شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
التفاصيل التي لم تستطع الأفلام عرضها في حياة فارس البنغال (فرانسيس ييست برون)
قبل ما يقرب من عشرين عاماً كان يجلس أمامي في داري شاب نحيل الجسم، حاد النظرات، كان يتحدث في سهولة وانطلاق بهرني بسحر حديثه، فكنت أستمع إليه مبهوتاً دون أن أشعر بمرور الساعات، كان يتحدث عن بلاد ألف ليلة وليلة، عن الشرق.
كان سنه في ذلك الحين تسعة وثلاثين عاماً. ومنذ كان في التاسعة عشر، تعرض للموت عدة مرات في عدة ميادين. وقد أسر في بغداد والقسطنطينية، وحارب الترك في صحاري العراق المحرقة، والألمان في أراضي فلاندر المليئة بالأوحال، وألف كتاباً أسماه ((السنون المخضبة بالدماء)) ومع ذلك فقد وجدته ((كلورنس)) هادىء الطبع يميل إلى التحدث عن الأدب والفلسفة ويكره الحديث عن الحرب.
لم تكن حالة ((ييست برون)) تساعده على طبع ونشر الأحداث التي مرت عليه أثناء خدمته العسكرية مدة اثنتين وعشرين سنة. وفي شبابه لم يكن يتصور ما خبأه له القدر من الحوادث والمفاجآت. ومع ذلك فقد قابلها كلها بصبر وثبات ورحابة صدر. وقد اكتسب صفة فلسفة التسليم للقدر من بلاد الشرق، تلك الصفة التي امتاز بها الشرقيون، عاشر الدراويش و أصبح من حواريهم. درس على رجال الدين بحثاً عن الأسرار، لم يعش ((ييست برون)) عيشة رتيبة واحدة كما يعيش أحدنا، ولكنه عاش في أشكال متغايرة متعددة، وعندما كتب أخيراً قصة مغامراته المحمومة التي فصل فيها تلك المغامرات سمى كتابه: ((حياة محارب في البنغال)) فكانت أنجح قصة مثيرة في عام 1930م، وأعظم فيلم أنتجته هوليود، وشغف به الناس في كل مكان، ولكنه ككل فيلم أنتجته هوليود لقصة حياة حقيقية، انحرف كثيراً وبعد كل البعد عن الحقائق المثيرة التي عاشها ((ييست برون)).
كان عمر ((فرانسيس ييست برون)) تسعة عشر عاماً عندما لبس لأول مرة الزي الرسمي لفرقة الفرسان الملكية في البنغال، بدلة جذابة المنظر ذات لونين: أزرق وأصفر وعمامة باللون نفسه، أعظم فرقة يعتز أفرادها ويفاخرون بأناقتهم وقوتهم وشدة بأسهم وأعظم فرقة تعتز بها ملكة بريطانيا في أقاصي مستعمراتها. ينتقى أفرادها انتقاءاً، وهي ألمع وأقوى فرقة في الجيش البريطاني تهدد بها حكومة جلالتها كل من يتحرك أو يرفع رأسه، ومع ذلك لم يكن يدفع لهم شيء يذكر، عشرة جنيهات في الشهر وهم مكلفون بعلف أفراسهم وتجهيز أسلحتهم، ولم يكن أفراد هذه الفرقة يذهبون إلى الهند طلباً للمادة، ولكن للغواية والمغامرة وطلباً للشهرة والمجد، يذهبون إلى الهند مندفعين بالعقائد التي حملت كتشنر وكوردن وسير فرانسيس دران وسير والتر، إلى الوصول إلى أقصى حدود الأرض.
كان أفراد الفرقة يقومون في الساعة الخامسة صباحاً ويقومون بتمريناتهم العسكرية عدة ساعات، حتى ترتفع الشمس وتحمى بنادقهم فلا يستطيعون مسكها من شدة حرارتها، وعندما تكون درجة الحرارة عالية في الظل كانوا يجدون متعتهم في لعبة كرة الخيل. انحلت أجسامهم ضربات الشمس وفتكت فيها حمى الملاريا.
وأخبرني ((ييست برون)) بأن أقسى مغامرة يقومون بها في الهند هي صيد الخنازير البرية بالرماح، وطريقتها أن يجري الصياد في صحراء مليئة بأشجار الشوك وراء الخنزير البري في مسالك صخرية حادة وليس لديه من السلاح سوى عصا من نبات ((البومبو)) مثبت في نهايتها رمح، وليس في الحيوانات المفترسة أكثر شراسة من الخنزير البري المصاب، فهو يزن ثلاثمائة رطل وشعره خشن كالشوك، وهو مراوغ كالثعلب وشجاع كالأسد، وسريع في العدو سرعة الفرس الأصيل، والدخول معه في معركة بعد إصابته معناه الموت المحقق.
وطلبت من ((ييست برون)) أن يحدثني عن أخطر موقف في حياته: فقال: حدث ذلك في أحد الأيام عندما خرج لصيد الخنزير البري بالرمح وكان معه رجاله حينما أثاروا خنزيراً برياً كبيراً كان يحتمي بين أشجار الشوك، وانزعج الحيوان وجرى بكل قوته في المسالك القوية مكشراً عن أنيابه الكبيرة، فبدت تلمع في وهج الشمس واقتفى أثره ((ييست برون)) وعندما اقترب من الخنزير وغرز فيه رمحه تعرقلت فرسه فانطرحت على الأرض فوق الخنزير وانطرح ييست فوقهما وشكلوا كوماً متشابك الأرجل يعرقل بعضه بعضاً: ((ييست)) مشتبك في قوائم فرسه التي كان يرفس بها يحاول التخلص، والخنزير البري وقد آلمه الرمح المغروز في جسمه يحاول التخلص من الرمح والدفاع عن نفسه، ولهثت الفرس ووقفت على قدميها وتخلص الخنزير من الرمح وقفز ((ييست)) على قدميه وألقى بنفسه على شجرة من الشوك محتمياً بها وبقى هناك حتى وصول رجاله فأنقذوه. وكان قد فقد أسنانه وانفك عظم إبهامه وتجرح كل جسمه وفي كل موقع منه ومات الخنزير متأثراً بجروحه والوحيد الذي لم يصب بأذى كانت الفرس فوقف يرعى بكل هدوء وعدم اهتمام.
ولعلً أغرب ما مر به في مغامراته في الشرق تلك الفترة التي عاشها متنكراً في زي امرأة.
فعندما كان يحارب في العراق وقع أسيراً لدى حكومة الأتراك، وأخذ مع الأسرى إلى معسكر استنبول، واستطاع أن يهرب من معسكر الأسرى، ولكنه لم يستطع الخروج من المدينة فقد كانت السلطات التركية تبحث عنه بكل اهتمام، وكان اهتمامهم في البحث عن ضابط بريطاني أعطوا أوصافه ولم يتطرق إلى أذهانهم الشك أبداً في المربية الألمانية التي اعتادت أن تقابل أميراً روسياً في أحد المقاهي، وقد كان الأمير الروسي مراقباً أيضاً، ولكن عواطف الأتراك الرقيقة لم تشأ أن تعكر صفو الأمير وهو يغازل المربية، وهذا وضع لا علاقة له بالسياسة، فكان ((ييست)) عندما يحضر إلى المقهى لمقابلة الأمير في ثيابه التنكرية لمربية ألمانية، على رأسه قبعة عريضة وعلى وجهه برقع خفيف، وحول كتفيه فرو من جلد الثعلب، وفي يديه قفاز ناعم، يقف الأمير على قدميه وبكل احترام يأخذ يد المربية الألمانية ويضع عليها قبلة حارة.
ويعجب هذا المنظر الرومانتيكي، البوليس السري التركي المراقبون للأمير فيضحكون منه ويهزون أكتافهم استلطافاً، وهكذا وبفضل رقة عواطف البوليس التركي، أصبح من حق الأمير المراقب أن يعيش عيشة عاطفية، ولم يطق أن يستمر في التنكر في دور ((مودموزيل جوزيفين))، لأن ذلك التنكر لم يعطه فرصة لمغادرة المدينة، فتنكر مرة أخرى في زي ميكانيكي هنغاري عاطل عن العمل، فأطلق شاربيه ولبس بدلة عمالية وقبعة مفلطحة ومنظاراً عريض الإطار وقميصاً مبقعاً وانتعل حذاءً من المطاط وظهر كأنه أحد ممثلي الكوميديا، ومع ذلك فإن الأتراك لم يشكوا في أنه ميكانيكي متعطل عن العمل.
ولم يطل به العهد في هذا التنكر فقد قبض عليه أخيراً وأودع المعسكر مرة أخرى وشددت عليه الحراسة.
واستطاع مرة أخرى أن يهرب بعد أن تنكر في زي الأسرى اليونان الذين كان يسمح لهم بالتجول في حديقة المعسكر.
وقد سألته عن أبشع منظر وقع عليه نظره أثناء اشتراكه في الحروب،
فأجاب بأنه عندما كان أسير حرب عند الأتراك أجبر على السير على قدميه مائتي ميل إلى معسكر الأسرى، ومر في طريقه على بلدة كان أثر الحرب فيها قاسياً حيث أصبحت خالية من السكان تماماً. فقد عمل جنود الأتراك على تقتيل وتشريد جميع سكان أرمينيا وقراها، فكانت تسودها رهبة الموت وسكونه، ولم يقع نظره إلا على بعض الكلاب تتسكع في الشوارع والأزقة الصامتة بالأفق الرهيب.. فكان لذلك أبشع أثر في نفسه على قساوة الإنسان ضد أخيه الإنسان.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :671  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 120 من 124
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

يت الفنانين التشكيليين بجدة

الذي لعب دوراً في خارطة العمل الإبداعي، وشجع كثيراً من المواهب الفنية.