنسا أيضاً ولكن دون قطار لندن فيما أظن ولولا هذا القطار الذي تحت الأرض لشلت حركة العمل والسير في لندن المكتظة بالسكان، وهاهم اليوم مصممون على إيجاد نفق تحت المانش يصل فرنسا ببريطانيا والمشروع رهن التنفيذ.. وبينما نحن في لندن إذ سمعنا بنهب مليوني جنيه أسترليني من قطار البريد حيث تصدى له جماعة من الفدائيين وأوقفوا القطار ونقلوا المبلغ إلى سيارتهم وفروا بها رغم وجود أكبر دائرة مباحث (اسكوتلنديارد) في لندن فحمدنا الله على سلامة بلادنا من النهب والسلب المكشوف وإن كنا ما زلنا دونهم في أكثر مرافق الحياة، وبعد أيام سمعنا بالقبض على بعض المشتبه فيهم وأوقفوا رهن التحقيق.
إلى باريس
وبعد قضاء الأسبوع عزمنا على السفر إلى باريس بطريق (نيوهافن) فركبنا القطار السريع من محطة فكتوريا إلى نيوهافن ومنها في باخرة صغيرة إلى ((كاليه)) وكان بحر المانش في هذه المرة هادئاً فنعمنا برحلة بحرية ممتعة حتى ميناء كاليه ومنها ركبنا القطار إلى باريس عاصمة فرنسا ومحط أنظار السائحين..
نزلنا في باريس في أحد الفنادق القريبة من محطة السكة الحديدية غرفة ذات سريرين مع إفطار خفيف بأربعين فرنكاً، وبعد أن استرحنا قليلاً خرجنا نطوف حوالى الفندق نتعرف إلى الشوارع المحيطة بنا ثم دلفنا إلى مطعم قريب تناولنا عشاءنا فيه وخرجنا إلى أحد الكازيونات (مقهى) لنشرب عصيراً من البرتقال أو الليمون بدلاً من الماء، وطفقنا نتفرج على المارة حتى داعب النعاس جفوننا فرجعنا لننام حتى الصباح.
وفي الصباح قصدنا أول ما قصدنا متحف (اللوفر) الشهير وهو بناء ضخم تتوسطه ساحة كبيرة كان في ما مضى من القصور الملكية العظيمة ثم أصبح متحفاً يضم بين أبهائه أشهر التحف وأبدع الرسوم وأثمن الجواهر وأفخم الموبيليات وفيه من التحف النادرة من آثار الكلدان والفينيقيين والآشوريين والفراعنة الشيء الكثير هذا عدا ما نهبوه من مستعمراتهم السابقة من بدائع الآثار. وأبدع ما في المتحف تلك الرسوم الزيتية الكبيرة من أشهر الرسامين. دخلنا أكثر قاعات المتحف نمر على المعرض مرور الكرام بدون تبصر أو قيد حتى كلت منا الأقدام وكثيراً ما كنت أجلس لأستريح، حالما الابن محمد يمشي بلا توان.. إننا: شاب في العقد الثاني من العمر وشيخ بلغ الستين وهل يدرك الضالع شأو الضليع. حتى إذا رجع ليأخذني أقول له: لقد درنا دورة الثور في الساقية فيضحك ويقول: باق شيء كثير، قلت له: لنرجع يوماً آخر فنتمم الدورة إن شاء الله..
وفي المساء خرجنا إلى رحلة ليلية لنرى معالم باريس وهي مضاءة بأنوار قوية والدليل يرشدنا لمشاهدة تلك المعالم ويبدي بعضاً من ترجمتها بإيجاز.. فهذا قوس النصر وهذا ميدان الكونكورد وميدان الشانزلزيه وتمثال جان دارك والمسلة المصرية وغابة بولونيا وقصور ملوك فرنسا وبرج أيفل وتلك النافورات الجذابة يتدفق الماء من تماثيلها البديعة كاللجين حالما أنوار الكهرباء القوية تضفي على تلك الأماكن آيات البهاء والجمال، وأخيراً أتوا بنا إلى مسرح كبير لنمضي ليلتنا بمشاهدة أشهر فناني فرنسا وغانياتها المستهترات فرأينا فصولاً مختلفة: ألعاب بهلوانية، حوار مضحك، رقص عار لا يستسيغه كل ذي طبع سليم، كذلك سمعنا من أنواع الغناء من أشهر المغنيات ولكن بدون فهم نصفق معهم كما يصفقون ونهتف كما يهتفون، وكان الخدم يباشرون الحاضرين بالخمور المعتقة، وطلبنا من الندل (الجرسون) عصيراً للفواكه بدلاً من الخمر فأجاب متأسفاً: ((لا يوجد في المسرح غير الخمور)) تنازلنا بنصيبنا لزميلينا على المائدة وكان أحدهما ضابطاً إنكليزياً برتبة ميجر تعرفنا إليه بعد أن عرفنا بنفسه زاعماً أنه كان أحد أفراد بعثة التدريب في الرياض فسألناه عن رأيه في جيشنا الباسل فقال إنه يحتاج إلى تدريب أيضاً وقرر أن الجندي العربي كفؤ وشجاع لحمل السلاح.
تعرض لي الابن محمد قائلاً: يا أبت! نحن جئنا لنلهو؟ أم لنخوض في أحاديث لسنا منها في العير أو النفير؟.. فقضينا حديثنا مع الزميلين بعد أن أفرغا في جوفيهما حقنا من الشراب؛ وبعد انتهاء المسرح وإضاءة الأنوار الحمراء خرجنا نهرول قبيل الصبح قاصدين فندقنا الهادىء لنرتاح من رحلتنا الممتعة والمملة لطول الساعات التي قضيناها في الطواف والمسرح على أن نعود لرحلة نهارية أيضاً في نهر السين. وكانت هذه الرحلة لطيفة حيث شاهدنا معالم أخرى زيادة عما شاهدناه ليلاً كقصر الإلياذة وقصور البوربون وكنيسة روتردام ودواوين الوزارات والقصر الجمهوري والجندي المجهول والمكتبة العامة نعلم عنها بالقدر الذي يشرح لنا به الدليل، وفي المساء ذهبنا لنجلس في أحد مقاهي الحي اللاتيني. وهذا الحي يجمع أشتاتاً من الأجناس المختلفة وخاصة العرب الجزائريين والمصريين فرأينا العجب العجاب ما يندى له الجبين من خلاعة واستهتار بالفضيلة بدون خجل ولا حياء، فمن ذلك أن فتاة كانت تسير مع أمها فأقعدهما بعض الشباب المستهتر بالقوة رغم اعتذارهما وطلبوا لهما بعض المشروبات ولما قضوا وطرهم من الجس واللمس صرفوهما كأن لم يكن ما كان.
وفي هذا الحي توجد ملاهٍ شعبية يأوي إليها العمال من كل جنس ولون ولا تسل عما يجري هناك من الفساد طوال الليل حتى الصباح.
ولقد ساءنا أن نرى بعض إخواننا العرب الموسرين يبددون أموالهم ببذخ وإسراف. ولو أنفقت تلك الثروات في مصالح البلاد لباءت بالخير والبركات، ومن الممكن تحديد المال اللازم لكل سائح كما هو المعمول به في أكثر الدول وبعض الدول العربية أيضاً حتى تأمن تبديد الثروات. إن الدول الإسلامية والعربية خصصت لكل حاج إلى بيت الله مقداراً من المال لإنفاقه في سبيل الله والأولى أن يحدد المال لمن يسلك طريق الشيطان..
وفي اليوم الرابع أمضينا أنا والابن محمد أكثر النهار لمشاهدة برج أيفل الشهير ويحيط بهذا البرج حدائق غناء مزدانة بالزهور الفواحة وأرائك منصوبة لجلوس الزوار والسائحين أعلى صعدنا إلى البرج فرأينا باريس مصغرة بمعالمها وضواحيها ونهرها الجميل، وذكرنا هذا المنظر ببرج الجزيرة بالقاهرة وقد يفوق برج أيفل في البناء والتنسيق. تناولنا غداءنا من الباعة سندوتشات (شطائر) وجلسنا ساعة نرتاح بجانب نهر السين وسهرنا ليلتنا في أحد مقاهي الشانزلزيه، وفي الصباح قصدنا السفر إلى لوزان ـ بسويسرة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :615  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 42 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.