شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
تاريخنا القريب
ـ 4 ـ
المدينةّ المنورة (1)
من ذاكرتي قبل نصف قرن
ازدهرت المدينة وكثر عدد سكانها، واتسعت تجارتها، وكثر عمرانها بعد وصول سكة حديد الحجاز من دمشق إلى المدينة، وكان ذلك من أكبر أعمال السلطان عبد الحميد العثماني، كما ساهم فيه الكثير من المسلمين. وأعظم أعمال التمديد قامت على سواعد عشرة آلاف جندي وبفضل هذا الاتصال بين الأقطار العربية والإسلامية كثر المهاجرون من كل قطر وجلهم كان من روسيا والتركستان والمغرب. وبديهي أن يرتفع ثمن العقار (2) وكان القطار يأتي محملاً من دمشق بأنواع البضائع من أدوات البناء ومكائن سحب الماء والخردوات المختلفة والأقمشة النفيسة إلى لذيذ الفواكه حتى الخضروات، وأصبحت المدينة موسماً طول أيام السنة تبدأ من شهر ربيع الأول ولا تهدأ إلا في شهر جمادى الأولى والثانية وكانت حركة مستمرة من سنة 1327 حتى آخر 1333هـ.
(حالة السكان)
كان أكثر أهل المدينة من الأفندية والأعيان لهم مرتبات من خزينة الدولة وجرايات (3) وترب سنوية (4) تفي بلوازم معايشهم، وحسبك أنه كان للحرم النبوي أكثر من ثلاثمائة إمام وخطيب ومثلهم من المؤذنين وخدام الحرم والحجرة المطهرة والبعض الآخر له تقرير الحجاج الوافدين من الأقطار الإسلامية، ففلان له تقرير الترك وعلان له تقرير الهند، وهكذا لهم رزق يفيض عليهم بلا حساب (5) ويطلق على أصحاب التقارير (الأدلاء). لذا لم يلتفت أحد منهم لبعث أبنائه إلى الأزهر أو الجامعات لتلقي العلوم والفنون كالطب والهندسة والحقوق والزراعة ومختلف الصنائع الحرة، وكان المهاجرون هم الذين يزاولون مهنة البناء والتجارة والخياطة وغيرها. أما الزراعة فكانت وقفاً على النخاولة (6) وبعض البدو من القرافة والسرانية، وأما العلماء من المجاورين فكانوا يلقون الدروس بالمسجد النبوي أذكر ممن أدركت منهم العلامة السيد حسن أحمد المدني الزعيم الإسلامي المشهور (7) والشيخ محمد إسحاق الكشميري والشيخ عبد الباقي اللكنوي وشيخنا الشيخ عبد الحليم الهندي والسيد جعفر الكتاني المغربي وشيخنا الشريف محمد الحرير الشيخ حمدان الريسي والشيخ عمر حمدان التونسي والشيخ محمد الحبيب التونسي والشيخ محمد الطيب الأنصاري والشيخ محمد الأخميمي والسيد مصطفى صقر القناوي والسيد يس أحمد الخياري وشيخنا السيد أحمد صقر والسيد محمد صقر والملا صقر البخاري والملا محمد يولداش البخاري والشيخ الفاهاشم والشيخ سعيد التكروري وشيخنا الشيخ عبد القادر الشلبي الطرابلس والشيخ محمد علي التركي والشيخ محمد الخضر الشنقيطي وشيخنا ومربينا السيد أحمد الفيض آبادي مؤسس مدرسة العلوم الشرعية.
ومن أهل المدينة العلامة السيد أحمد البرزنجي والسيد عبد المحسن أسعد والسيد جعفر هاشم والشيخ مأمون البري والشيخ إبراهيم البري والشيخ حسن أزميرلي والأديب الشيخ إبراهيم أسكوبي والأديب الشيخ عبد الجليل برادة والسيد عباس رضوان وشيخنا الشيخ ماجد البري وغيرهم ممن لا أحصي عددهم غفر الله لهم ورحمهم.
وهؤلاء العلماء الأجلة كانوا يلقون الدروس المختلفة من التفسير والقراءات والحديث والفقه والأصول والصرف والنحو والبلاغة، غير أنها كانت بغير نظام مدون أو إدارة مسؤولة أو مراقبة أو اختبارات منظمة، وكان الكثير من العامة يشترك في الدروس للاستماع والتبرك فقط، لذا لم تأت بالثمار المرجوة حيث كان الطلاب يعدون بالألوف وأكثرهم من المجاورين سكان الأربطة (8) والمدارس. ومدارس الحكومة لم تتجاوز ابتدائية وواحدة إعدادية وواحدة دار معلمين أولية مع العلم بأن عدد سكان المدينة تجاوز الثمانية آلاف بموجب إحصاء 1334هـ. أما الكتاتيب (9) فكانت منتشرة منها أربعة بالمسجد النبوي وعشرات بالمحلات وهذه الكتاتيب كانت مقصورة على تعليم الهجاء وسور من القرآن والقليل من حفظة القرآن الكريم ولا غرو أن السبب في تأخر التعليم عدم اهتمام الحكومة العثمانية من جهة وعدم تقدير قيمة التعليم من جانب أهل المدينة، فكثيراً ما كانت الحكومة تطلب بعثة من الطلاب لتعليمها على نفقتها في سورية أو استانبول فلم يتقدم أحد إلا النزر القليل، أذكر على سبيل المثال الدكتور رفاقت علي الهندي الذي تعلم بالآستانة والسيد جميل أحمد الأخ الأصغر للسيد محمود أحمد وتوفي وهو طالب وأذكر أستاذنا السيد حسين طه وأخاه السيد محمد علي طه اللذين بعثهما والدهما لسورية للتعليم في المدرسة الثانوية السلطانية، وعلى كل فقد كان أهل المدينة يتخوفون من التعليم العالي خوفاً من الجندية وحمل السلاح، وكانت الحكومة أعفت سكان الحرمين من الجندية بما فيهم البادية، فكانت البادية أشد جهلاً وتمرداً فلم تشأ الدولة تربيتهم والضغط عليهم حتى أصبحوا يقطعون طريق الحاج ويقتلون الحاج لسلب ماله في وضح النهار وأصبح الحاج في تلك الأيام كراكب البحر (الذاهب للحج مفقود والسالم مولود).
ولم يقتصر تمرد البدو على الحجاج والزوار بل تعدى إلى سكان المدينة فلو ابتعد أحد خارج السور كان عرضة للسلب (التشليح) وربما للقتل أيضاً، وإذا اعتصم أحد من المجرمين لدى أحد مشايخ البدو لم يكن للدولة سبيل للقبض عليه. وهكذا لم يكن الأمن مستتباً بالمدينة وأكثر الحجاج مرحمة كان فريق السودان (التكارنة) فكان البدوي إذا ظفر بأحدهم لا يقتله لأنه لا مال عنده وإنما يبيعه بخمسين ريالاً ولا يزال بعض هؤلاء المستعبدين (10) باقياً منهم اليوم بعد أن شاخوا بالمدينة.
وبالرغم من كل ذلك فقد كان الرخاء سائداً في جميع وسائل العيش والغذاء وكان (المجيدي) الريال التركي والريال الفرنسي والروبية الهندية تقضي لوازم أسرة كبيرة من جميع الحاجات حتى الفاكهة، ولو سألت أحد المعمرين لقال لك: (رحم الله أيام زمان كان (الطلي) الخروف المتوسط بريالين وكوز السمن (12 أقَّة) بريالين وكيس الأرز المزة بخمس روبيات وكيس الحنطة الجراية المصرية بمجيدين وراس السكر أبو لمعتين (5 أقات) بنصف مجيدي ومجلاد التمر الحلوة (20 أقَّة) بريال ورأس الجبن (2 أقَّة) بقرشين صاغ. ورحم الله أسعد عباس مطرب مشهور) والبناني والدسوقي والنعمان (كلهم مطربون) القيل والأفراح والأيام الملاح الله يساعدكم على زمانكم).
صح ما يقوله هؤلاء المعمرون فلقد فتحت عيني وأقَّة اللحم بقرشين وأقة السمن بقرشين ومثله أو اقل منه السكر والجبن والفاكهة مثل العنب والتين والخوخ، وأذكر أن والدي كان يعطيني قرشاً للفطور والغداء، فأفطر لدى (أبوي الماس) فول وسمن ونصف رغيف بهللة ونصف (القرش أربع هلللات) وأتغدى بمثله شريك وحلاوة أو جبنة وتبقى هللة للحلاوة ونأخذ بها ست قطع كبيرة أو ست حبات (مقلي) وبالجملة فقد كانت سنو الوابور (القطار) سني خير وبركة ورخاء على أهل المدينة، ولذا كانوا منهمكين في لذائذ الحياة فهناك (القيلات) (11) والأسفار إلى الآستانة والأناضول ومصر وسورية والهند والصين والتركستان، يسافر الفرد إلى إحدى هذه الجهات فيأتي محملاً بالتحف والهدايا وحج البدل (12) فيكفيه للصرف بقية أيام السنة بدون جهد وعناء، فإذا جاء شهر الحج خرج الألوف بقصد الحج في جماعات على ركاب وخيل وحمير كل جماعة تنسب لشيخ يسمى (شيخ) الركب كركب الشيخ زاهد وركب الشيخ العينوسة وركب الداغستاني وركب البناني، ومع كل ركب الحادي (المنشد) يحدو لهم في المسير لدى خروج الركب من المدينة، ولدى وصوله إلى مكة ولدى عودته ويصحب هذا الركب كثير من الشباب (السرارة) وهم ممن يحجون لأول مرة ويحتفل بهم لدى خروجهم وغيابهم، وكثيراً ما كان حجاج الركب من أهل المدينة يحملون السلاح خوفاً من البدو، وقد لا يتورع بعضهم من إصابة البدوي إذا حصلت مناوشات بينهم في الطريق. وكان الحج لا يخلو من متعة، ثم يأتي شهر رجب شهر الزيارة إلى المدينة فيأتي من أطراف الحجاز ومن الطائف ومكة خلق كثير وخاصة ركب المكيين الذي يشبه ركب المدينة يأتون جماعات على ركاب وخيل وحمير أيضاً ومع كل جماعة الحادي (المنشد)، ويجتمع هؤلاء الزوار مع الأهلين في الصعود إلى ضريح سيد الشهداء حمزة رضي الله عنه، وكانت الحكومة التركية تحتفل به رسمياً فيخرج فوج من الجنود بموسيقاه وأفراد الشرطة وينصب سرادق لمحافظ المدينة (الباشا) وغيره من مديري المصالح ويخرج أهل المدينة إلى بيوت خاصة بهم هناك وتنصب الخيام كخيام يوم عرفة أو أيام منى، وتقام الزينات وتطلق الصواريخ وتقام الولائم والموالد والإذكار (13) والسمر بالليل وقد يجري من الموبقات من بعض من لا خلاق لهم وتوفى النذور من بعض فاسدي العقيدة (14) ويمتلىء قبر الشهيد (الضريح) بالشموع والدراهم من ذهب وفضة يأخذها سادن التربة كائناً من كان.
وهناك أضرحة كثيرة كضريح آل البيت النبوي الذي يمتلىء في الموسم من الذهب والفضة والعطور والنذور وغيره من أضرحة آل البيت والصحابة.
وفي شهر رمضان المبارك يحتفل أهل المدينة بهذا الشهر ويصبح الحرم النبوي كخلية النحل من كثرة الدروس وتلاوة القرآن وتعدد جماعات التراويح، فهذا أمام الباشا وذاك أمام شيخ الحرم وذاك أمام الأغوات وجماعة الصبيان من حفظة القرآن ولدى غروب الشمس تأتي موائد الإفطار إلى الحرم، فيصبح المسجد عبارة عن صالات طعام وشراب (15) وكانت المجالس (الأندية) كمجلس آل المدني وآل أسعد وآل الصافي والداغستاني والدوريات الليلية فيجتمع في تلك المجالس وجوه البلد والأعيان للسمر وللخوض في شؤون البلد وأخبار الحكام، كما كان مجالس مشايخ العُرْبَان والأشراف من بني حسين وفي هذه المجالس تتكون الشيع والأحزاب للسيد فلان والشيخ فلان وكثيراً ما يعترض هؤلاء على الحكام من المحافظين (الباشاوات) إذا رأوا منكراً، وقد يكون الاعتراض تأبط شراً على أمور تافهة أو معاكسة لأمر فيه خير البلد ولكنه بدعة في نظرهم، وقد تستجيب الحكومة إلى عزل بعض الحكام تلبية لرغبة أهل المدينة. فقد أراد بعض المحافظين، وأظنه رضا باشا الركابي، فَرْض ضريبة (قرش) للبلدية لأجل التنظيفات وأبى الأهالي دفعها ورفعوا شكوى للسلطان حتى عزل الباشا المذكور.
كل ذلك ما كان يستبعد من بيئة لم تبلغ درجة النضج الثقافي والتقدم الفكري وكان هناك أيضاً بعض الخرافات السائدة كالاستشفاء بحفل الزار والزير والحضرة وما يؤتى فيه من الحركات الشيطانية التي يأباها الذوق السليم والشرع الحنيف (16) ولا تزال بعض رواسب هذه العادة باقية لدى بعض الناس الجاهلين ومصيرها للزوال إن شاء الله.
والمدينة مشهورة برقة ذوق أهلها وكرمهم ولطفهم وميلهم لمجالس الإنس والطرب والاستكانة للراحة والنزهة، وكان هم المترفين التبسط في لذائذ الحياة. ووصول القطار ـ وإن كان جالباً للخيرات ـ فقد جر الكثير من البلاء أيضاً بما كان يحمله من كماليات ومتع اللذات، وزاد الطين بلة بعد خلع السلطان عبد الحميد (17) وقيام دولة الاتحاديين الذين بنوا شعاراتهم على: (حريت ـ عدالت ـ مساوات) فقد منهم الكثير من مدلول هذه الكلمات على غير ما وضعت لها: (كلمة حق أريد بها باطل) فظهر الفسق والفجور وخاصة في بعض الطبقات من الضباط والجنود والموظفين من الشباب، وبعض الجهلة الرعاع، فكنت أرى وأنا صغير ذاهباً للكتاب جلد السكران أمام باب المحكمة وكانت محلة المجزرة والقليعة بؤرة للفساد يعرف ذلك المعمرون من أهل المدينة المنورة.
هذا وقد استكملت المدينة رونقها من فتح الشوارع الجديدة والعمارات الضخمة خارج الباب المجيدي وفيه أنشىء أكبر فندق بالحجاز (فندق السيد عبد الله مدني) وعمارات بالسيح وزقاق جعفر والجديدة وزقاق الطيار وكثر الموردون من التجار السوريين واتخذوا المدينة دار إقامة لهم وبلغ العقار منتهاه من ارتفاع القيمة (18) وتأسست أول كلية إسلامية (19) في ميدان العنبرية وفتحت بعض المعاهد الليلية.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1087  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 29 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور معراج نواب مرزا

المؤرخ والجغرافي والباحث التراثي المعروف.