تاريخنا القريب |
ـ 5 ـ |
مأساة المدينة صفحات مطوية |
في عام 1339هـ وقعت بالمدينة حادثة ألا وهي ((حادث انفجار بالقلعة)) وهي قلعة الباب الشامي ((التي تهدمت وأدخل في التوسعة بعضها ومنح بعضها)) وخلاصة الحادث أنه كان يوجد بمخازن القلعة ذخيرة من السلاح والذخيرة ((بنادق ورصاص وقنابل)) اختزنها “فخري باشا” لقتال الشريف حسين ولما لم يجر أي قتال بين الترك والعرب في الحجاز فقد بقيت الذخيرة كما هي في مخازنها، وقدمنا بأن رواتب الجنود والضباط لم تكن لتصرف شهراً بشهر مما أدى لاختلاس قسم من البنادق والذخيرة من تلك المخازن وخوفاً من افتضاح الأمر أخيراً عمد أحد الآثمين إلى حرق المخزن المختلس فما كان إلا انفجار القنابل المجاورة فكان انفجاراً مروعاً زلزلت له المدينة وانخلعت قلوب السكان وخرج الناس من بيوتهم حفايا عرايا لا يدرون عن ذلك الحادث المروع المرهب وقد تهدمت أكثر البيوت المجاورة للقلعة ومات كثير من السكان تحت الأنقاض وأخرج شيخ السادة علوي بافقيه من تحت الردم وبه رمق من الحياة، وكان الانفجار في قوته بأن تطايرت قطع الحديد الثقيلة إلى مسافات بعيدة وكان لهب الدخان يعلو إلى مئات الأمتار وحصل اللطف من الله سبحانه بأن لم يمتد الانفجار إلى باقي المخازن المليئة بالقنابل وقد جاءت لجنة من مكة للتحقيق في الحادث فلم يعلم الفاعل الحقيقي لانعدام وسائل المباحث وكانت النتيجة إبدال جنود الحرس بغيرهم مما أدى إلى جرأة جناة آخرين بتفجيرهم مخزناً بالمحطة فيما بعد غير أن الانفجار كان بعيداً عن السكان.. وهكذا كان أهل المدينة لا يخرجون من مأساة إلا إلى مأساة. |
سبق أن ذكرت أننا انتقلنا بالمدرسة إلى الصف الراقي (الإعدادي) بعد نجاحنا في القسم التحضيري وتدرجنا من الصف الأول إلى الثاني فالثالث وكنت أنا وزملائي (السيد أحمد العربي والسيد عثمان حافظ والسيد محمد صقر نتلقى دروساً في العطلة لدى شيخنا (مدير المعارف) عبد القادر الشلبي في داره بمدرسة الجواهري بحارة الأغوات. |
وفي عام 1341هـ كان السيد أحمد الفيض آبادي يشجعنا على تلقي العلوم ويعطف علي وعلى أخي عبد الحميد عنبر وعطفه على عبد الحميد أكثر، وفي رمضان من ذلك العام صليت بفضيلة السيد صلاة التهجد بالحرم النبوي في العشر الأواخر وكنت أختم القرآن كل ثلاثة أيام مما حببه إلي كثيراً فرجوته أن يساعدني على السفر إلى الهند لتلقي العلوم هناك فوعدني خيراً كما أني اشتقت لأداء فريضة الحج في تلك السنة فبعثني رحمه الله أنا وأخي عبد الحميد مع أحد الإخوان إلى جدة بطريق ينبع البحر فخرجنا من المدينة في أوائل شوال ووجهتنا ينبع وفي اليوم الثاني وصلنا لمحطة بئر الراحة (الروحاء) فعلمنا بأن الطريق مسدود (مقعود) بقبيلة الأحامدة التي شكلت منها ((الدولة الأحمدية)) وفرضت أتاوات (ضرائب) على قوافل الحجاج والزوار غير النهب والسلب في رابعة النهار فمكثنا أسبوعاً في مخابرات بين مقوم القافلة وبينهم، وأخيراً دفعنا عن كل رأس (خمسة ريالات مجيدية) فأذن لنا بالمسير وما إن وصلنا قرب المسيجيد حتى انهال الرصاص على القافلة من الجبل فجفلت الجمال وطاحت الشقادف من ظهورها وساد الهرج والمرج بين المسافرين ولما استعلمنا عن الخبر؟.. قيل لنا إن أحد أفراد القبيلة شذ عنها فأرضيناه بنفحة خاصة. وفي اليوم الثاني مررنا بسلام حتى وصلنا لبلدة ينبع بعد اثني عشر يوماً وكانت الباخرة الذاهبة إلى جدة قد فاتتنا فانتظرنا أياماً في ينبع ثم ركبنا في الوابور الخديوي إلى جدة ومنها إلى مكة المكرمة وكان الجو في مكة يختلف عن المدينة من حيث الحكم. ففي جدة ومكة أحكام (الملك الحسين) الصارمة والرهبة الشاملة والطريق من جدة إلى مكة آمن مطمئن ليس فيه أي اثر للنهب أو القتل.. والملك ساهر على مصالح الحجاج يتخفى ليلاً في برنس حاج ويدور على الحارات والمحلات، فيرى بنفسه ما يدور في البلد ويقف على نظافة البلد ويلبي شكوى الحجاج، وبالرغم من حرارة الجو وشدة القيظ فلم يفكر قط في إدخال الكهرباء والسيارات. ففي الكهرباء إسراف وتبذير وخطر على العيون وفي السيارات نكبة على الجمال وتعطيل مائة صنعة يتعيش منها الألوف من الناس. كما لم يفكر جلالته أن يصطاف بالطائف لئلا ينزح أهل مكة إليها ودوائر الحكومة وفي ذلك ما فيه من الإسراف وبالرغم أنه عاش السنين الطويلة في دار الخلافة (استانبول) فهو يجلس في مخلوانه (المقصورة الملكية) بالقصر في الغزة يتروح بمروحة من جريد النخل يدير أمور مملكة من صغيرها إلى كبيرها وإن كان هناك مجلس نظار (مجلس الوزراء) غير أنه هو الكل في الكل حتى أنه كان يحرر مقالات جريدة (القبلة) الافتتاحية وكثيراً ما كان يغمز الحليفة (بريطانيا العظمى) لأنها لم توفِ بعهودها معه وكثيراً ما تصدى لنصرة فلسطين، وكان كريماً مع زعماء العرب وأعيانها في مصر وسورية وفلسطين ولبنان فكنت ترى منح الوسامات والنياشين على مشائخ العربان والعلماء والزعماء الموالين. وإليك مثالاً: |
وجه وسام الاستقلال العالي الشأن من الدرجة الأولى إلى سماحة السيد توفيق البكري شيخ مشايخ الصوفية ونقيب الأشراف بمصر وفي عدد آخر وجه وسام النهضة من الدرجة الأولى إلى الأمير نوري الشعلان شيخ مشايخ الدولة بالشمال وهكذا. |
وسمع جلالته مرة بأن أحد المدنيين خطب في أحد جوامع الهند فغمز في خطبته الشريف الحسين إرضاء لنظار المسجد لأن مسلمي الهند يكرهون الحسين وأولاده ويعدونهم بغاة على دولة الخلافة فما كان إلا أن رأينا افتتاحية (القبلة) بالحروف الثلث: ومن أهل المدينة مردوا على النفاق وفي المقال سب وتشنيع ثم صدور الأمر بمنع سفر أهل المدينة إلا بإذن خاص من جلالته، وقد كان لهذا المنع أثر سيىء في قلوب أهل المدينة الذين كانوا يسافرون بالمئات بعد الموسم كما ذكرنا وكان أثره الخاص في أنا حيث كنت أزمعت على السفر إلى الهند فبعد أن حججت في هذه السنة رجعت إلى مكة ومكثت لدى بيت المرحوم زوج الخالة ((المنشى إحسان الله)) مأمور ترحيل الحجاج بدار الاعتماد البريطاني (وقنصل الهند فيما بعد) وهي دعوى تحتاج إلى إثبات كبير ولله در من قال: |
والدعاوى ما لم يقيموا عليها |
بينات أبناؤها أدعياء |
|
وما كنت بمدع لمعرفة نظرية النسبية لا فيما مضى ولا فيما حضر.. |
ويسرد أسماء يحفظها حفظ المسيحيين لها.. كاهن الغابة؟ شماس الكنيسة؟.. الخ.. ليدلل لنا على عمق وسعة محيط اطلاعه العالمي.. ويسمي نفسه عبقرياً.. ولئن فعل ذلك فقد سمى شيخه أبا خلدون من قبل عبقرياً في النثر والنظم والخطابة. |
وكان فضيلة السيد أحمد الفيض آبادي زودني بكتاب لشركة بواخر الهند باعتماد ترحيل على إحدى بواخرها ولكن المنع المذكور لسفر الأهالي حجزني بجدة أنا وغيري من المدنيين. أذكر من رفاقي الأخ عبد الرحمن بخاري المدني والمرحوم الشاعر الشيخ عبد الحق رفاقت علي والأخ عبد الكريم بخاري وكلنا وجهتنا للهند فمكثنا مقدار شهر بجدة رجاء أن يفسح لنا ولكن بدون جدوى، لقد كانت سياسة الحسين معقدة بين بريطانيا وبينه فقد كان ممتنعاً من توقيع المعاهدة غير أنه لم يقطع الأمل منها وكان الأمير عبد الله توجه إلى الأردن ونصب أميراً فيها كما ذهب الأمير فيصل إلى العراق ونصب ملكاً بعد فقده عرش سورية. |
وكان الملك حسين تروقه تلك القصائد الرنانة التي يمتدح بها من شعراء سورية ولبنان ويمنونه بالخلافة وأنه أحق بها بعدما تقوضت في تركيا على يد كمال أتاتورك وكان البريد يحمل إليه مئات الرسائل من العلماء والأعيان وبعض الزعماء بدعوتهم لجلالته لمبايعته خليفة للمسلمين أذكر مطلع قصيدة: |
الله أكبر يا صمصامة العرب |
بما لقيت وما تلقاه من تعب
(1)
|
|
كل تلك المدائح والدعوات أثرت في نفس (الملك) ولامست شغاف قلبه المتعطش إلى دولة عربية كبيرة تمتد من البحر الأحمر غرباً والخليج شرقاً وجبال طوروس شمالاً واليمن جنوباً. |
غير أن جلالته لم يسلك مسالك الحصول على أمنيته الغالية، والحقيقة أنه كان كبير النفس طموحاً عفيفاً شريفاً لا يثق إلا بنفسه ومن كان يمالئه في آرائه ومعتقداته تعباً بقيامه بشئون مملكته: |
وإذا كانت النفوس كبارا |
تعبت في مرادها الأجسام |
|
أعلن الثورة على الترك وسار في ركاب الحلفاء على أمل الحصول لأمنيته ومبتغاه، وكان الزمن ملائماً لهذه الثورة بعد أن شنق جمال السفاح أحرار العرب في سورية ولبنان فتنفس العرب بثورته المجيدة وتسلل إليه الكثير من ألمع رجالاتهم وقادتهم ولكنه لم يقدرهم حق قدرهم أو ينط بهم إدارة أي عمل كبير. |
لنرجع إلى موضوع سفرنا من جدة فقد علمنا بأن الكثير من المطوفين يسافرون بصفة حجاج بتذاكر الأموات منهم فتحصلنا على تذاكر من هذا النوع واضطررنا أنا والشيخ عبد الحق، والشيخ عبد الكريم والشيخ عبد الرحمن بخاري أن نلبس ثياب الحجاج وهذا لم يكن خافياً على مأمور جوازات جدة الذي كان من أهل المدينة ((السيد منتظر طربزوني)) عافاه الله، وركبنا مع الحجاج إلى كراتشي ومنها بالقطار إلى مدينة سهارنبور التي فيها مدرسة مظاهر العلوم العالية وانتظمت أنا في سلك طلابها بالقسم العالي بعد أن أجري لي اختبار بسيط فتوجهت لدروسي فيها ولم تنقض سنة واحدة حتى سمعنا بدخول الإخوان لبلدة الطائف ثم دخولهم لمكة المكرمة بقيادة خالد بن لؤي ثم وصول جلالة الملك الراحل (عبد العزيز آل سعود رحمه الله) من الرياض وتنازل الحسين لابنه (الملك علي) وبقائه بجدة لاسترداد مكة ودحر الإخوان عنها، ولكن الملك عبد العزيز كان آت بقوة كبيرة من نجد وخيم في الرغامة ومنها بدأت المناوشات بدون جدوى وأبعد الشريف الحسين إلى قبرص حتى وافته المنية ودفن بالقدس الشريف وبعد أن يئس الملك علي من استرداد أي شبر سلم ووقع الصلح المعلوم وغادر جدة بأهله ورجاله وما بقي لديه من مال إلى بغداد ضيفاً على أخيه الملك فيصل ملك العراق وبتسليم جدة تم للملك عبد العزيز الاستيلاء على أنحاء الحجاز فسلمت المدينة في آخر جمادى الأولى سنة 1344هـ بعد حصار طويل استمر أكثر من سنة ذاق فيه أهل المدينة مرارة الجوع والهلع والخوف طيلة مدة الحرب. |
وفي آخر هذه السنة كنت انتهيت من دراستي فأزمعت العودة إلى الوطن الغالي فتوجهت من بومباي إلى جدة في أواخر ذي القعدة سنة 1344 واشتركت في حج تلك السنة مع عمي الدكتور عبد الرزاق النقشبندي مدير مستشفى كمران الصحي رحمه الله، وشاهدت حادثة المحمل يوم عيد الأضحى بمنى وقد لطف الله بالحجاج عما لا تحمد عقباه بفضل سياسة المليك. |
وبعد انقضاء ذي الحجة رجعنا إلى المدينة لم يمض على تسليمها ستة أشهر. وسمعنا بقصة الحصار واختفاء الأرزاق من الأسواق لانقطاع الطرق وعدم التسليم بناء على أوامر الملك علي وكيف قاسى أهل المدينة أنواع العذاب والمجاعة. |
|