شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
في طريقي إلى تركيا
كنت في طفولتي وما بعدها مشتاقاً لرؤية دار الخلافة يومئذ (استانبول) عاصمة ملك سلاطين آل عثمان وكنت أرى رسوم بعضهم بهيئاتهم المهيبة وأقبيتهم المزركشة وقلانسهم المتوجة بالعمائم الجميلة سمات مسلمة ووجوه مشرقة مليئة بالنور والإيمان، هذا إلى ما كنت أسمعه من خطباء الحرم النبوي في يوم الجمعة بالدعاء لهم في قولهم (ملك البرين والبحرين خادم الحرمين الشريفين السلطان ابن السلطان الملك المظفر المنصور المعان عبدك مولانا السلطان الغازي عبد المجيد خان ابن سلاطين آل عثمان من تباهى بهم الزمان وافتخر)..
حقاً لقد افتخر بأكثرهم الزمان.. من مؤسس دولتهم عثمان الأول وبا يزيد والفاتح وسليم وسليمان، وهذا الأخير وصل إلى أسوار (ويانة) عاصمة النمسا وكاد أن يصل إلى غرب أوروبا ولا غرو فقد سجل لهم التاريخ أسمى آيات الشرف لما قدموه من خدمات وما كابدوه في الغزوات والجهاد.. قدمت أني توجهت من المدينة في السابع من المحرم 1382 قاصداً دمشق على طائرتنا السعودية فوصلنا دمشق بعد مرورنا على تبوك وعمان، وبمجرد وصولنا داعبتنا نسائم الشام العليلة وأنعشتنا بجوها المنعش اللطيف، ركبنا التاكسي في طريقنا داخل البلدة نستنشق عبير الأزاهير الفواحة ذات اليمين والشمال حتى وصلنا لمجرى بردى الجميل ورحم الله شوقي إذ يقول، حينما دخلها لأول مرة:
دخلتها وحواشيها زمردة
وللعيون كما للطير ألحان
جرى وصفق يلقانا بها بردى
كما تلقاك نحو الخلد رضوان
آمنت بالله واستثنيت جنته
دمشق دار لها الفيحاء بستان
اجتمعت في دمشق بأحباب لنا وأصدقاء دعوني لزيارتهم وولائمهم وتجولنا في مصائف دمشق من الربوة إلى دمر والهامة وعين الخضرة وعين الفيجة وبقين وبلودان والزبداني والغوطة، وبعد أسبوع قصدت إلى حلب فمررت على حمص وزرنا بطلها المجاهد العظيم خالد بن الوليد رضي الله عنه، وفي حماة استمتعنا بالجلوس على نهر العاصي فذكرت بيتي الشعر القديم:
يا سادة سكنوا حماة وحقكم
ما حلت عن عهدي وعن إخلاصي
والشوق بعدكم إذا ذكر اللقا
يجري المدامع طائعاً كالعاصي
لله ما أرقه من شعر على ما فيه من الإيهام والتورية البديعة، كما مررنا على معرة النعمان بلد فيلسوف المعرة أبي العلاء القائل:
تعب كلها الحياة وما أعـ
ـجب إلا من راغب في ازدياد
إن حزناً في ساعة الموت
أضعاف سرور في ساعة الميلاد
خلق الناس للبقاء فضلت
أمة يحسبونهم للنفاد
إنما ينقلون من دار أعما
ل إلى دار شقوة أو رشاد
واللبيب من ليس يغتر
بكون مصيره للفساد
وهذه الأبيات تدل على إيمان المعري بالبعث والوحدانية وتدفع عنه وصمة التشكيك.
وصلت حلب الشهباء وفيها صديقنا القديم الأستاذ أمين الله عيروض فقد وجدته معتصماً ببرجه العاجي في أحد عمارات (السبيل) والأستاذ مؤلف كبير له ما ينوف عن مائة رسالة مليئة بالنقد والإصلاح والعقيدة الصحيحة، وقد أحيل الأستاذ إلى المعاش بعد أن أوجد جيلاً من الشباب العلماء.. توجهت من حلب في قطار الشرق السريع وكان يرافقني شابان فلسطيني وطالب سوري يرغب في الدخول بكلية الطب بألمانيا فسألت الشاب حسين لم اختار ألمانيا وترك جامعة دمشق؟ أجاب أن الطب هناك أرقى منه في سورية ومعترف به لدى الدول وقد فهمت منه أنه سيداوم خمس سنوات لا يرجع إلى سورية إلا بعد نيله الدبلوم، عجبت من أمر هذا الشاب وغيره من الشباب المغترب لتحملهم مشاق الاغتراب وتحملهم للآلام.. لدى دخولنا إلى حدود تركية بدأت الاجراءات الجمركية في القطار وفتشنا تفتيشاً خفيفاً وكان لكل فرد أن يحمل (500) ليرة تركية ما عدا ما يحمله من العملات الصعبة كما يشاء. وبعد ساعتين من هذه الاجراءات تحرك بنا القطار إلى أضنه ومنها بدأنا ندخل في أنفاق جبال طوروس وقد بلغت خمسين نفقاً تقريباً يطول بعضها ويقصر حتى وصلنا إلى أنقره بعد أربع وعشرين ساعة بسلام. نزلت في فندق متوسط بمحلة الوس بميدان الغازي في فندق (يني شهر) غرفة باطنها حمام ساخن وبارد باجرة قدرها عشرون ليرة لليوم الواحد أي عبارة عن سبع ريالات سعودية، وكان الفندق يطل على مبنى المالية ذي الحديقة الغناء. خرجت بعد العصر وكان اليوم يوم خميس وأول ما رأيت تمثال الغازي (أتاتورك) على صهوة جواد أسحم يشير إلى إحدى المعارك التي خاضها في بداية هجومه على جنود الحلفاء وعن يمينه وشماله اثنان من جنود الكماندوز، سألت عن الحديقة العامة (جنشلك) فإذا هي قريبة من الميدان والدخول فيها بنصف ليرة وإذا هي بستان كبير به أنواع الأشجار العتيقة وأنواع الزهور الملونة يتوسطه نهر رقراق صفت على جانبه المقاعد والمقاهي وأنواع المرطبات، والترك يتناولون الشاي في المقاهي في سمارات معدنية جميلة يعملون الشاي بيدهم ويجدون في ذلك متعة كما كنا عليه سابقاً وهم مشغوفون بشرب البيرة أيضاً إلى حد كبير، لقد جمع هذا البستان من الملاهي بأنواعه فهناك المسارح والسينما والمراقص و ((لونابارك)) وملعب للأطفال. جلست ما يقرب من ساعة أتفرج على الغادين والرائحين والجالسين ثم عرجت إلى لوكندة للعشاء وتعشيت بخمس ليرات أي ما يعادل ريالاً ونصف، وهذا الرخاء ناجم عن انخفاض سعر الليرة وهي في قوة الشراء بتركية كما هو الريال بالسعودية والليرة في سورية ولبنان. نمت نوماً هادئاً بالفندق وأصبح اليوم يوم جمعة فسألت عن المسجد الجامع فقيل لي إنه قريب مني ويسمى (جامع بيرم) ذهبت لصلاة الجمعة فإذا هو حافل بالمصلين حتى الشارع ولم أجد فيه مكاناً إلا بشق الأنفس وسمعت القارىء يتلو القرآن وبعد ساعة أذن المؤذن بلسان عربي فصيح وتلاه الخطيب فوق المنبر بخطبة عربية بليغة يتخللها مواعظ تركية لا بأس بها؛ سرني هذا المشهد الحافل بأنواع المصلين من تجار وعمال وعسكريين. والتركي يأتي للصلاة في الجامع برغبة ويصلي بخشوع وخضوع، غير أن المؤسف بأن هذه الطبقات سائرة للزوال.
أما الشباب المتعلم فيكفيه أنه مسلم بالعقيدة فقط ولا حول قوة إلا بالله. طلبت من مدير الفندق أن يصحبني بدليل لأرى معالم أنقرة فرافقني أحد الموظفين وخرجنا قبل العصر فأراني مباني الوزارات ومقر رئاسة الجمهورية ثم عرج بي إلى ضريح الغازي ويقع على تل مرتفع بوسط المدينة يشرف على جميع مبانيها، ويقع قبر الغازي في مبنى كبير أظنه كان من القلاع القديمة وبنيانها لا تقل مساحته عن 400 × 400 متر يحيط بجوانبه أروقة مشتملة على غرف كثيرة في كل غرفة قسم من مخلفات الغازي، فهذه الغرفة لملابسه وسلاحه الخاص وأوانيه ومجوهراته وأوسمته وتلك لمدفعه الخاص وسياراته إلى غير ذلك، وفي صدر المبنى وفي قاعة يقع الضريح مكللاً بالزهور والرياحين وعلى جوانب ذلك المبنى جنود شاكو السلاح يقطعون الردهات جيئة وذهاباً. وقف دليلي خاشعاً أمام القبر فوقفت معه وقلت في نفسي (اللَّهم اغفر له إن كان من المسلمين الناجحين) أخبرني الدليل أنه يأتي في أيام الآحاد ألوف الأتراك لزيارة ضريح الغازي ويبكون عليه ويترحمون عجبت لهذه المنزلة الرفيعة التي اكتسبها الغازي في حياته وبعد مماته وتحقق لدي قول أبي الحسن الأنباري في الوزير ابن بقية:
علو في الحياة وفي الممات
لحق تلك إحدى المعجزات
لا غرو أن الغازي أنقذ الشعب التركي بجهاده الجبار من الاحتلال والاستعمار بعد أن دخل أسطولهم في بحر مرمرة وأزمير، والحلفاء يذكرون بطولته في أزمير يوم قذف بجيش اليونان إلى البحر ومزقهم شر ممزق ثم عمل على ضم الشعب التركي في جمهورية واحدة وتخلى عن بلاد العرب لمصيرها المحتوم، بيد أنه أساء إلى الإسلام والمسلمين بعد ذلك الانتصار فنكب العلماء وكل من يمت للدين وأبطل الحكم بالشريعة الإسلامية وأبدلها بقوانين الغرب المضادة للشريعة في كثير من موادها، وأخيراً أبطل الكتابة باللغة العربية مع أن الترك كان لهم القدح المعلى في تحسين الخطوط العربية وتبوئتها المكانة السامية في العصور الأخيرة، وبذلك قطع أصول الدين من جذوره فبطلت المكاتب الإسلامية المحررة بالعربية وضاعت كنوز اللغة العربية في مختلف العلوم والفنون وأصبح المسلم التركي لا يعرف من الإسلام إلا ما يلقنه إياه أبوه وجده من التعاليم العملية فقط وإنا لله وإنا إليه راجعون.. سألت في اليوم الثاني عن سفارتنا السعودية في أنقرة لاجتمع بإخواننا فيها فإذا بي أجد أخي وتلميذي السابق سعادة السيد ناصر غوث هو القائم بأعمال السفارة كما وجدت السيد عبد القادر هاشم والسيد عبد العزيز أوليا والسيد عبد الله نمنقاني أيضاً. رحب بي السيد ناصر وعتب علي لأني لم أقصد السفارة من أول يوم وعلمت منه أنه كان متتبعاً لمقالاتي في المنهل وعتب علي بأني لم أذكر اسمه ضمن إخواننا التلاميذ فأفهمته بلطف بأن ذلك لم يكن على سبيل الحصر لجميع من كان لي شرف تلمذتهم ثم طلبوا مني جميعاً أن أوالي تحرير المقالات لأنهم يجدون فيها بعض اللذة في النقدات واللذعات، لقد أقام لي السيد ناصر حفلة غداء وطلب مني الإقامة عنده في دار السفارة فاعتذرت له بالسفر إلى استانبول في طريقي إلى بورسة العاصمة الأولى للسلاطين، وفي مساء اليوم خرجت مع الإخوان السيد عبد العزيز والسيد عبد الله نمنقاني إلى السد العظيم فوجدناه آية في المعمار والبناء وجمال الهندسة تحيط به الحدائق الغناء وتتخلله مياه السد العظيم، جلسنا في مقهاة على السد ثم رجعنا للبلدة ودعوني للعشاء في الحديقة العامة فأجبت طلبهم شاكراً الإخوان كرمهم وصنيعهم وودعتهم للسفر إلى بورسة في اليوم الثاني. وإلى اللقاء من بورسة إن شاء الله.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :729  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 36 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج