شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
رحلة في الأندلس الخُلد المفقود
ـ 2 ـ
قرطبة والزهراء
تقع (قرطبة) على سفوح جبال متفرعة من سلسلة جبال (سيرامونيا) الممتدة من شمال المدينة، وتمتد قرطبة على الضفة اليمنى لنهر (الوادي الكبير) وتشتهر بالزيتون والمعادن، وبجبالها نوع من الحجر يسمى الشادنة يستعمل في التذهيب ويبدأ تاريخها الإسلامي في عهد (السمح ابن مالك الخولاني الذي ولي الأندلس سنة 100 وهو الذي رفعها إلى مصاف المدن الكبيرة). ومن آثارها القديمة (القنطرة) وكانت تعد من أعاجيب الدنيا وهي من بناء الرومان ورممها السمح بن مالك المذكور لسقوط عقودها، وطولها ثمانمائة ذراع وعرضها عشرون وعقودها ثمانية عشر وعدد أبراجها تسعة عشر وقد اتخذها عبد الرحمن الداخل الأموي قاعدة لملكه فأصبحت يومئذ مهد الحياة الرفيعة ومصدر الحياة الإسلامية. وأهم عماراتها الجامع الأموي الكبير الذي ما زال يحتفظ بصورته الإسلامية ومصدراً يستوحي منه النصارى فن كنائسهم ودورهم، وقيل كان بها 3877 جامعاً و 911 حماماً وكانت قرطبة زمن الدولة الأموية في الأندلس موطناً لفلاسفة العرب وكعبة العلماء والأدباء إلى أن سقطت الخلافة الأموية وفتحها البربر سنة 1010 وهدموا آثارها وسلبوا محاسنها وبعد سقوطها في أيدي المسيحيين حولوا جامعها الكبير الذي بناه الداخل كنيسة كبرى.
جولة في قرطبة
بعد فراغنا من زيارة قصر الحمراء بغرناطة وتجولنا في البلد بين معالمها ومتنزهاتها ذهبت أنا ورفيقي الشريف زيد صباحاً لمحطة القطارات وقطعنا تذكرتين في الدرجة الثانية فوصلنا ظهراً إلى قرطبة ونزلنا في نزل (بانسيون) وبعد أن تغدينا في مطعم مجاور نمنا حتى العصر ثم خرجنا نتجول في البلد، فتمثلناها في زمن عزها الغابر حينما كانت ترفرف عليها الراية الإسلامية وهنا ذكرت أبياتاً لشوقي نضر الله ثراه:
لم يرعني سوى ثرى قرطبى
لمست فيه عبرة الدهر خمسي
قرية لا تعد في الأرض كانت
تمسك الأرض أن تميد وترسي
غشيت ساحل المحيط وغطت
لجة الروم من شراع وقلس
سنة من كرى وطيف خيال
وصحا القلب من ضلال وهجس
وإذا الدار ما بها من أنيس
وإذا القوم ما لهم من محس
أين (مروان) في المشارق عرش
أموي وفي المغارب كرسي؟
سقمت شمسهم فرد عليها
نورها كل ثاقب الرأي نطس
وعظ البحتري إيوان كسرى
وشفتني القصور من عبد شمس
رجعنا للمنزل بعد أن شربنا الشاي في أحد مقاهيها وتعشينا في مطعم قرطبي أنيق ونمنا نوماً متقطعاً وبعد أن أصبحنا عزمنا أولاً على زيارة الجامع الذي أصبح كنيسة وبعد وصولنا ماذا رأينا؟ رأينا جامعاً كبيراً على غرار جامع أمية بدمشق يقوم على سوار من المرمر، وعقود بديعة وأروقة واسعة وفناء كبير ويسع الجامع ألوفاً من المصلين بمحاريب مزخرفة وآيات أو نقوش زينت جدرها وحناياها كما قال فيها شوقي:
مرمر تسبح النواظر فيه
ويطول المدى عليها فترسي
وسوار كأنها في استواء
الفات الوزير من عرض طرس
فترة الدهر قد كست سطريها
ما اكتسى الهدب من فتور ونعس
ويحها كم تزينت لعليم
واحد الدهر واستعدت لخمس
وكان الرفيف في مسرح العين
ملاء مدنرات الدمقس
منبر تحت منذر من جلال
لم يزل يكتسيه أو تحت قس
ومكان الكتاب يغريك ريا
ورده غائباً فتدنو للمس
صنعة الداخل المبارك في الغر
ب وآل له ميامن شمس
ومما يؤسف له أن أصبح هذا الجامع كنيسة يأتيه النصارى لمزاولة شعائرهم وإقامة صلواتهم وبدلت المحاريب إلى (أيقونات) تماثيل للعذراء وشعارات الكنائس كما قال الشريف الرندي:
حيث المساجد قد صارت كنائسها
فيهن إلا نواقيس وصلبان
حتى المنابر تبكي وهي جامدة
حتى المنابر ترثي وهي عيدان
لمثل هذا يذوب القلب من كمد
إن كان في القلب إسلام وإيمان
في القنطرة الكبرى
خرجنا من هذه المناظر المؤثرة دامعي العين قاصدين القنطرة الكبرى على نهر (الوادي الكبير) ذات القصور الثمانية عشرة، والتي تضاهي بناء الأهرامات في قدمها ومحكم بنائها، وعلى طرفها الأيسر برج كبير ذو ثلاث طباق فقطعنا تذكرتي دخول وتجولنا من أسفله لأعلاه مع الدليل فرأينا فيه عجباً من محكم بناء ونظام هندسة بحيث لو تكلمت في ركنه تتبع صوتك في الركن الثاني. ومن أعلاه أرانا الدليل مكان قصور بني أمية فذكرت أبياتاً لشوقي رحمه الله يخاطب عبد الرحمن الداخل بقوله:
قصرك المنية في قرطبة
فيه واروك ولله المصير
صدف خط على جوهرة
بيد أن الدهر فياض بصير
لم يدع ظلاً لقصر المنية
وكذا عمر الأماني قصير
كنت صقراً قرشياً علماً
ما على الصقر إذا لم يرمس
إن تَسل أين قبور العظما
فعلى الأفواه أو في الأنفس
نعم لم يدع الدهر ظلاً لقصر (المنية) ولا لقبر بانيه الداخل وقبور العظماء وهو ما خلفوه من الذكر الحسن والثناء العاطر.
إلى قصر الزهراء
وبعد أن نزلنا من البرج قصدنا (قصر الزهراء) وهو على خمسة أميال من قرطبة بناها عبد الرحمن الناصر سنة 325 واتخذها مقراً للخلافة وأسكنها محظيته (الزهراء) ورجال خاصته ونصب تمثالاً على بابها الرئيسي، وكذلك ابتنى مسجداً فيها، وظلت الزهراء في ازدهار حتى سقوط الدولة الأموية. دخلنا قصر الزهراء وعجبنا مما شاهدناه من أبنيته الجميلة وأبهائه الواسعة وغرفه وعقوده المزخرفة (الديكور) ودخلنا بستانه الأفيح من زهوره العطرة والبلابل الشادية، بيد أنه داخلنا الألم لمجد الإسلام الضائع وعز العرب الزائل وذكرت قول الشاعر:
وقفت بالزهراء مستعبراً
معتبراً أندب أشتاتا
وقلت يا زهراء هل رجعة؟
قالت: وهل يرجع من ماتا؟
فلم أزل أبكي وأبكي بها
هيهات يغني الدمع هيهاتا
رجعنا من قصر الزهراء منكسي الرؤوس آسفين على ضياع المملكة الإسلامية بعد أن حكم الإسلام ما يقرب من ثمانمائة عام وإن هو إلا عدم التمسك بالتعاليم الدينية والأخوة الإسلامية والركون إلى الترف وملاذ الدنيا وتعدد الأمراء والحكّام كما قال حافظ إبراهيم لدى رجوع شوقي من الأندلس إلى مصر:
واذكر لنا (الحمراء) كيف رأيتها
والقصر ماذا كان من بنيانه
ماذا تحطم من ذراه وما الذي
أبقت صروف الدهر من أركانه
ولعلّ نكبته هناك تفرق
وتشرد قد كان في تيجانه
عبر رأيناها على أيامنا
قد خففت ما نابه من آنه
وحوادث في الكون إثر حوادث
جاءت مبكرة لهدم كيانه
فهل نتنبه اليوم بعد تلك المحن الأليمة ما أصابنا من كارثة ضياع فلسطين وثالث الحرمين الشريفين؟ وهل بقي عذر لمسلم بعدم حمل السلاح للجهاد في سبيل الله بعد أن أعلنها مدوية في أرجاء العالم جلالة الفيصل في قوله ((اللَّهم أمتني مجاهداً في سبيل فلسطين)).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :875  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 34 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج