شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أيام من عمري
جولة في أوروبا
(3)
في برلين الغربية
بعد وصولنا لبرلين الغربية في القطاع الأميركي ونزولنا في أحد البانسيونات وأجرة الغرفة ذات سريرين فيه بعشرين ماركاً ـ خرجنا في الصباح نبحث عن قريب لنا (عارف ترجمان) ولم نجده في سكنه فسألنا عن مكان عمله في الورشة الميكانيكية، وبعد مشوار طويل وجدناه يعمل بالورشة مع زميليه خالد الخريجي وحسن يوسف بخاري، وبعد السلام عليهم عجبنا من عملهم بالورشة وهم المبتعثون لكلية الهندسة الميكانيكية فأخبرونا بأنهم قضوا سنة في تعلم اللغة الألمانية وفي هذه السنة يتمرنون عملياً في هذه الورشة وبعدها يدخلون الكلية.. وهكذا جميع الطلبة المبتعثين من السعودية وغيرها من البلاد العربية. وبهذه الكيفية يكون التعليم في ألمانيا أحسن منه في جميع أوروبا. وكنت أرغب من قبل في إدخال الابن مرافقي لكلية الهندسة المعمارية فعلمت أن لا بد له من سنة لتعليم اللغة وسنة للتمرين العملي، وهو في السنة الثانية عمارة بجامعة القاهرة، ولو أدخلناه لفاتته أربع سنوات لأنه سيبدأ من الأول.
استأذنا لولدنا عارف ونزلنا للبلد نتجول في شوارعها وميادينها الفسيحة. وأكثر عماراتها فخمة ومستجدة، ومحال تجارتها ومعارضها فخمة، والكل دائب في عمله، وأوقات العمل محدودة، سواء ما كان منها في المصانع أو المتاجر، إلا بعض المقاهي والفنادق الصغيرة، وبهذا النظام يتسنى للعمال وغيرهم قضاء بعض الساعات في المعاهد المسائية وهذا النظام وجدناه في كل البلدان التي زرناها.
مطاعم برلين
بعد تطوافنا لما بعد الظهر أشار عارف أن نتناول غداءنا في مطعم مشهور، وإذا هو عمارة ذات ست طبقات ومعرض تجاري كبير فيه كل ما يحتاجه الإنسان من ملابس وخردوات وآلات وسيارات، حتى الكلاب لها معرض خاص في الطابق السفلي، ومثل هذه المعارض معارض أخرى تتضاءل أمامها مخازن شيكوريل وشملا وجاتينو بالقاهرة. وفي الطابق السادس منه مطعم فخم به روف كاردن (الحديقة المعلقة) (1) ومقهى وبار. صعدنا إلى هذا الطابق فوجدناه مكتظاً بالسائحين والغادين والرائحين ولم نجد لنا مكاناً في مائدة إلا بعد انتظار فراغ بعض الآكلين فأخذنا مكاننا على أحد الأخونة (جمع خوان) وطلب كل منا ما يشتهيه: (طبق سمك بالبطاطس) (طبق دجاج بالمكرونة) (طبق شريحة بقر مع أرز) فأحضرت لنا ثلاثة أطباق كبيرة فضية بها مطلوبنا مع السلاطة الشهية.. أما الخبز فكان مفقوداً فقلت: وأين الخبز؟ فقيل لنا: كل يكتفي بما لديه مقابل الخبز. فالبطاطس المقلية وكبشة المكرونة وكبشة الأرز تغني عن الخبز.. طلبنا الماء المثلج فقيل لنا: البيرة والنبيذ يقومان مقام الماء. قلنا: نحن مسلمون! قالوا: عليكم بشراب الليمون والبرتقال. تناول كل منا زجاجة من شراب البرتقال والليمون، وكانت القيمة لهذا الغداء الخفيف ثلاثين ماركاً.
مشكلة الطعام في أوروبا
ومشكلة الطعام والشراب في أوروبا عويصة لأمثالنا وقد عالجناها بقدر الإمكان على أن هنالك مطاعم شبه شعبية مكتوباً عليها: (سرفس يورسيلف) أي اخدم نفسك. وفي هذه المطاعم ترى المأكولات جاهزة وموضوعة في الفترينات. وبضغط أزرار كهربائي بعد وضع القيمة يخرج صحن صغير فيه المطلوب. وفي بعض المطاعم تجد المأكولات مرصوصة وأمامها عامل يقدم لك ما تشير إليه في طبق تحمله بنفسك إلى أن تنتهي إلى الصندوق فتدفع القيمة وتأكل من طبقك واقفاً حتى تنتهي، أما إذا دلفت إلى الصالون وجلست على الخوان، وطلبت ما تريد من قائمة الطعام فتدفع أربعة أضعاف القيمة. ولذا فكرنا أن نشتري معلبات السردين والسمك والخضراوات المطبوخة والبيض والدجاج المشوي فنأخذ ما نريد إلى الفندق، حتى الشاي ابتعنا مغلاة: (إبريقاً) كهربائياً، نعمل فيه الشاي، لأن الشاي والقهوة غاليان على اختلاف المحال والمقاهي، حتى الماء المثلج ابتعنا ثلاجة لنشربه منها، وبذلك وفرنا الكثير من نفقات الطعام والشراب.
فلم لورنس
دلفنا في المساء إلى دار سينما كبيرة لمشاهدة فلم (لورنس).. وهذا الفلم صادف نحاجاً كبيراً في أوروبا. وأخذت أكثر مناظره في الأردن وسورية. وبمشاهدته أعاد لنا ذكريات نصف قرن، وما نشر من ملامحه في مجلة المنهل: (من تاريخنا القريب).
إن الدور الذي قام به عمر الشريف في شخصية (الشريف علي) (2) والنجم الأمريكي الذي قام بدور (الأمير فيصل) لم يوفقا إلى إتقان دورهما إلا في بعض المظاهر فقط، كما أن المؤلف والمخرج أضفيا على شخصية لورنس صفات الأبهة والأمارة عملاً بنعته: (الملك غير المتوج)، ولقد رأينا في هذا الفلم بعض المناظر والمشاهد التي كنا نسمع بها ولم نرها بالعين؛ فلقد رأينا كيف كان لورنس ينسف قطار سكة حديد الحجاز مع أعوانه وكيف كانت تزهق الأرواح البريئة ورأينا في منظر آخر كيف كانت الطائرات الألمانية تحلق على معسكر الأمير فيصل بن الحسين بالعقبة مركز قيادة جيش الشمال، وكان البدو والسكان يهرعون إلى الصحراء بأرواحهم تاركين ما وراءهم من مال ومتاع. ولقد أخبرني أحد أخوالي وهو ((بكر كابلي)) الذي كان مرافقاً للشيخ يوسف خشيرم وكيل إمارة العقبة بأنه في أحد الأيام بينما كانت الطائرات ترمي بقنابلها على المخيم الأميري هرب الشيخ يوسف ومعه ابنه عباس والخال، واحتمى ثلاثتهم في ظل شجرة لئلا يراهم الطيار في الوقت الذي كانت فيه صناديق الذهب مبعثرة على الأرض وليس هناك من يأخذها.. الكل هارب بنفسه.
في برلين الشرقية
لقد جرتنا الذكرى للعدول عما نحن بصدده، فلقد ذهبنا في اليوم التالي إلى رحلة لبرلين الشرقية. ولنصف للقارىء مجمل هذه الرحلة: بعد أن أخذنا نحن الثلاثة مقاعدنا في ((الحافلة)): الأتوبيس مع ثلة من السواح بدأنا الدليل قائلاً: (كودمورننك): صباح الخير، يسرني أن تكونوا معنا في هذه الرحلة التي تستغرق أربع ساعات ترون خلالها شطري برلين والسور المشهور ولتبرزوا تذاكركم الحمراء التي دفعتم فيها خمسة عشر ماركاً وسوف تدفعون ماركاً واحداً عن كل زائر واسمحوا لي بالإنصات إلي، لأني لست شريطاً مسجلاً يعيد ما يقوله، كما على كل راكب أن يبرز جواز سفره وهذه تعليمات الجانب الشرقي وليحص كل منكم ما معه من النقود ولا شك أن ذلك من أسراراكم الخاصة، لأننا لا بد أن نقدم للسلطات قائمة بأسماء الركاب وجنسياتهم وأرقام جوازاتهم ومقدار ما يحمله كل راكب من نقود مختلفة، وإنها لعملية صعبة غير أنه لا بد أن ننصاع لأوامر الجانب الآخر إذا أردتم الدخول لبرلين الشرقية (ضحك).
وقد وصلت بنا الحافلة إلى نقطة تفتيش في القطاع الأميركي بشارع (فردريك الأكبر) وهنا نزل المرشد الغربي ليحل محله المرشد الشرقي قائلاً: مرحباً بكم. وتتحرك الحافلة فندخل برلين الشرقية، ونرى آثار البؤس والكآبة بادية على السكان.. وأشار لنا المرشد إلى بعض الأماكن والعمارات القديمة وأخذ في الدعاية الشيوعية، وما أحدثه الألمان في القسم الشرقي من المساكن الشعبية والمصانع الكبيرة. وقد علمنا أن نظام البطاقات سائر حتى الآن في القسم الشرقي، فالخبز والزبدة والبيض والسكر والشاي والقهوة والزيت ما زالت تصرف بالبطاقات، العامل في ألمانيا الشرقية يتناول نصف أجرة العامل في برلين الغربية، ولذا لم يلتفت أحد من السائحين إلى محاضرة المرشد الشرقي.. جلسنا في كازينو بجانب الحافلة ردحاً من الزمن، وأخذ بعضنا يتناول المشروبات المثلجة والسندوتشات الخفيفة.
سور العار
ثم عاودنا رحيلنا إلى برلين الغربية، بعد أن اجتزنا (بوابة براندبرج) وبناية مركز الحزب الاشتراكي والجنود الذين يتبادلون الحراسة من نقط التفتيش بجوانب السور المشئوم التي بدأنا منها لنكمل رحلتنا، ومرة ثانية يركب المرشد الأول فيجيبنا مقدماً نفسه باسم (كارل باورز) ويقسم أنه لا توجد أية صلة قرابة بينه وبين باورز الأمريكي قائد طائرة التجسس (ى ـ 2) (ضحك) ثم بدأ يحدثنا عن سور العار الذي لا يقره أي إنسان عاقل في وسط مثل هذه المدينة الكبيرة ويشطرها إلى شطرين في القرن العشرين ولن يوجد مثل هذا السور بعد سبع عشرة سنة من الحرب العالمية الثانية..
وطول هذا السور خمسون كيلومتراً وهو مبني بطوب الإسمنت المفرغ واستغرق بناؤه أربعة أشهر ويتولى حراسته عشرة آلاف جندي، ومن أجل هذا السور أجليت ثمانمائة أسرة بالقوة من المنازل القريبة منه وأخليت مئات العمارات، ومنها بعض الكنائس الكبيرة، وما زال بعض العمال دائباً في إصلاح الأسلاك الشائكة من فوق السور، مخافة أن يقفز منها أي إنسان. وبجانب أربعة عمال جندي واحد شاكي السلاح يقوم بحراستهم لئلا يهربوا.. وأشار الدليل إلى نصب لجدة عمرها ثمانون سنة ماتت وهي تحاول أن تقفز من فوق السور، هذا إلى نصب آخر قتل فيه الهاربون من أنفاق حفروها من تحت السور. ولقد رأينا فتاة في مقتبل عمرها تبكي بجانب السور وتشير إلى أهلها في الجانب الغربي.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :727  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 40 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.