شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أيام من عمري
جولة في أوروبا
(1)
الحياة التي تمضي على وتيرة واحدة قد تكون مملة لبعض الناس حيث لا تجديد ولا تغيير، والإنسان وإن كان مدنياً بالطبع فهو بطبيعته ميال لاكتشاف كل جديد والاستزادة من المعرفة والتطلع إلى آفاق جديدة غير سمائه التي يعيش تحتها. والسفر من بلد إلى بلد من أعظم وسائل التعليم إذا قصد منه الاستفادة والنفع، فهناك فرق كبير بين أن تقرأ عن تاريخ أمة أو وصف بلد وبين أن تراها بعيني رأسك واحتكاكك بأناس مختلفي الأشكال والألوان والأخلاق والطباع، ولكنهم مثلك في الجنس والصفات فتشعر في نفسك بأنك لست غريباً عن هذا العالم المترامي الأصقاع والأطراف؛ وخاصة إذا كنت ملماً ببعض اللغات التي تتفاهم بها الأمم وبها يتم التعارف والكلام.
منذ أمد بعيد وأنا مشتاق لرؤية أوروبا بعد طوافي بأكثر بلاد العرب وتركية والهند، وفي رحلتي في العام المنصرم لتركية كنت مزمعاً السفر منها لأوروبا بطريق اليونان، غير أن عوائق اعترضتني فاضطررت للرجوع للمدينة وحمدت الإياب. وفي صيف هذا العام وبينما كنت بالقاهرة لعلاج الأهل ومراقبة الأولاد بالجامعة بحثت عن رفيق أسافر معه فلم أجده وإذا بابني الأوسط محمد (الطالب بكلية الهندسة عمارة) يلح علي أن يكون معي بدلاً من الرفيق، فهو يود أن يرى هندسة العمارات الغربية وما طرأ عليها من تجديد. صادف ذلك هوى في نفسي لأنه ملم باللغة الإنكليزية أكثر مني بمراحل ويقوم مقام ترجمان ورفيق. فكرنا أي بلد نبدأ رحلتنا إليه، واليونان أقرب بلد أوروبي للقاهرة وهناك رحلة ـ لأثينا بثلثي الأجرة ذهاباً وإياباً، فقطعنا تذكرتين في شركة KLM امتطينا إحدى طائراتها ذات أربع محركات فكنا بعد ساعتين بالضبط على مطار أثينا الجميل.. هذه بلاد اليونان التليدة في حضارتها الشهيرة بحكمتها، ومررنا على البنايات الحكومية ـ كدار البرلمان ومجلس الوزراء وبعض الوزارات والقصور الملكية والكلية الحربية. ومما يلفت السائح لدى الحدائق الملكية رؤية الحرس الملكي وهم في ثيابهم الوطنية وهي عبارة عن سروال أبيض ضيق الساقين وقميص عليه صدرية من الجوخ الأزرق وعلى رأسه طربوش أحمر ذو زر طويل أزرق يتدلى لنصف الظهر متمنطقين ـ بمسدسات كبيرة حاملي البنادق بحرابها البراقة وهم يمشون جيئة وذهاباً ـ رجعنا بعد الظهر إلى الفندق وبعد الغداء والاستراحة خرجنا مشاة داخل البلدة بعد أن أخذنا خريطة لها فيها جميع المعالم والأماكن بما فيها موقع الفندق الذي نزلنا فيه، فكان الابن محمد هو الذي يترسم أشهر الأمكنة التي نرغب في الذهاب إليها فتجولنا إلى المساء وبعد الغروب دلفنا إلى مسرح شعبي شاهدنا فيه بعض الألعاب والرقص والغناء اليوناني، واليونان أقرب للشرق منها إلى الغرب فمطاعمها ومقاهيها ـ وملاهيها يكسوها الطابع الشرقي والكثيرون من اليونانيين يتكلمون العربية وإذا سألناهم أجابونا أنهم مكثوا في اسكندرية أو القاهرة زمناً طويلاً ثم رجعوا لبلادهم وخاصة بعد الاشتراكية وتحديد الملكية ولكن ما زال أكثرهم منتشراً في أنحاء القطر المصري من السويس إلى الإسكندرية وعملة اليونان هي الدراخمة ـ والدولار الأمريكي يساوي ثلاثين دراخمة. ولا أعلم أصل هذه النسبة هل هي مأخوذة من الدراهم أو لها أصل لاتيني، والأسعار في اليونان أغلى من القاهرة وأرخص من داخل أوروبا ومثلها يوغوسلافيا. ولقد لفت نظري فوائد هذه الرحلات التي تنظمها الشركات في كل بلد وحبذا لو كان لدينا شركة أو لجنة تنظم مثل هذه الرحلات للحجاج والزوار الوافدين إلينا كل عام، والمهم في الأمر أن يكون لدينا العدد المطلوب من الملمين باللغات الإسلامية والملمين بلغة إنكليزية وفرنسية أيضاً وليس المراد أن يكون الواحد ملماً بجميع هذه اللغات لا بل لكل لغة أو لغتين ـ شخص واحد، فمن المؤسف أن نرى جماعات الحجاج من الجاويين أو الهنود أو السودان أو الأتراك يزورون الأماكن المقدسة والأثرية وجلهم لا يعلم شيئاً عن تاريخ تلك الأماكن وقدسيتها إلا ما يتلقفه من صبي المطوّف أو الدليل من تلك الأدعية المرتلة والمعرفة فيهمهم بها ولا يعرف معناها. وكم يكون سعيداً ومبتهجاً لو وجد دليلاً يشرح له بإيجاز مثلاً حينما يقف على جبل النور (غار حراء) ويسمع شيئاً عن تاريخ الغار وكيف كان الرسول يتبتل فيه ويقضي الليالي منفرداً معتكفاً لعبادة الواحد الأحد حتى نزل عليه الوحي اقرأ باسم ربك الذي خلق (العلق: 1) وهكذا على غار الثور حينما آوى إليه مع خليله الصديق (ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) وحينما مر الحاج أو الزائر على بدر ويلم بموقعة بدر الكبرى وكيف أعز الله المسلمين وخذل المشركين وكيف أبلى المسلمون بلاء حسناً وكتب لهم النصر والفتح، وهكذا في باقي المآثر على سفح أحد والخندق وآثار حصون اليهود بأطراف المدينة وخيبر وكيف أذلهم الله بعد أن أظهروا العداء للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وفي هذا دعاية طيبة للحرمين وربح وفير. فإلى وزير الحج والأوقاف أزجي بمقترحي راجياً أن ينال قبولاً منه فيعيره جانباً من اهتمامه ويكون من ضمن أعماله الطيبة التي لا ينساها له التاريخ والأجيال المقبلة وحجاج بيت الله وزوار حرم رسوله الأمين صلاة الله عليه وسلامه.
في اليوم الثالث من رحلتنا ركبنا القطار ووجهتنا (يوغوسلافيا) إلى عاصمتها (بلغراد) المدينة البيضاء وكانت المسافة طويلة تعمدنا أن نستمتع برؤية ما يمر عليه القطار من غابات وحراجات ومزارع ودساكر ومدن؛ وبالفعل تمتعنا برؤية السباسب الخضراء والأشجار اليانعة والأنهار الجارية بعد أن قطعنا عشرات الأنفاق في الجبال حتى انتهينا لبلدة سلانيك (سالونيك) في الشمال وهو أقصى بلد في اليونان ثم انحرفنا إلى غرب فدخلنا يوغوسلافيا وأبرزنا جوازات سفرنا بالحدود وفتشنا بالكلام فقط وحقائبنا لم تمس أبداً اللَّهم إلا أنه حال رجوعنا لليونان آخر مرة فتحنا حقيبة واحدة أمام المفتش بالجمرك فأشار بطيها، وأذكر في العام الماضي حينما سافرت من دمشق إلى المدينة بطريق البر وبعد الدخول للمملكة فتشت حقائبنا في بئر هرماس أول الحدود ثم لدى دخولنا تيماء وفي تبوك وخيبر والمدينة، ومع ذلك فالتهريب لا ينقطع من المهربين. وصلنا في اليوم الثاني لبلغراد عاصمة يوغوسلافيا ونزلنا بفندق بهذا الاسم يطل على أكبر ميدان في البلدة وكان من الدرجة الأولى جميع غرفه مجهزة بحمام وصالة صغيرة وماء حار وبارد وتقع البلد على كل مرتفع بين نهر السان والدانوب مبانيها فخمة وشوارعها منسقة نظيفة بها جامع للمسلمين وفيها قلعة ((كلمجدن)) التي بناها الأتراك وتركوها بعد أن حكموها عدة قرون وقد حولت الحكومة هاته القلعة إلى حديقة عامة يرى من أعلاها نهرا السان والدانوب. التقينا هناك ببعض الطلاب المصريين وغيرهم وحكومة يوغوسلافيا تمنح الطلبة الغرباء (15) ألف دينار والدينار يساوي ثمن قرش سعودي أي مائتي ريال تقريباً. بعد يومين من تجولنا ورؤية معالم البلد قصدنا بوسنة سراي (سراييفو) البلاد التي بها مئات الألوف من المسلمين، قطعنا تذكرة في حافلة (أتوبيس) تؤم البوسنة، وكانت المسافة عشر ساعات مررنا على جبال وقطعنا أودية وأنهاراً وقرى عديدة فكنا نقف كل ساعة تقريباً على قرية أو بلدة في الوقت الذي كنا نقطع فيه أودية يانعة وغابات كثيفة وجبالاً شاهقة وأنهاراً رقراقة حتى وصلنا سراي أو (سرايفو) بسلام وقد قطعنا ما يقرب من أربعمائة كيلومتر في عشر ساعات تقريباً ومرت خفيفة لطيفة بدون مشقة وإرهاق؛ نزلنا من المحطة وسألنا في مكتب الاستعلامات عن فندق قريب، والغريب أن لم يكن في البلد سيارات أجرة فركبنا الترام الذي كان بقرب المحطة ومعنا حقائبنا وكان الفندق من الدرجة الثانية بشارع تيتو أكبر شارع بالمدينة. لقد كنت جد مشتاق للسفر إلى البوسنة لما كنت أسمع من المسافرين إليها من أهل المدينة لتناول بدلات الحج من المسلمين هناك وقد انقطعوا عنها أخيراً بعد الاشتراكية وعدم خروج النقد إلا في حدود معلومة. وبلاد البوسنة والهرسك افتتحها السلطان محمد الفاتح سنة 867 وأسلم الكثير من أهلها وتخرج منهم القادة والعلماء الذين سجلوا بطولتهم في الحروب التركية والعلماء الأعلام الذين تتزين بمؤلفاتهم المكاتب الإسلامية؛ ويقرب عدد المسلمين في يوغوسلافيا مليونين ونصف مليون مسلم نصفهم تقريباً بالبوسنة وأطرافها. يممنا إلى جامع خسرو بك لنتصل ببعض إخواننا المسلمين هناك فالتقينا هناك بالأستاذ كمال الدين المدرس بجامعة سرايفو ويعرف اللغة العربية بالعافية (بتكلف) فأدخلنا إلى مركز جمعية العلماء ولما هممنا بالدخول قال لنا (اخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى) ولما دخلنا الصالة صالة الجلوس قال (أدخلوها بسلام آمنين) وقدم لنا حافظ المكتبة كتيباً صغيراً فيه كل ما يحتاجه المسلم من أمور صلاته وصومه ثم تطوع الأستاذ المذكور فصحبنا داخل البلد وذهب بنا لجامع (أمير سلطان) وفي طريقنا وعلى ناحية شارعين أشار لنا إلى آثار قدمين محفورتين قائلاً إنه مكان الشاب الصربي الذي أطلق مسدسه على الأرشيدوق فرديناند النمسوي وزوجته سنة 1914) فكانت الشرارة للحرب العالمية الأولى وبالشارع متحف صغير يضم رسوماً للشاب الثائر والعربة الملكية التي كان يركبها الأمير النمسوي والصحف التي نشرت خبر الكارثة بجميع اللغات. خرجنا من المتحف إلى جامع مير سلطان وهناك تعرفنا بالأستاذ قاسم الموظف بمكتبة خسرو بك وقد تلطف الأستاذ فأمر لنا بقهوة تركية والقهوة التركية سائدة في يوغوسلافيا ويعبرون عنها بالجذوة ويشربونها بنهم ولذة، وأرانا الأستاذ بعض المخطوطات العربية التي تحويها المكتبة كما طاف بنا بالمكتبة وهي تحتوي على كثير من كتب التفسير والحديث والفقه وتحتوي على كثير من الكتب الإفرنجية أيضاً؛ والأستاذ السيد قاسم متعلم بالأزهر عشرين سنة ويتكلم العربية بطلاقة وقد خرج معنا وتجولنا بالبلد معه والتقينا ببعض المسلمين هناك، ويظهر أن المسلمين لم يتمتعوا بحقوقهم كاملة كإخوانهم السلافيين وأكثرهم متوسط الحال موظف عامل صانع فلاح أما الأثرياء والملاك منهم فقد تأممت أموالهم بموجب النظام الاشتراكي القائم اليوم غير أن الفقير فقير سواء في الدولة الملكية كاليونان أو الاشتراكية كيوغوسلافيا وهي سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً قال تعالى نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ (الزخرف: 32) وقال سبحانه: وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ (النحل: 71). تقدمنا من أحد باعة الفاكهة فعرفنا مسلمين فقال لنا إنه مسلم واسمه جمعة وتعرض لنا جاره فقال اسمه عمر ومرة كنا نسأل عن بعض الأماكن فتعرض لنا عامل يمشي مع أولاده وأرشدنا إلى المكان قائلاً إنه مسلم واسمه حامد وهؤلاء أولاده وكان رقيق الحال. قال لنا بعضهم في تأثر وانفعال: إننا نعيش في عزلة عن العالم الإسلامي والعربي في الوقت الذي نحن في أمس الحاجة للتعاطف والتواد وكما يأمر به الدين الإسلامي ولكن لم يفكر أحد فينا اليوم حتى أصبحنا أقلية محكومة لا تتمتع بجميع الحقوق التي يتمتع بها مواطنونا السلاف بعد أن حكمنا هذه البلاد طيلة قرون خلت، وبسبب تخاذلنا وتفرقنا تقلصت راية الإسلام عنا وأمسينا غرباء في أوطاننا. لقد صدق الرجل في ما قاله ولم نشأ ذكر اسمه ولكنها الحقيقة التي لا غبار عليها.
ذهبنا في اليوم الثاني إلى رحلة لنبع نهر البلدة (نيرتفا) ويبعد عن البلد مقدار عشرة كيلومترات تحفه حدائق جميلة ومقاه لطيفة ومطاعم بها أنواع الغذاء والشراب؛ جلسنا في أحد المقاهي المطلة على النبع الرقراق وكان معنا الكثير من السياح وأهل البلد الذين يأتون إليه للفسحة والنزهة كل يوم. تغدينا سمكاً نهرياً ونعمنا ساعات بالنظر إلى منبع النهر الصافي والزهور البراقة المختلفة الأشكال والألوان على ضفافي النهر وأطراف الأرائك المنصوبة وتحدثنا مع السياح وأكثرهم كان من إسبانيا وأمريكا، فتارة نتفاهم بطرف من الإنكليزية أو لغة الإشارة في أكثر الأحيان؛ وفي يوغوسلافيا يتكلمون أربع لغات. وبلاد البوسنة والهرسك تغطيها غابات كثيفة ووديان مليئة بأشجار الفاكهة اليانعة يشقها نهر (نيرتفا) الآنف الذكر وبه كثير من أنواع السمك اللذيذ. وقد أصيبت البوسنة والهرسك بخسائر فادحة في الحرب العالمية الثانية ويقال إنه دمر أكثر من مائة ألف منزل وأعيد بناؤها فيما بعد وأصبحت البوسنة في مقدمة جمهورية يوغوسلافيا إنتاجاً لمصانعها الشهيرة وهي تجمع بين الشرق والغرب بمآذنها وقباب مساجدها وكنائسها الفخمة وبها جامعة كبيرة ومطارها على أحدث طراز ومطابخها شرقية غربية لوجود المسلمين هناك، ولا غرو فإن للدولة العثمانية البائدة التي افتتحت البلقان بما فيها رومانيا والبلغار ويوغوسلافيا (الصرب) والجبل الأسود واليونان الفضل الأكبر في انتشار الإسلام في تلك الأصقاع.
غادرنا البوسنة في اليوم الثالث إلى (زغرب) في حافلة (أتوبيس) وكان يوماً قاتماً وماطراً فمررنا على مروج خضراء وغابات وأنهار والمسافة تقرب من أربعمائة كيلومتر قطعناها بعشر ساعات تقريباً فوصلناها مساء ولم تكن هذه البلدة مقصودة إلا لنرتاح فيها لقطع رحلتنا إلى (ويانة) عاصمة النمسا وزغرب الشهيرة بكنائسها الفخمة وحدائقها الجميلة وفيها اختفت المساجد الإسلامية وانقطع حبل المسلمين وإلى مقالنا الثاني للنمسا وألمانيا إن شاء الله.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :671  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 38 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

ديوان الشامي

[الأعمال الكاملة: 1992]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج