شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
تاريخنا القريب
ـ 3 ـ
رجعنا إلى المدينة من دمشق كما سبق بعد نهاية الحرب الأولى في أواخر سنة 1337هـ بعد اغتراب عامين قاسينا فيهما الأمرين: (المرض والفقر) وذلك باستثناء المئات الذين كانوا ينعمون في بحبوحة من العيش الرغيد ثم توالى وصول الأهالي تباعاً من أنحاء سورية: (حماة وحمص وحلب) ومن بلاد الأناضول: (استانبول وقونيه وكوتاهية وأضنة ومرسين) ومن الروملى: أدرنة وغيرها وقد سبقنا من اغترب إلى مكة وجدة وينبع وقرى البادية ومجموع ما ورد لما يكمل العشرة آلاف نسمة ما بين رجل وامرأة وطفل وكان عدد الذين خرجوا قبل سنتين وثلاث لا يقل عن خمسين ألفاً غير أن الكثير بقي في مغتربه ومئات منهم رجع إلى موطنهم الأول كالمهاجرين من الهنود والمغاربة والبخارية والأتراك وكان هذا النقص الهائل من جراء ما تعرض له أكثر المهاجرين من الأمراض والفقر وعدم العلاج، وقد ذكرنا أن الكثير منا فقد أمتعته وأثاثه في طريق القنطرة إلى السويس فوصلنا ينبع بألبستنا على أجسامنا فقط ولما وصلنا المدينة زاد الطين بلة إذ وجدنا بيوتنا منهوبة من قبل جنود الأمير عبد الله بن الحسين فقد قدم المدينة زائراً، ثم قفل بأمر والده إلى الطائف لتأديب العصاة من البدو (المتدينة) والزحف إلى نجد لتأديب الإخوان وإيقاف سلطان نجد (الملك عبد العزيز) عند حده ولما وصل إلى بلدة (تربة) خيم بجنوده وعتاده وكان من معه من الجيش النظامي والهجانة لا يقلون عن أربعة آلاف جندي مع كمية وافرة من السلاح والذخيرة والمدافع الجبلية ومدافع الميدان، وبعد أن استقر به المقام بعث رسله إلى رؤساء البادية يحذرهم وينذرهم وكتاباً (1) خاصاً لسلطان نجد يأمره بالرجوع إلى نجد والتخلي عن العصاة والمتمردين (انحر إلى ديرتك) هكذا والختم الأميري (قال إني عبد الله) ويظهر أن الملك عبد العزيز لم يكلف نفسه بالرد على كتاب الأمير وكان الرد الشافي هو هجوم الإخوان (2) ليلاً على جيش الأمير وتمزيقه شر ممزق وذبح ما بقي منهم ذبح الشاة ولم يسع سمو الأمير إلا النجاة بنفسه على فرس عارية ووصوله سالماً لجلالة والده المنقذ ولسان حاله يقول: ((لقد ظفرنا يا مولاي من الغنيمة بالإياب)) فتحسر الوالد الحزين قائلاً: إنا لله وإنا إليه راجعون ((ليت لي فيصلين)) (3) وقد كانت المنهوبات التي نهبها جنود الأمير بالمدينة غنيمة باردة لجيش الإخوان في تربة ولولا إنذار بريطانيا للملك عبد العزيز بن سعود لزحف الإخوان للطائف ومنها إلى مكة وعجلوا بيوم الطائف والقضاء الأخير على العرش الهاشمي المتزعزع.
لكن الحسين لم يعتبر من انكساره وكان يعتمد على حليفته بريطانيا غير أن بريطانيا يومئذ كانت تأمل أن يوقع جلالته على المعاهدة المشئومة التي كان سبب امتناعه من توقيعها عدم الاعتراف بالصهيونية في فلسطين عدم الاعتراف به ملكاً على البلاد العربية وكان عليه أن يقوي من جيشه وتسوية حسابه مع حلفائه والاعتراف بزعماء العرب وكيف للحسين رحمه الله أن يعتبر وهو يعتبر الملك ابن سعود في الدرجة الرابعة أو الخامسة من شيوخ العرب.
ولنعد إلى ذكر بعض الأحداث التي مرت بالمدينة في خلال الأعوام 38 و 39 و 40 و 41:
حركة التعليم
بعد رجوع المغتربين بالمدينة أنشئت أربع مدارس تحضيرية (ابتدائية) بإدارة المرحوم عبد القادر شلبي الطرابلسي (المدرسة العلوية) و ((العبدلية)) و((الفيصلية)) و ((الزيدية)) تيمناً بأسماء الأمراء الأربعة وانتظمت في المدرسة الفيصلية في الصف الثاني (4) وكنت وزملائي نلتهم الدروس التهاماً برغبة وشوق وأقسم بالله غير حانث أن المواد التي تلقيناها كانت تفوق مقرر الشهادة الابتدائية اليوم وكان ما يزيدنا حماساً ونشاطاً تلك الأناشيد التي جاءتنا من سورية ولبنان ومكة ننشدها صباحاً ومساءً، في فناء المدرسة وإن كان أكثرها يشيد بالثناء على الحسين والبيت الهاشمي ولا بأس بذكر نماذج منها:
ـ 1 ـ
أيها المولى العظيم
فخر كل العرب
ملك الملك الفخيم
ملك جدك النبي
نحو هذا الملك سيروا
لخلاص الوطن
وعلى الأعداء أغيروا
لنجاة الوطن
ـ 2 ـ
على أم القرى منا سلام
على من في ضواحيها أقاموا
على من ضم جمعهم الخيام
على من شب بينهم وشابا
على حامي الحمى في القبلتين
إمام العرب قرة كل عين
خليفتنا ومولانا الحسين
سلام نشره كالمسك طابا
ـ 3 ـ
سيروا للمجد طراً سيروا للحرب
واستعدوا بالمواضي دولة العرب
إيه دولة العرب في سما العليا
كنا أنجماً زهرا
قد عدلنا إذ ملكنا البر والبحرا
إيه أمة العرب
وبعد إتمامنا للمنهج التحضيري (الإبتدائي) نلنا الشهادة في احتفال فخم حضره وكيل أمير المدينة وكبار الموظفين والأعيان، وفي مستهل عام 1339هـ افتتح أول صف تأهيلي (إعدادي) كانت أكثر مواده من تأليف شيخنا مدير المعارف عبد القادر الطرابلسي ما عدا ما كان منها مطبوعاً من التفسير والحديث والفقه والتوحيد. وفي هذه الفترة وما بعدها لم تصرف رواتب المعلمين بنظام حيث إن أمير المدينة (الأمير علي بن الحسين) كان يستنزف أكثر رواتب موظفي دوائر المدينة على نفسه وأتباعه أو ينثره على شيوخ البادية في حله وترحاله فاضطر شيخنا الشلبي إلى جمع المدارس الأربع في مدرسة واحدة فاجتمع متخرجو المدارس الأربع في الصف التأهيلي المشار إليه، رغم الجهود التي كان يبذلها مدير المعارف لاكتساب ود الأمير واستعطافه لترقية التعليم لم يجد أذناً صاغية. هذا رغم ما كان يصوغه من القصائد الطنانة في مدحه واستعطافه.
أذكر يوماً خرجنا نحن طلاب المدرسة لمقابلة سمو الأمير خارج ميدان الباب الشامي وكان الجيش والشرطة وأعيان البلاد قد خرجوا لاستقباله ومكثنا في الشمس ساعتين أو ثلاثاً حتى شرف موكب سموه يتهادى على فرس شهباء يحيط به كبار مرافقيه وكان خطيب مدرستنا ((مربي الجيل)) أحمد العربي يحفظ قصيدة من نظم شيخنا الشلبي فألقاها أمام الأمير في حماس ولباقة، وكان الأمير يهز رأسه استحساناً وكنا نظن أنه سيأمر لنا بمنحة سخية، ولرقة وعذوبة تلك القصيدة اذكر منها:
أشموس يمن أم سنا أنوار
أم ضوع مسك أم شذا أزهار
أم بدر تم لاح في فلك الصفا
بحلاه قرت أعين النظار
أم ذا (ولي العهد) وافى مقبلاً
تحتاط فيه من الأسود ضواري
في موكب حار اللبيب بوصفه
يسري بأمر باهر الأسرار
والناس مطرقة الرؤوس مهابة
والصافنات تجول في المضمار
والورق تفصح بالغناء كأنها
خطباء فوق منابر الأشجار
حتى سمعت منادي العلياء قد
نادى بكل مسرة وفخار
هذا ((ولي العهد)) هذا المرتضى
هذا ((علي)) سيد الأبرار
إلى آخر تلك القصيدة التي هزت أعطاف الأمير فجاءت مكارمه السخية بصرف راتب واحد ((مجايدة)) ممسوحة ((جمع مجيدي)) من ثمانية عشر راتباً منكسرة لمعلمي المدرسة.
فأعجب معي أيها القارىء لما كان يجري بالمدينة، وجلالة الحسين في قصره بالمخلوان غافل عن أعمال ابنه الكبير الأمير.
تصور معي أيها القارىء في بلد بلغ عدد سكانه سنة 1340هـ عشرين ألفاً لا يحوي إلا مدرسة ابتدائية واحدة وصفين إعداديين (أول وثان) (5) في محلة واحدة بالباب المجيدي ((مكان المدرسة المهدومة لتوسيع الحرم النبوي)) وموظفوها لا يتناولون رواتبهم إلا ثلاثة أو أربعة أشهر من السنة، وكذلك بقية الموظفين تصرف رواتبهم شهراً بعد شهر حتى الجنود والشرطة حماة الأمن والنظام وكثيراً ما خرج الجنود جماعات في شكل مظاهرة فسلبوا ونهبوا ولا من رادع لهم فسيدنا الأمير إما يكون مصطافاً بالطائف أو حاجاً مع جلالة والده المنقذ، أو لاهياً في قصره بالعنبرية، يلعب الشطرنج مع بعض المقربين والعبد رزيق يوالي مناولة الشاي والقهوة لسيده الأمير. ومن ينعم بالمدينة يومئذ هم أتباع الأمير وأشياعه وكبار الموظفين من الضباط وبعض التجار، وكل من له مساس بمواسم الحجاج كالأدلاء وأعوانهم.
أما الأفندية والأعيان فكانت البطالة متفشية بينهم بعد أن تقطعت أسباب معيشتهم بتوقف رواتبهم التي كانوا يتناولونها من خزانة الدولة التركية، ولذا فقد تسلل كثير منهم إلى الهند ومصر والسودان وجاوة لاكتساب الرزق والعمل هناك، أو الرجوع بما يقسم الله من المنح والبدلات (6) . والصناعات كانت راكدة لعدم وجود مجال للأعمال، والأحكام كانت شبه فوضى ومشاعة بين وكيل إمارة المدينة والقائمقام الشريف حسين شحاد ومدير الشرطة عاهد بك. فكان الحكم للأقوى منهم، وكان القضاء يولاه المرحوم أحمد كماخي. وأخيراً المرحوم عمر كلادي المقرب من الأمير، أما الأمن فقد كان مختلاً بسبب السلب والنهب إعلاناً وجهاراً في رابعة النهار، ويا ويل من يخرج عن سور المدينة بلا سلاح، فكثيراً ما نهب السكان والحجاج، وكثيراً ما قتلت النفس البريئة في ميدان المناخة، وأخذت بجريرة غيرها فسمع كلمة ((سدَّاد)) (7) وطالما سلب الحجاج في طريق المزارات في طريق سيد الشهداء حمزة رضي الله عنه وفي طريق قباء ((المسجد الذي أسس على التقوى)) أو في طريق القبلتين. كل ذلك سببه الجهل، والحكم المائع، مع قلة الموارد وعدم الأعمال وكم من حادثة مؤلمة من سلب ونهب حدثت فعكرت أمن البلاد.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1005  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 28 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.