شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أيام من عمري
جولة في أوروبا
(2)
امتطينا القطار السريع من بلدة يوغسلافيا قاصدين ((فيينا)) عاصمة النمسا، وبذلك نكون قطعنا جمهورية يوغوسلافيا من الجنوب إلى الشمال. وركوب القطار في أوروبا متعة ونزهة جميلة كان القطار يمر على وديان فيها أنواع الأشجار المحملة بالفواكه اليانعة والزهور الفواحة والثغور الباسمة من سكان القرى المبنية مساكنهم على نسق منظم (فيلات ذات دور أو دورين) وهم يعملون في حقولهم يشيرون بأيديهم بالسلامة للمسافرين، وكان الجو مطيراً وغائماً ورفقاؤنا من الركاب يلهون ويمرحون في ممرات القطار يتغنون بأغنياتهم الوطنية التي كنا نطرب من جرسها ولا نفهم معناها. وبعد مضي عشر ساعات تقريباً وصلنا ليلاً لمحطة ويانه ويا لها من محطة رائعة ذات دورين منسقين على طراز جميل تطاول محطة فكتوريا بلندن ومحطة باريس ما عدا محطة روما التي تدانيها وتفوقها في كبرها، سألنا بالمحطة عن فندق قريب واستبدلنا ببعض الدولارات العملة النمسوية (الشلن) وكانت المحطة مكتظة بالسياح فتذكرنا فندقاً ذكره لنا بعض الإخوان وهو فندق ((رويال)) وكان من الدرجة الأولى فهممنا بمغادرته لولا أن تحصلنا فيه على غرفة بخمسة عشر دولاراً بدون طعام وكان بالفندق الكثير من حواشي جلالة الملك سعود ورأينا من الواجب السلام على جلالته فسألنا عن المكتب فقيل لنا إنه في فندق (بريستول) ذهبنا للفندق المذكور واتصلنا بالسيد عبد المنعم عقيل لتحديد موعد لنا حيث إن جلالته يقيم في قصر بعيد بين (ويانه وبادن وبادن) فحدد لنا سيادته الساعة التاسعة يوم الأحد 30 صفر 1383 وقد اجتمعنا بكثير من إخواننا السعوديين من حواشي جلالة الملك وأنسنا بهم.
وويانه بلد سياحي جميل ثالث أو رابع بلد في عدد السكان يمثل الارستقراطية وأبهة الملكية الغابرة، مبانيها فخمة وشوارعها طويلة ومنظمة تعتمد على موارد السياح الذين يفدون إليها من سائر أنحاء أوروبا وأمريكا وغيرها وتمتاز بالتماثيل المرمرية والصخرية والبرونزية وفي كل ميدان أو ساحة نافورات عليها من هاته التماثيل تمثل صوراً فنية كأنها ناطقة مجسمة وهي كثيرة الملاهي والكبريهات الليلية والكازينوهات والبارات وخاصة ((مولان روج)) الطاحونة الحمراء.
ومن النمسا بدأنا نشعر بالغلاء في كل الحاجيات ولم يكن لنا بد من اشتراكنا في رحلة للوقوف على بعض معالم وآثار تلك المدينة، فذهبنا مع جماعة من السياح وبدأنا بدار الأوبرا العظيمة التي لا تضارعها أي دار أوبرا في أوروبا فنزلنا ودخلنا مع مرشدنا الذي قادنا إلى قاعات كبيرة مبانيها من المرمر ومزخرفة السقوف برسوم ذهبية وألوان جذابة، هذا عدا التماثيل الرأسية المجسمة لمشاهير الفنانين والموسيقيين وليست هذه الدار مقصورة على الأوبرا فقط بل بها أجنحة كثيرة وصالات كان يقابل فيها أباطرة النمسا ضيوفهم قبل بدء العرض، وأجنحة للاستراحة وغرف للنوم وحمامات، وعلمنا من الدليل أنه تهدم جزء منها خلال الحرب العالمية الثانية فأقاموا جناحاً من المرمر والرسوم التجريدية هي آية في الروعة والجمال.
ثم ذهبنا للقصر الأمبراطوري الصيفي والشتوي والكنيسة المجاورة للقصر ويعجز القلم عن وصف متانة الكنائس وزخرفتها وإبداعها وأشكالها المتنوعة وامتياز بعضها على بعض في فنون الزخرفة والمعمار والفن القوطي والإغريقي.. ومررنا ببيوت مشاهير الفنانين (بيتوهوفن) وغيره وشاهدنا المكتبة العامة ودار البرلمان وعلى مدخله تمثال آلهة الحكمة ((ديانا)) وأخيراً عرجنا على مقهى فوق تل مرتفع يطل على المدينة (فيينا) بمبانيها وقصورها وحدائقها وملاهيها.. وشاهدنا أكبر مدينة ملاهٍٍ تشتغل ليل نهار ورأينا العلم السعودي يرفرف على بعض الملاهي ولم نعلم السبب في ذلك، وفي اليوم الثالث ذهبنا أنا وابني رؤوف للقصر الملكي للسلام على صاحب الجلالة مليكنا المعظم فوصلنا في الوقت المقرر فاستقبلنا كبير الحجاب السيد عبد المنعم عقيل وأشار لنا بالجلوس وبعد برهة نزل جلالته من القصر فمكثنا ريثما يجلس في فناء الحديقة ثم قمنا للسلام على جلالته مهنئين بسلامته فسأل عن أحوالنا وأمر لنا بالقهوة وكان بجانبه ابنه الأمير عبد المجيد جاء ليستأذنه بالسفر إلى بيروت وكان بالمجلس أيضاً الشيخ السعدون وبعض ((الخويا)) وحاجبه الخاص وقد علمنا أن جلالته في اليوم السابق وهو رجب 20 يوليه قد استحم في بادن بادن كما علمنا أنه سيعود عما قريب إلى عاصمة ملكه السعيد (1) ثم استأذنا بالانصراف فأجاب جلالته: ((ما يخالف)) فخرجنا ونحن نسأل الله سبحانه أن يسبل على جلالته رداء الصحة والعافية.
لقد كلفنا المشوار إلى القصر الملكي في التاكسي (350) شلناً أي ما يعادل سبعين ريالاً.
وكنت أود عرض نفسي على الاختصاصيين لشكواي من ((البروستاتا)) التي أجريت لها فحصاً سابقاً وعولجت بقدر الإمكان، ولقد هالنا أن نصرف في أربعة أيام مائتي دولار باعتبار خمسين دولاراً كل يوم لشخصين مثلنا فعزمنا على الرحيل. وفي مساء اليوم ذهبنا إلى مقهى ((جرنيزنج)) حيث عاش ((بتهوفن وموزار وشوبيرت وبركنز وريتشارد شتراوس)) وغيرهم، وفي المساء دلفنا إلى مطعم ((بيوغراد)) قيل لنا إنه شرقي في أطعمته وكان في قبو تحت الأرض وعلى الأنوار الحمراء الباهتة وصوت الأرغن تناولنا طعاماً أقرب للعفونة منه طازجاً وكان جميعه في صحن واحد عبارة عن أرز وفاصوليا ناشفة وبطاطس مقلية وقطعة لحم بقري وكوب من عصير الليمون لكل واحد والقيمة (مائة شلن) أي عشرون ريالاً فدفعنا المبلغ مع الحلوان صاغرين.
ومنها بادرنا إلى المحطة لقطع تذكرتين إلى ألمانيا بادئين ببلدة ((ميونيخ)) ثم منها إلى برلين وفي الصباح كنا في القطار السريع الذاهب إليها. كان يرافقنا بصالون القطار مهندس ألماني وزوجته وكانا على جانب كبير من الذوق والأدب وكان المهندس يعرف الإنكليزية فسره أن يكون الابن محمد طالباً بالهندسة فأخذ يعرفنا الأماكن التي يمر عليها القطار من قرى وأنهار وبلدان وتبادلنا معهما أكل الفاكهة التي معنا ومعهم ونزل الاثنان قبل ميونيخ أو ((منخن)) بعد أن أرشدنا إلى الساعة التي يصل القطار بها (لمنخن) وبعد سبع ساعات من ويانه وصلنا (منخن) بسلام. سألنا مكتب الاستعلامات عن أقرب فندق واستبدلنا ببعض الدولارات المارك الألماني ونزلنا في فندق متوسط أجرته 25 مارك يومياً لغرفة بها سريران وبعد أن نمنا نوماً هادئاً خرجنا في الصباح إلى البلد.
وميونخ من الولايات المستقلة استقلالاً إدارياً مزدحمة السكان كثيرة المصانع والمعامل، وأول ما تلمس وتحس فيها بالحركة والعمل الدائب من جانب أفراد الشعب سألنا عن أفضل مكان نمضي فيه اليوم فقيل لنا هو متحف ميونيخ المشهور وسنكتفي بوصف ما رأينا وشاهدنا في هذا المتحف الذي لا مثيل له في العالم على ما أظن وهو يعد جامعة شعبية مجسمة لا متحفاً كالمتاحف المعتادة.
وبالجملة فهذا المتحف يبسط العلوم للطالب والعامل والفنان حتى ربة البيت، وهو متعة لأهل العلم والمعرفة يرون ثمرة جهود العلماء والمفكرين. بعد دقائق من ركوب الأتوبيس وصلنا إلى المتحف الهائل الذي به آلات ضخمة ومعامل دقيقة لتسخير قوى الطبيعة فترى بعينيك وتلمس بيدك تلك الآلات وتطويرها، فهذه محطة إرسال واستقبال لمحطة تلفزيون، وهذا سنترال أوتوماتيكي، وهذا مرصد فلكي، وهذه طائرات نفاثة وعادية وهلوكيبتر، وهناك صواريخ طوربيد مائي وهذه بئر بترول يستخرج منها البترول، وتلك محطة توليد كهرباء وهناك منجم كامل وذاك نفق طبعي يفجر فيه الديناميت وتتحطم فيه صخور الجرانيت، وهذا مفاعل ذري وهذه جسور ثابتة ومتحركة، وهذا مسقط مائي إلى غير ذلك من تطور الآلات والأدوات كالراديو والتلفزيون والأسطوانات والفونوغراف والمعامل الكيميائية لعمل الأدوية والتحاليل الطبية، كل هذه الآلات والمعروضات تجسم نواحي التطبيق العملي بواسطة تلك الآلات والمعدات واضعين كل النظريات والحقائق العلمية من البداية للنهاية باستخدام الأضواء الملونة والخامات الطبيعية بطريقة مبسطة بتشغيل تلك الآلات بأزارير كهربائية يشغلها حتى الأطفال. وأعجب ما في هذا المتحف القبة الفلكية التي تعرض الحقائق الفلكية ومتابعة الأقمار الصناعية وعمل هذا التلسكوب بطريقة طبيعية، يحس فيها الإنسان كأنه يعيش في كون آخر تحت سماء زرقاء مخضبة بالشفق في الأصيل وباهتة قبل الفجر ومنورة بالكواكب نصف الليل أو مضيئة ليلة البدر؛ ولهذه القبة الفلكية قبة مماثلة في لندن التي تعتبر من أهم معالمها السياحة. ومما يلفت نظر السائح العربي إقامة النموذج الصادق للعالم الكيميائي العربي (جابر بن حيان) فأنت ترى تمثال العالم العربي وأمامه الأدوات وآلات التقطير والفرن الذي كان يعمل بالفحم والحطب وآثار الدخان والهباب الأسود على جدار الغرفة، كل ذلك مشروحاً ومكتوباً بالألمانية فقط دون لغة أخرى، فالألمان لا يزالون يعتزون بقوميتهم ولغتهم ولا يستفيد من هاته الكتابات إلا من أوتي حظاً من الألمانية.
تجولنا في أكثر أنحاء المتحف، حتى أعيانا التعب بعد ثلاث ساعات متواصلة وصاحت عصافير بطوننا وإن كان بالمتحف يوجد مقصف ولوكندة للسياح الذين يقضون طول النهار خرجنا تعبين منهوكي القوى نردد قول الشاعر العربي:
ليس أهل الغرب أرقى فكراً
إنما جدّوا فنالوا الوطرا
وركدنا فرجعنا القهقرا
ليس للإنسان إلا ما سعى
ودلفنا إلى مطعم للفراخ المشوية، وتناولنا غداءً شهياً ورجعنا للفندق لنرتاح.
خرجنا للتطواف في البلد الكبير حتى استقر بنا المسير في حديقة غناء مفتحة الزهور والرياحين يفوح أريج عطرها ذات اليمين وذات الشمال، بداخلها بحيرات على حافاتها تماثيل لحيوانات وأناس يتدفق الماء الرقراق من أفواهها كناصع اللجين، وعلى جوانبها مقاعد لجلوس الواردين من المقيمين والمسافرين. جلسنا وجلس بجانبنا شيخ ألماني وقور عرف من حديثه مع الابن بالعربية، أننا غرباء، فسأله عن بلادنا قال: ((يس يس)) وكان ملماً بالإنكليزية والمترجم هو الابن محمد سأل عن مساحة المملكة وعدد السكان، وقلنا له: أكثر من بلادك عشر مرات والسكان سبعة ملايين.
تعرض لي الابن قائلاً: ليس عن هذا يسأل يا بابا. قلت: ترجم له ما اقول فقط، تخلص الابن من الترجمة التي كان عاجزاً عن شرحها بكلام ملخبط فهم الرجل أم لم يفهم، غير أنه سأل بعد أن علم أن الابن طالب بكلية الهندسة ((عمارة)) هل لديكم مدارس عالية وجامعات؟ قلت: نعم مدارس كثيرة وكليات للعلوم وجامعتان بالعاصمة الرياض والمدينة. قال: وكم عدد الطلاب لديكم في السنين الأخيرة؟ قلت ربع مليون، دهش الابن قبل الرجل قائلاً: من أين لك هذا الإحصاء يا أبتاه؟ قلت: نعم، نعم، إنه إحصاء السنوات العشر تقريباً، قال: سبحان الله.
رجع الرجل يسأل: كم نسبة المتعلمين لديكم؟ قلت: 30%. قال الرجل: نسبة لا بأس بها في بلاد الصحراء. غير أن الابن اخذ يحاورني ليعلم عن صحة هذه النسبة قلت له: نعم هذا الإحصاء تقريبي يا بني بالنسبة لسكان المدن الكبيرة كالرياض ومكة والمدينة وجدة والظهران. قال: ولكنها ليست الحقيقة التي سأل عنها الرجل في بلاد جلها صحراء. قلت: وما علينا منه؟ أتريد أن أقول له 7% كأننا في مجاهل إفريقيا، وحتى مجاهيلها أفاقت من سباتها العميق ولتعلم يا بني أن كثيراً من الحقائق قد يتجاوز عنها إلى ما يلاقيها من الحقائق المطابقة للحال والمقام كما تعلم وليس لدي إحصاء دقيق لمثل هذه البيانات.. وهل يرضيك أن نظهر بمظهر الجاهلين عن أبسط أحوال بلادهم؟ ورد على الابن في تخابث: ما شاء الله يا بابا على منطقك الفلسفي، ولكنك محامٍ بالطبع لا تغلب في الكلام، قلت له: قم بنا إلى مطعم نتناول فيه عشاءً خفيفاً حتى نبكر في القيام غداً صباحاً إلى المحطة لنأخذ طريقنا إلى برلين. وفي الصباح وتمام الساعة التاسعة كنا بمحطة القطار الذاهب إلى برلين وكان رفاقنا بصالون الدرجة الثانية فتاتين وامرأتين ألمانيتين فأخذنا نتجاذب معهن الحديث باللغة العالمية (لغة الإشارة) فعلمنا أن إحدى الفتاتين الطالبة بمعهد الفنون ملمة بالإنكليزية وتبخل أن تتكلم بها لما قدمنا أن الألمان يعتزون بلغتهم وقوميتهم إلى حد كبير كان مع إحدى الفتاتين آلة لهو الجيتار فكانت تعزف عليه ألحاناً بالألمانية نطرب من نغماتها ولا نفهم معناها والقطار يمر بنا على وهاد وجبال وقرى ومدن كبيرة غابت عني أسماؤها. وبعد ست ساعات وصلنا الحدود الألمانية السوفيتية فوقف القطار وطلع علينا مفتشو الجمرك والجوازات واستوفوا منا عشرين ماركاً رسماً للمرور في هذا القسم ثم تحرك بنا القطار في القسم السوفياتي وكان يخيم عليه الكآبة والبؤس اللذان تمثلا في السكان من الألمان المساكين، كما رأينا آثار التخريب والتدمير التي ما زالت باقية من الحرب العالمية الأخيرة.
وبعد ثلاث ساعات وصلنا برلين الغربية بسلام.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :873  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 39 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الرابع - ما نشر عن إصداراتها في الصحافة المحلية والعربية (2): 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج