شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
جولة في الولايات المتحدة
(الدنيا الجديدة)
ـ 2 ـ
((عود على بدء))
بين الإقامة والتنقلات
أقمت في بلومنجتن بولاية إنديانا لدى الابن العزيز الذي كان يدرس لتحضير الماجستير في الاقتصاد السياسي ما يقرب من شهر عرضنا فيها مريضتنا بمستشفى (كليفلاند) بولاية أوهايو وبعد الفحص الدقيق أمهلونا مدة أسبوع لعرض التقرير اللازم فيما إذا كان من الممكن إجراء العملية لداء مستعص في البطن. وبعد أسبوع جاء الجواب بإمكان ذلك. طلبنا من المستشفى حجز غرفة فيها فقالوا بعد شهر وبعد المراجعة ولأننا أغراب سعوديون أجابوا بأنه يمكن إخلاء سرير بعد أسبوعين فلم نجد بداً من انتقالنا إلى بلدة كليفلاند البعيدة عن بلومنجتن ألفا وخمسمائة كيلومتر تقريباً سافرنا جميعاً إليها لنأخذ شقة قريبة من المستشفى لنكون قريبين من مريضتنا وفي هذه الفترة سافرت مع ابني الصغير عبد السلام الذي يدرس علم الآثار في جامعة إنديانا إلى أخته آمال المقيمة مع زوجها المهندس طلال بكر في بلدة آسيت كولج بولاية بنسلفانيا. وآمال تخرجت من جامعة عين شمس بالقاهرة في الإدارة والمحاسبة في كلية التجارة وتزوجت بالمهندس المذكور الذي بعثته جامعة الرياض لنيل الدكتوراه في الهندسة وهذه آخر سنة له ولم تشأ آمال أن تمكث بدون دراسة فدرست اللغة الإنكليزية وفن التفصيل والخياطة ونالت فيهما الشهادة وبعد وصولنا لبلدة آسيت كولج وبها جامعتها الشهيرة نزلنا لدى صهرنا المهندس بشقته الأنيقة التي لا تبعد كثيراً عن الجامعة وهذه الجامعة لا تقل عن جامعة إنديانا في عمارتها الكبيرة وقاعاتها الفسيحة وكلياتها العديدة وحدائقها ومكتبتها ومتنزهاتها وملاعبها وحماماتها وقاعات النشاطات وميادين الألعاب وأول ما سألت عنه المهندس هل تصلي الجمعة؟.
فأجاب نعم في كنيسة مخصوصة أذن في قاعتها بالصلاة للطلاب المسلمين وبالفعل ذهبنا للصلاة هناك فرأينا أكثر المصلين من الطلبة الباكستانيين والهنود وقليلاً من العرب فكلفوني بالخطبة والإمامة فاعتذرت عن الخطبة بالإنكليزية فطولبت أن أخطب بالعربية وأترجم بعضها للغة الأردية التي أتقنها فخطبت وصليت بهم والمهندس رئيس لجماعة الطلاب السعوديين وغيرهم فسألته عن أعضاء الجمعية لم لم يحضر أكثرهم للصلاة؟ فاعتذر عنهم بأنهم يذاكرون للاختبارات وبعضهم ينوي السفر وبعضهم سافر بالفعل. وكنا مدعوين عند أحد طلاب الكويت عباس علي خان فاجتمعنا عنده بعشرات من طلاب العرب من السعودية والكويت ومصر ولبنان. ومع ضيق الشقة فإن الطعام وضع على مائدة وأحسنه اللحم المشوي على الفحم فكان كل واحد يحمل في صحنه ما شاء ويخرج في ساحة الشقة وقد أعجبني زيارة بعضهم لبعض ولم يعجبني اختلاط النساء بالرجال في وضع غير محتشم (بالميني جوب) ولكنه التيار الجارف اليوم في جميع البلاد. ولم أشأ أن أسألهم عن غيابهم عن صلاة الجمعة لئلا أسمع أعذاراً واهية كما سمعتها من زملائهم من قبل من طلاب جامعة إنديانا كما ذكرته في مقالي الأول وقلت في نفسي: من يهد الله فلا مُضِلَّ له ومن يضلل فما له من هاد. ولقد أحسنت وزارة المعارف بعدم ابتعاث الطلاب إلى خارج المملكة بعد اليوم إلا لنيل الماجستير أو الدكتوراه، حيث وجد لدينا العديد من الكليات بجامعة الرياض حتى الهندسة والطب والجيولوجيا وكلية البترول والمعادن ولعله العلاج الشافي لعدم تهاوي بعض شبابنا إلى مهاوي الضلال.
العرب أذكى من اليهود
تجولت مع صهري المهندس على كليات الجامعة وخاصة كلية الهندسة فرأيت العجيب من الآلات والاختراعات. سألت المهندس عن بحثه الجديد في الهندسة أجابني: هو سر ولكن لا أخفيه عنكم يا عم هو البحث عن مسام ((الزلط)) وكيف أنها تكبر وتصغر من الرشح وأراني بالفعل بعض تلك الحجارة وهي في مكان التحليل يقول المهندس إن أستاذه المشرف عليه مسرور من أبحاثه وقال له مرة: لا تظن يا بني أن اليهود يفوقونكم في الذكاء أنتم العرب أذكى منهم، ولكنكم كسالى فقد رأيت بعضكم يفر من بعض الكليات إلى دراسات أخف ولكن طلبة اليهود يبذلون جهداً عظيماً في الطلب حتى ينالوا أسمى الدرجات. وهذه شهادة من عالم أجنبي تستأهل العبرة والتقدير.
شؤون وحوادث فردية
جرت لي حادثة صغيرة لا بأس من سردها وهي أن إحدى ضروسي ثارت علي، فأبى إلا خلعها فذهبت مع ابني إلى طبيب مشهور بعد أخذ ميعاد من قبل وبعد وصولنا لديه سألنا بضعة أسئلة وملأ ورقة من الأجوبة عن مقدار السن وعن الأمراض التي اعتورتني من قبل أو العمليات التي أجريت لي وعن داء السكر والضغط ومكثنا ساعة زمنية ثم كشف عن الضرس المتآكلة بالأشعة وكان الكشف يقضي بخلع ضرسين متجاروتين فقلت: يكفي خلع الموجعة الآن فخلعها الطبيب بعد إعطائي البنج اللازم ولكنه لم ينتظر سريانه حول الضرس فتألمت لخلعها أشد التألم، ومن قبل خلعت نصف ضروسي فلم أتألم قط فهل يصدق أن يكون هكذا في أمريكا على يد نطس الأطباء ولعل الطبيب ظنني من الملونين فلم يحفل بي وواجب المهنة يقضي أن يترفع عن تلك المعرة وكلف خلع الضرس خمسة وعشرين دولاراً على أن الدولار في الولايات المتحدة يساوي الريال السعودي في قوة شراء كثير من الحاجيات ولقد تعجب أن تكون حزمة البقدونس بعشرين سنتاً أي بريال تقريباً فكيف باقي الأشياء. وهناك المعارض الكبيرة من الإبرة إلى أنواع السيارات والفلائك حتى المصاغ والمجوهرات كل شيء سعره عليه فإذا أعجبك شيء فما عليك إلا أن تأخذه بيدك إذا كان صغيراً وتشير للعامل إن كان كبيراً وتنقد ثمنه لدى الخروج وما أشبه تلك المعارض في أبنيتها في كل بلد وهي كلها شركات عالمية كبيرة قوامها من كبار اليهود وويل لمن يسرق حاجة ولو تافهة لا يؤدي ثمنها فيجازى بأشد الجزاء. ويوجد هناك أسواق بلدية حاجياتها أرخص من المعارض لكنها غير مضمونة إلا المأكولات من اللحم والفواكه والخضراوات والغريب أنك تجد في المعارض كل ما تريده من القارات الخمس من البهارات والحبوب والفواكه والمعلبات.
تعرفت بجيران ابنتي بالعمارة فعرفتني بجارتها ((ميمي)) التي جاءت لتسلم علي فأثنت عليها وقالت إنهما تتناوبان إبقاء ولديهما الصغيرين إذا ذهبتا للدراسة فكلتاهما كانت تدرس بإحدى الكليات. ولولا تلك الجارة الطيبة لما أمكنهما أن تتحصلا على التعليم وخاصة أن الخادمات أو العاملات لا تقل أجرة إحداهن في الساعة عن خمسة دولارات لقد رأت هذه الجارة مسبحة في يدي فقالت أنها رأتها في بعض أيدي العرب في المحلات فلم يحملونها؟ قلت إن هذه المسبحة لا يساوي ثمنها أكثر من دولار قالت كيف؟ قلت إنها تذكر بالله GOD في كل تسبيحة. قالت ألا تهديها لي؟ قلت هي لك فلم يكن منها إلا أن قبلتني على رأسي ويدي شاكرة وتناولتها بكل احترام وأخبرتني ابنتي فيما بعد أنها وضعتها بأعلى مكان ببهو الاستقبال. قلت في نفسي لو كان لنا مبشرون في هذه البلاد لأسلم الكثير منهم ودخل في الإسلام عنصر جديد طيب القلب قوي الإيمان.
وحادثة أخرى تدل على تعاون الزوجين في الحياة: احتجت لضرب حقنة في العضل فلم نهتد إلى ممرض أو ممرضة. فتذكرت ابنتي جارة ممرضة اسمها ماري فذهبنا إليها في شقتها فوجدناها بالشقة تلاعب طفلها البكر وعلمنا أنها تركت مهنتها بعد إنجاب الطفل وكانت من قبل موظفة لمساعدة زوجها في الدراسة حتى تخرج وتوظف وجاء دورها للإنجاب وتربية الأطفال ولم تشأ أخذ أجرة منا فشكرناها وعجبنا لهذا التعاون الذي لا مثيل له عندنا ونأمل الخير بعد تعليم البنات.
مناظر أمريكية... ثم إلى كليفلاند
كنا نخرج أمسية كل يوم إلى ريف البلد والمتنزهات لنرى هناك مراعي البقر ومداجن الفراخ ومزارع الحبوب وبساتين الفواكه ومشاتل الزهور وما أشبه بلاد الله بعضها ببعض فهذا السفح من الجبل المخضوضر وهذا الوهد الهادي ما أشبههما بجبل لبنان. وبعض البقاع تشبه الهند والسند ففي ولايات أمريكا تجمعت المدنيات الأوروبية والآسيوية والإفريقية والإسترالية كما أن بها جميع أجناس العالم.
بعد أسبوع من إقامتنا بآسيت كولج عزمنا على الرجوع إلى كليفلاند فركبت مع ابني عبد السلام حافلة لشركة (جري هاوند) (السلوقي الأرمد) وهي شركة كبرى تجوب الولايات المتحدة وكندا ولها فروع في كل بلد وحافلاتها ذات دورين ومكيفة مع وجود حمام في مؤخرها وشراب مثلج. والمسافة خمس عشرة ساعة كما ذكرنا. مررنا فيها على دساكر ومدن أهمها مدينة بتسبرغ الشهيرة بصنع الحديد والصلب والكيماويات وبها جامعة كبيرة بها بعض طلابنا السعوديين وبعد أن استرحنا بها ما يقرب من ساعة يممنا كليفلاند ووصلنا لشقتنا قرب المستشفى لنكون قرب مريضتنا هناك وحضرت فيما بعد آمال مع زوجها المهندس والثانية رضية من (توسك) بولاية أريزونا وتبعد ست ساعات بالطائرة وبتكامل هذا العدد اضطررنا لاستئجار سرر إضافية غير أن أصحاب الشقة تضايقوا منا وأنذرونا بعدم تأجيرها لنا في الشهر القادم.
أصف لك قارئي العزيز مستشفى كليفلاند للأمراض المستعصية فهو يقع في ثلاث عمارات شاهقة بثمانية أدوار وفي كل دور أجنحة متعددة لمختلف الأمراض وفيه ستمائة سرير وستمائة ممرضة ومائة وخمسون طبيباً مختصاً. ويتبع المستشفى حدائق فواحة بالأزاهير والرياحين وميدان فسيح لوقوف السيارات.
وفي اليوم المقرر للعملية ذهبنا بمريضتنا للمستشفى وبعد أن أدخلناها في غرفتها علمنا بسفر الدكتور الجراح (وكلي) إلى لندن وقيل لنا إنه ذهب إلى اجتماع لكبار الجراحين هناك وسيعود بعد ثلاثة أيام وبعد مجيئه أجريت العملية في أمعاء المريضة واستغرقت ثلاث ساعات بشرنا الدكتور بنجاحها فدعونا له بالهداية للإسلام: فهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون. وطفقت حالة المريضة تتحسن يوماً بعد يوم حتى ثلاثة أسابيع كنا خلالها نجتمع كثيراً بنزلاء المستشفى من المرضى سواء أكانوا من النساء أم الرجال ولم نر فيه عربية وكلهم أمريكيون إلا واحداً من أصل لبناني مصاباً بداء القلب كان مشتركاً في حرب فيتنام وأصيب بهذا الداء وهو يعالج على حساب وزارة الدفاع وهذه امرأة أصيبت بالسرطان وقيل لها إنها ستموت بعد شهر فعولجت وشفيت من مرضها الخطير. وهذا رجل انكسرت عظامه بصدمة في سيارة فجبرت عظامه فقام سليماً معافى بإذن الله. سألت إحدى الممرضات من الملونين والممرضات من البيض والسود وكلهن يقمن بأعمالهن خير قيام سألتها هل تشعر بنقص مع زميلاتها من البيضاوات؟ قالت لا فرق بينهما في القانون ومقدار الراتب والساعات الزائدة من العمل. قلت لها: نحن منكم وكثيراً ما سمعنا في الجرائد بالتفرقة العنصرية؟ قالت: ذلك في الولايات الجنوبية وذلك لأنها تشعر بالنقص.
سابعة مدينة كبرى
أقمت في كليفلاند ما يقرب من شهر وتكمن أهمية هذه البلد بمشتاها الشهير كما أنها مدينة صناعية بالإضافة إلى كونها ميناء بحرياً على بحيرة (ايرى) وعدد سكانها يربو على مليون نسمة وهي سابعة مدينة كبرى وبها حديقة روكفلر وحديقة الحيوانات وبرج كليفلاند ثامن برج في العالم وفيها متحف الفنون ومتحف الآثار الفريد في نوعه وفيها رأينا هيكل الديناصور من الحيوانات المنقرضة آلاف السنين وطوله يبلغ ثمانية أمتار وارتفاعه خمسة وقد وجد في ولاية كلورادو وفيها مدينة للملاهي فريدة في نوعها وأنواع ملاهيها وبها جامعة كبيرة ومراكز للرابطة العربية الإسلامية وأكثرهم من الموظفين والطلبة يجتمعون كل يوم أحد في قاعة بأحد المباني ويخطبون ويتناقشون في المشاكل الإسلامية. واجتمعنا بأعضائها وفي مقدمتهم المهندس لطفي عمرة الفلسطيني ودعانا بدارته في ضواحي المدينة وهو متزوج من امرأة سورية وله أولاد فقال إنه مهندس معاون ولم يتحصل على عمل في فلسطين فأقام في أمريكا وهو يتناول ألفي دولار شهرياً وقد اشترى هذه الدارة بمساعدة الشركة التي يعمل بها.
قلت: لم لا تصلون في يوم الجمعة بتلك القاعة؟ قال: أكثرنا موظف أو طالب أو صاحب متجر ولا يتسنى لنا الحضور يوم الجمعة غير أن قسماً منا يصلي يوم الجمعة في بناء آخر أو لدى بيوت أحد الطلبة ومعنا كثير من مسلمي الهند والباكستان وقد اشترت الرابطة عمارة كبيرة لجعلها مركزاً للصلاة والاجتماعات بمبلغ كبير جمع من أعضاء الرابطة وأخبرنا أنه يوجد في البلد مائة وخمسون أسرة تركية ومثلها يوغوسلافية ولكنهم لا يجتمعون بهم كما يوجد كثير من الملونين، مسلمون بالاسم، فقط وأشار إلى مسلمي الهند والباكستان قائلاً: إنهم يجتمعون بهم باسم الرابطة الإسلامية لا العربية. قلت له: هذا هو الصواب فلم يتأخر المسلمون إلا بانقسامهم وتفرقهم ونبذهم تعاليم دينهم و(المسلمون في تعاضدهم وتآلفهم كالجسد الواحد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). كنت اجتمع بكثير من العرب والمسلمين بمركز الرابطة للصلاة يوم الأحد وأعجبني منظر المسلمات من الهنود والباكستانيات، وهن في تمام حجابهن ما عدا الوجه واليدين، تكلمت مع واحدة منهن قائلاً إني مسرور منكن بتستركن وخاصة في الصلاة فلم لا ترشدن نساء العرب وهن كما ترين كاسيات عاريات؟ قالت: حسبهن أن يأتين للتعاليم الدينية وإقامة الصلوات فلعل الله أن يهديهن يوماً ما. الغريب من أفراد مسلمي الهند والباكستان أن كثيراً منهم لا يأكلون لحم الأسواق بل يشترون شاة حية ويذبحونها على اسم الله ويقتسمون اللحم ويأكلونه عدة أيام ونحن نأكل من تلك اللحوم المعروضة والدجاج المسلوخ بناء على فتوى العلماء لقوله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ (المائدة: الآية 5) ولكن كيف بنا من قوله سبحانه وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ (الأنعام: الآية 121). عفا الله عن الجميع.
صليت إحدى الجمع بمنزل أحد الطلبة الطرابلسيين القريب من شقتنا واجتمع لفيف من إخواننا العرب. خطبت لهم وصليت بهم وكان في جملة المصلين الأستاذ عبد الرؤوف المصري مدير المركز الإسلامي بنيويورك وله أولاد يتعلمون في الجامعة. كنا نخرج في أماسي كل يوم إلى بعض الأماكن تارة على ضفاف بحيرة (أيرى) أو المنتزه العمومي أو لمدينة الملاهي مع الأولاد وسرني أن رأيت الملونين هم أحسن حالاً من زملائهم بنيويورك فمنهم كبار العمال في مصانع الصلب والحديد ويتقاضون أجوراً عالية ويركبون أفخم السيارات ويسكنون دارات جميلة على ضفاف البحيرة ولهم شارع خاص كما أن عمدة البلد منهم وحاكم المدينة يحسب لهم ألف حساب. ما أدهشني في كليفلاند أن السيد عمر مهنى الطرابلسي الذي يدرس الماجستير في الاقتصاد وأرانا قطعة أرض خالية بجانب الجامعة وقال إنه كان بمكانها عمارة عالية ونقلت تلك العمارة من أساساتها إلى مكان آخر وارانا تلك العمارة المنقولة وأن نقل مثل تلك العمارة لمدهش حقاً ولكن العلم قام بالمذهلات (1) .
صليت آخر يوم أحد بقاعة مركز الرابطة فأعجبت بخطيب شاب إيراني خطب بعد الصلاة باللغة الإنكليزية ندد فيها بالحكومات الإسلامية قائلاً بصراحة إن الشريعة المحمدية غير قائمة إلا في المملكة العربية السعودية فقط وفي محاكمها تجري أحكام الإسلام رأيت بالقاعة رجلاً هرماً لبنانياً شارف المائة سنة لم يصل معنا فسألت عنه فقيل لي إنه لا يحسن قراءة القرآن وقد جاء صغيراً من لبنان ونشأ بأمريكا وهو يأتي بحكم عاطفته الإسلامية ويتبرع من ماله لمركز الجامعة والتقيت هناك بأحد الأساتذة الكبار من المسلمين قال كيف نرقى ونحن لا نزال نعتقد بخرافة وجود الجن والشياطين والسحر والحسد وأنواع البدع والدجل والاستعانة بالأولياء وتصديق الدجالين؟.
قلت له: على رسلك يا أستاذ فيما تقول... إن وجود الجن والشياطين والسحر والحسد ثابت بالقرآن الكريم وحسبك أن تقرأ سورتي المعوذتين أما ما ذكرته عن البدع والاستعانة بغير الله فهو شرك محض، ولا يجوز بحال. اندهش الرجل ولكن أنى له أن يقرأ القرآن بتبصر أو هو من القارئين الذين لا يتجاوز حناجرهم كما قال الرسول الكريم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية أو كما قال... وسألني بعض السذج: ألا يجوز يا أستاذ أن نقدم صلاة الجمعة عن وقتها حيث لا يؤذن لنا بالخروج من أعمالنا في وقتنا قلت لهم: لا يجوز أبداً... إلا بعد وقت الزوال.
عيد الجمهورية
وصادف يوم الرابع من يوليه عيد الجمهورية وأردنا أن نشترك في الحفلات التي تقام في أنحاء الولايات المتحدة ثلاثة أيام ولكن في تلك الليلة هبت عاصفة هوجاء ومطر غزير قلعا الأشجار الكبيرة بالمئات وهدما بعض البيوت وابتلعت بحيرة ((ايرى)) بعض الفلائك وسقطت بعض الطائرات الصغيرة وكان يوم شؤم على الولاية ومات كثير من الناس وفي اليوم الثاني خرج الحرس الوطني بعماله ومهندسيه وسياراته الضخمة لإصلاح خطوط الكهرباء ولفتح الشوارع التي تراكمت عليها الأشجار كما أخرجت جثث الموتى من البيوت لدفنها.
والغريب أن مركز الأنواء الجوية لم يخبر عن حدوث تلك العاصفة الجبارة وصح المثل إذا نزل القضاء عمى البصر ولا حول ولا قوة إلا بالله وبعد أن أبلت مريضتنا وتماثلت للشفاء وددت أن أرى شلالات ((نياغرا)).
فإلى الشلالات في المقال القادم إن شاء الله.
شلالات نياغرا:
شلالات نياغرا من أهم معالم الولايات المتحدة، فبعد أن اطمأننا إلى مريضتنا وتماثلها للشفاء، قصدت مع ابني: القائد عبد العزيز وعبد السلام السفر إلى هذه الشلالات على سيارتنا (الفولكس واجن) فوصلنا بعد ثلاث ساعات إلى بلدة (بفالو) التي تبعد عن الشلالات بثلاثة وعشرين ميلاً وفيها يتقاطع القسم الأمريكي عن القسم الكندي، فدخلنا القسم الكندي غلطاً فطلبت منا جوازات السفر لوضع السمات اللازمة عليها فعلمنا أننا دخلنا كندا. وكان مأمور الجوازات لطيفاً معنا فأفهمنا أن نأخذ الطريق الأمريكي، فطفقنا نسير بدون علم حتى اهتدينا للطريق المقصود فأشار علينا بعض المارة أن نراجع مكتب السياحة، فقيل لنا أن نترك سيارتنا ونمتطي من سياراتهم مع الدليل الذي هو السائق نفسه، وبعد نصف ساعة وصلنا إلى الشلالات، ولقد دهشت لمنظر تلك الشلالات التي ينحدر الماء منها من علو 182 قدماً فيحدث هديراً رتيباً. وحول تلك الشلالات حدائق ذات بهجة وعشرات الألوف من الزوار.. ومن تلك الشلالات شلالات حدوة الحصان، واندفاع المياه منها على علو 167 قدماً.
ويقول العلماء: إن مكان الشلالات الأول كان على بعد سبعة أميال عن الموقع الحالي منذ خمسين ألف عام، وقال لنا الدليل: إنه يجيء هذه الشلالات يومياً ما بين عشرين وثلاثين ألف رجل وامرأة وطفل.
ومقابل هذه الشلالات أي على الضفة المقابلة الجانب الكندي، وعلى كلتا ضفتيه نصبت الملاهي المختلفة كالأبراج الشاهقة وطائرات الهيلوكبتر والزوارق الجميلة. وأهم ما في هذه الشلالات محطة الكهرباء العظيمة البالغ قوتها ألوف الكيلوات، ومبناها العجيب ذو الدورين وفيه صورة مصغرة لمحطة الكهرباء من البداية للنهاية.
ومصمم بناء الشلالات مهندس يهودي وما أكثر ما لليهود من الأعمال في أمريكا.
وبعد أن تجولنا مقدار ساعتين جلسنا في أحد أركان الحدائق ذات الأزاهير الفواحة والأشجار الباسقة. جلسنا نتغدى بشطائر أتينا بها معنا، مع أن المآكل موجودة بالثمن الغالي هناك واكتفينا بتناول قوارير من البيبسي كولا. وأمام تلك المناظر تذكرنا قول الشاعر:
يا صاحبيَّ تقصيا نظريكما
تريا وجوه الأرض كيف تصور
تريا نهاراً مشمساً قد زانه
زهر الربى فكأنما هو مقمر
إلى واشنطن العاصمة:
ولما آذنت الشمس بالمغيب رجعنا لبلدة (بفالو) ومنها رجع الابن عبد العزيز إلى بلدة كليفلاند، ليكون بجانب والدته، وقطعنا أنا وابني عبد السلام تذكرتين إلى العاصمة (واشنطن) بسيارات (السلوقي الأرمد)، وقضينا أكثر الليل في الحافلة، ووصلنا العاصمة في الصباح. وبعد أن فطرنا فطوراً خفيفاً سألنا عن مكتب السياحة لنزور معالمها المشهورة. وكان الدليل هنا أيضاً السائق ويسمونه (كاند) وأظنها كلمة عربية لأنهم لا ينطقون القاف إلا كافاً فارسية، فشاهدنا مباني الوزارات المختلفة ومبنى مجلس الشيوخ والمكتبة العامة والمتحف ومباني مقابر رؤساء أمريكا السابقين وتمثال إبراهام لنكولن محرر العبيد، وتمثال واشنطن محرر أمريكا. ولم نر تمثالاً لبنيامين الذي حذر أمريكا من تغلب اليهود وسلطتهم بعد خمسين سنة وقد مضت الخمسون سنة وصدقت فراسته.. وقد حاول اليهود إخفاء هذا البند من مذكراته. هذا وقد عجبنا من تلك المقابر الشاسعة وأهم ما فيها وبقربها مبنى الجندي المجهول الذي تحرسه دورية ليل نهار، وزرنا البيت الأبيض ـ القسم الخاص بالزائرين ولم نجد به أبهة قصور الملك مثل قصر بكنكهام في لندن، واللوفر في باريس، وقصر الحمراء في غرناطة، وقصور الملوك في دلهي عاصمة الهند. ورجعنا من تجوالنا وتعشينا في بعض مطاعم البلد في (مطعم: اخدم نفسك بنفسك) حيث هي أرخص من المطاعم التي فيها الخدم (الجرسونات) لأن أجور العمال مرتفعة. فأجرة العامل يومياً لا تقل عن عشرين دولاراً، وبعض الأعمال يكون الأجر فيه لساعة واحدة خمسة دولارات.
وبعد أن طفنا ساعتين في أسواق واشنطون يممنا وجهتنا لنيويورك لنتوجه منها للقاهرة، وأمضينا باقي الليل أيضاً في الحافلة وعليه لم ننزل في فندق.
في نيويورك:
ولما وصلنا نيويورك، كلمنا صهرنا السيد عبيد ترجمان ليأتي إلينا في المحطة ويأخذنا لدارته في (ايست أورنج بولاية نيوجرسي) فبعث لنا ابنته الكبرى بسيارته فأخذتنا لدارتهم وسرنا مقدار ساعة أو أكثر وطلبنا من الصهر أن يحجز لنا في طائرة شركة تي دبليو (TWA) العالمية، فجاءنا الرد بأن لا مكان لنا إلا بعد أسبوع، فراجعنا شركة أخرى فأفادتنا بأن ذلك غير ممكن إلا في طائرة دبليو المذكورة بسبب التخفيض الحاصل، وبعد مراجعات ورجاء حجزوا لي مكاناً واحداً بعد يومين، وفي خلال ذينك اليومين تجولنا في نيويورك فصعدنا لعمارة (استيت امباير) أعلى عمارة بأمريكا وتمتلكها شركة يهودية، وارتفاعها 1472 قدماً وتضم 26 ألف شخص يعملون بها، ومائتي خادم وعشرات المصاعد. والبناء من داخله مبنى من المرمر الملون، ويزورها كل يوم 25 ألف شخص في المتوسط، وزرنا مبنى الأمم المتحدة وجزيرة الفنانين.
ونيويورك أكبر بلدة في العالم بعد طوكيو عاصمة اليابان، وبها أكبر ميناء بحري وأكبر مطار جوي.
من نتائج الرحلة:
وأخيراً خرجنا من جولتنا في خمس ولايات من إحدى وخمسين ولاية بما يلي:
1 ـ إن الطب في أمريكا متفوق على الطب في أوروبا كما شاهدناه في مستشفى (كليفلاند) للأمراض المستعصية.
2 ـ إن الحالات الجنسية متهورة في شباب وفتيات الجامعات والسكان 35% و 50% بموجب تقرير كنزي سنة 1948 مع العلم بأن أي علاقة غير شرعية غير معترف بها قانوناً وتحارب من جانب الحكومة وكثير من الناس يحاربونها، بيد أنهم لا يستطيعون الوقوف دونها.
3 ـ إن المنظمات اليهودية لا تقف في نشاطها ضد القضية العربية عند حد، فهي تستخدم الطرق الدبلوماسية والاجتماعات الجماهيرية والإذاعة والصحافة، وحسبنا أن نعلم أن في أمريكا 400 منظمة سياسية ودينية واجتماعية وثقافية يهودية.
4 ـ إن التعليم الحديث في أوروبا وأمريكا اعتنى بتثقيف عقل الطالب وتقويم أخلاقه وإشعال وطنيته، ولكنه جر على كثير من طلاب الدول العربية إماتة شعورهم الديني، فكان هذا التعليم وبالاً عليهم والعياذ بالله.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :782  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 32 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الثامن - في مرآة الشعر العربي - قصائد ألقيت في حفل التكريم: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج