ولسن |
((لقد واتته أعظم فرصة لتغيير مجرى التاريخ وتوطيد دعائم السلام، ولكنه فشل لأنه لم يستطع أن يسوس معارضيه)). |
يحق لنا أن نتساءل: أي نوع من الرجال كان الرئيس ولسن، فقد وصف بأنه من أنبغ رجال زمانه ووصف أيضاً بأنه من أفشل الناس؟! |
لقد تخيل السلام يرفرف على العالم بالوسيلة التي اقترحها - تكوين عصبة الأمم، - وفي محراب تخيلات تكوين هذه الهيئة كرس على حيويته وأنفذ كل قواه. |
وماذا حدث بعد كل هذا المجهود؟ لقد مات ولسن محطماً على محراب مبادىء مثله العليا. |
عندما أبحر الرئيس ولسن عام 1919م إلى أوروبا، كانت الجماهير تهتف باسمه وتدعوه المنقذ، فقد خرجت أوروبا من الحرب دامية الجروح وما زالت دماء أبنائها تقطر وعويل الأرامل من نسائها يتردد، وأقام الفلاحون الجائعون الحفلات وأوقدوا حول صوره الشموع ورفعوا أصواتهم بالدعاء، والتهليل لداعية السلام. |
لقد وقف العالم كله على قدميه ينتظر أن ينعم بالسلام الشامل على يديه. |
وبعد أن أمضى ثلاثة اشهر في أوروبا، عاد إلى وطنه كسير الفؤاد حزيناً، فقد فشل في توطيد دعائم السلام وأبعد عنه كفاحه من أجل تثبيت مبادىء السلام الكثير من أصدقائه وخلق له الكثير من الأعداء، لقد عجز أن يكبح جماح المطامع وأن يأخذ للضعيف حقه من الأقوياء.. |
إن المؤرخين يصورون الرئيس ولسن أستاذاً متفوقاً مترفعاً عن مواطنيه تنقصه الكياسة الاجتماعية، ولكن الحقيقة عكس ذلك تماماً، فقد كان ولسن شديد التقدير لمواطنيه يبذل كل جهده لتقربهم وتوحيد مقاصدهم ووسائلهم وغاياتهم، وكان يتألم لما في طبيعته من خجل يبعده عن الناس، وكان يقول: ((وددت لو دفعت كل ما أملك لأبعد عن نفسي طبيعة الخجل والانكماش، لقد جاهدت كثيراً لتغيير طبعي لكنني لم أفلح)) ومع ذلك فقد كانت تستخفه النشوة في بعض الأحيان، فعندما كان أستاذاً في الجامعة قفز مرة إلى ميدان كرة القدم وقاد اللعبة بين ابتهاج اللاعبين وسرورهم، وكان مرة في (برمودا) فاستخفه منظر البحارة السود فأخذ زورقاً واختلط بهم وجعل يتحدث معهم. |
والرئيس ولسن هو الأستاذ الوحيد الذي جلس على كرسي الرئاسة في البيت الأبيض، ومع ذلك فإنه لم يتعلم القراءة والكتابة إلا بعد أن بلغ الثانية عشرة من عمره، وكانت أحب الكتب التي ينهمك مسترخياً في مطالعتها القصص البوليسية ولم تكن له عناية بالفنون وكان يقول ((لأن تحتفظ بالمعدن الخام تستطيع أن تبيعه بما يسد الحاجة خير من أن تحتفظ به مزركشاً)). |
هذا الأستاذ الذي أمضى حياته بين الكتب وفي جو علمي بحت، كان يفضل مشاهدة المسرحيات الهزلية على أن يقضي وقتاً في مشاهدة روايات شكسبير، وكان يعلل ذلك بأنه لا يذهب إلى المسرح ليتعلم ولكن ليتسلى، وعندما كان يشغل مركز الرئاسة في البيت الأبيض كان يذهب كل أسبوع تقريباً لمشاهدة التمثيل المختلط. |
عاش ولسن أكثر أيام حياته فقيراً، وعندما كان يشتغل مدرساً كان راتبه ضئيلاً فكانت زوجته تضطر لأن ترسم بعض اللوحات لبيعها وسد نفقات البيت. ولما عين أستاذاً في الجامعة، لم يكن يستطيع أن يجاري زملاءه في شراء الملابس الأنيقة فنشأت عنده عادة عدم الاهتمام بالملابس، فكان وهو رئيس للولايات المتحدة لا يهتم بمظهره كما كان يفعل الرئيس لينكولن، فقد ألح عليه خادمه مرة - وهو في البيت الأبيض - أن يأمر بتجديد بطانة إحدى بذلاته التي كانت تبدو غير لائقة، فأجابه ((ولسن)): ((لا تقلق فما زالت بذلتي صالحة للاستعمال سنة أخرى)). |
وكان أيضاً لا يهتم بطعامه مثل الرئيس لينكولن فهو يأكل كل ما يقدم له، وكثيراً ما كان لا يدري نوع الطعام الذي قدم إليه، ودخن مرة واحدة في حياته سيجاراً ولكنه أصيب بالدوار قبل أن يتم تدخينه. |
وكان كل بذله وسخائه في شراء الكتب وكان يطوي تحت مظهره الذي ينم على البر وسعة الصدر طبيعة حادة سريعة الانفعال والتأثر وقال عنه أصدقاؤه المقربون إنه أكثر حدة في طبيعته من الرئيس روزفلت. وكان شديد الوفاء والتقدير لزوجته فمن أول الأعمال التي قام بها عندما عين رئيساً للولايات المتحدة أن أشتري لزوجته طقماً من الفرو الثمين وحينما توفيت بعد سنة من ذلك التاريخ لم يسمح بدفنها لمدة اثنتين وسبعين ساعة وأمضى ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ وهو بجانب سريرها حزيناً. |
واشتهر ولسن بعلمه وسعة ثقافته ولكن ميله للغات كان ضعيفاً. ولم تكن له صلة بكبار أدباء عصره ولم يكن يعتني بالعلوم الطبيعية والفلسفية. حاول في مبدأ حياته أن يشتغل محامياً ففشل، فلم يتح له أن يتولى الدفاع ولا عن قضية واحدة والشخص الوحيد الذي أتيحت له إدارة أملاكه هو والدته. |
وربما كان العيب الكبير في شخصية ولسن هو قصر نظره. كان طموحه في حياته منذ صغره أن يكون خطيباً مصقعاً، فكان يتمرن على الإلقاء في غرفته ساعات طويلة، ولأجل أن يعد نفسه إعداداً كاملاً للخطابة كان يتبع جميع الوسائل التي كان يظن أنها توصله إلى غرضه حتى ولو كانت تلك الوسائل تبدو سخيفة بعض الأحيان، وعلى سبيل المثال، فقد كان يضع أمامه على الحائط خريطة تمثل الحركات الخطابية المناسبة، ولكنه أهمل الشيء المهم أهمل أن يتمرن كيف يسوس الناس! فقد عاش أيامه الأخيرة في سلسلة محزنة من تنكر الأصدقاء وأصبح زعماء المجلس الاستشاري خصوماً له وخذله أشد أصدقائه صلة به، وأخيراً أغضب الكثيرين من أبناء بلدته لأنه ألزمهم أن لا ينتخبوا غير أعضاء الحزب الديمقراطي. وعندما عارض المجلس الاستشاري اقتراحاته لقيام عصبة الأمم، أهمله واتصل رأساً بالجماهير يطلب تأييدها. |
كان ولسن ضعيف البنية دائم التمرض ولكنه كان يهمل نصائح أطبائه. وهذا الأستاذ النابغة الذي كان يهز المحافل بخطبه الرنانة أصبح في الأيام الأخيرة من رئاسته للولايات المتحدة منهوك القوى محطماً وضعيفاً، حتى إنه كان لا يستطيع أن يمسك القلم للتوقيع إلا بمساعدة شخص آخر؛ وعندما اعتزل منصب الرئاسة كانت داره في واشنطن مقصداً للزائرين يقصدونها من كل الجهات مستفسرين عن صحته داعين له، وحينما لفظ أنفاسه الأخيرة باتت الجموع تحتشد على الأرصفة وأمام داره تبكيه وتدعو له بالمغفرة. |
|