شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
آل وندل
الدار التي كثر الكلام عليها في نيويورك تقع في طرف ميدان الشارع تسعة وثلاثين، وهذه الدار لمدة عشرين عاماً كانت تسمى (الدار الغامضة)، وقد نسجت حول ما يجري في داخل الجدار المبني بالطوب حول هذه العمارة قصص بوليسية ومقالات ومسرحيات وفصول سينمائية أيضاً، وكان يمر أمام بابها المنتصب لعدة سنوات خمسون ألف شخص يومياً، فلم يلحظ واحد منهم ولو عن طريق المصادفة أي علامة للحياة خلف شبابيكها المغلقة، ولو قدر لك أن تركب خط البلدة المار بالميدان الخامس، لكان من الممكن أن تلحظ أن دار (آل وندل) الدار الوحيدة في العالم التي بها فناء قيمته مائتا ألف جنيه خصص ليكون ملعباً للكلاب من نوع ((بودل)).
كان آل وندل من أغنى الأسر في نيويورك وكانت تقدر قيمة أملاكهم بعشرين مليوناً من الجنيهات، ومع ذلك فإنهم كانوا يعيشون ملتصقين بالماضي أشد الالتصاق. وتتكون عائلة وندل من أخ عازب وأخوات عوانس يعشن في دار بنيت في العصر الذي كان فيه أبراهام لينكولن لا يزال محامياً قروياً ناشئاً غير معروف، في ولاية الينويس. وقد مررت بهذه الدار عندما هدمت أخيراً ورأيت العمال يحملون أنقاض حمامات الزنك والمغاطس المنحوتة من الرخام التي كانت تستعمل في عصر العبيد، وكان آل وندل يستخدمون الغاز للإضاءة لأنهم كانوا يعتبرون أنه أسلم للنظر من ضوء الكهرباء، ولم يستعملوا اللاسلكي ولا المخترعات الكهربائية ولا المصاعد ولا السيارات، والآلة الوحيدة من المخترعات الحديثة التي استعملت في هذه الدار هي التلفون ولم تركب في الدار إلا قبل يومين من وفاة آخر فرد من عائلة وندل لتسهيل اتصال الممرضة التي كانت ترعى المريض بالطبيب المعالج.
والثمن المقدر لدار آل وندل هو ألف وخمسمائة جنيه ورغم ذلك فإن محاميهم كانوا يوجهون نظرهم إلى أن السكنى في هذه الدار تكلفهم مائتي جنيه في اليوم وذلك هو الواقع، فقيمة الأرض التي تحيط بالدار ثمانمائة ألف جنيه تقريباً وإذا أضيفت الفوائد على ذلك المقدار مع أجور التثمين والضرائب، فإن المبلغ يصل إلى أربعمائة جنيه يومياً.
ورغم كل هذا الغنى، فإن آل وندل كانوا يعيشون في ظلام الماضي، فجون جونيل وندل توفي عام 1914 وحتى ذلك التاريخ كانت جميع ملابسه تفصل على نموذج بدلة كان قد اشتراها في نهاية الحرب الأهلية عام 1865 وكانت جميع الملابس محفوظة في صندوق الملابس نفسه الذي اشتراه قبل أربعين عاماً، وجميعها مفصلة على نموذج واحد في وقت واحد، وكان من عادته أن لا يلبس قماشاً مصبوغاً صبغاً صناعياً، فإذا رغب في أن يفصل بدلة سوداء كان يوصي على الصوف من مصنع خاص في اسكتلانده الذي كان يحوك له الصوف الأسود المجزوز من الخرفان السود خصيصاً له، وكان عندما يدعو أصدقاء إلى حفلة طعام يكتب رقاعها باللاتينية.
كان يعتقد أن أسباب جميع الأمراض إنما تدخل الجسم عن طريق بواطن الأرجل، فلذلك كان يلبس أحذية سميكة النعل تعمل خاصة له لتقيه شر جراثيم الأرض.
كان جون جونيل وندل يعد في عصره من كبار الملاك، (وقد نمت ثروته بعناده على البقاء كما هو على أراضيه، بينما كانت مدينة نيويورك تكبر وتتسع من حوله).
وكان الأخوان وندل شديدي التعصب ضد المشروبات، وقد رفضوا مرة أن يوقعوا عقد إيجار بمبلغ مائتي ألف جنيه حتى أخذوا تعهداً بأن الغرفة التي تستعمل للإسعاف والصيدلية في العمارة لا تحتوي من الكحول أكثر من مقدار محدود بمكيال واحد. ومع ذلك فقد وجد - بعد وفاتهم - في سراديب الدار خموراً متنوعة قدرت قيمتها بألفين من الجنيهات، وقد تبين أنها خزنت دون أن تمسها يد مدة طويلة أفسدت الكثير منها.
كان لجون جونيل وندل سبع أخوات، وقد بذل كل جهده أن يمنعهن جميعاً من الزواج، فقد كان يخاف إذا تزوجن وأنجبن أن تتبدد الثروة التي يملكونها، وكان يقول لهن إن كل من جاء يطلب أيديهن إنما يطمع في الثروة التي يمتلكونها، وكان لا يجامل الخطّاب حين يزورون أخواته لعرض الزواج فيطلب إليهم أن لا يعودوا لزيارة الدار مرة أخرى، فلم يتزوج من أخواته إلا واحدة وهي المسماة مس ربيكا ولم تتح لها فرصة الزواج إلا بعد أن بلغت الستين من عمرها، أما الأخريات فقد عشن عانسات حتى كبرن وذبلت نضارتهن وأدركتهن المنايا.
إن قصة حياتهن المملوءة بالحزن والأسى تشرح لنا بوضوح المزية العظيمة التي تتميز بها ثروة الكفاف. والأخت جورجيانا كانت أقوى شخصية بين أخواتها فجاهدت ضد الحصار الذي فرضته عليها العائلة حتى انهارت أعصابها أخيراً وأصيبت بمرض عقلي نقلت على أثره إلى مستشفى الأمراض العقلية وأمضت فيه اثنين وعشرين عاماً، وعندما توفيت في عام 1930 كان أكثر أصدقائها يقدر أنها ماتت قبل ذلك بكثير. إنها كانت تملك ثروة تقدر بمليون من الجنيهات ولكن هذه الثروة الضخمة لم تستطع أن تقدم لها لحظة من السعادة.
والأخت الأخرى جوزفين عاشت وحيدة في أحد البيوت الريفية لآل وندل لا تجد من تركن إليه سوى عدد من الخدم الذين يحوطون بها، والمنظر الأدعى إلى العطف والرحمة منظرها وهي تتخيل أن في الدار أطفالاً يعيشون حولها فتناجيهم وتداعبهم في خيالها، وكانت تتخيل في بعض الأحيان أن ضيوفاً سيزورونها فتأمر بإعداد السفرة في ستة أجزاء من الغرفة، وعندما يباشر الخدم تقديم الطعام لكل قسم تتظاهر بأنها تباشر بنفسها الضيوف، حتى إذا تم إعداد الطعام في قسم تنتقل إلى القسم الآخر لتقوم بعملية المباشرة نفسها والإعداد لتشمل برعايتها جميع الضيوف بالترتيب.
واختطفت المنية الأخوات وندل الواحدة تلو الأخرى، وكلما رحلت واحدة منهن أغلقت غرفتها وأغلقت الشبابيك فيها، حتى لم يبق من الأخوات السبع سوى المس أيلا ولم يبق مفتوحاً في الدار سوى غرفة نومها وغرفة طعامها في الطابق السفلي وغرفة كبيرة في الطابق الأعلى حيث كانت الأخوات يتلقين دراستهن المحلية. وعاشت المس أيلا سنين عديدة في الدار الرهيبة الصمت المحتوية على أربعين غرفة جلها مهجور مع بعض من خدمها المسنين المخلصين وكلبها الفرنسي (توبي) وكان توبي ينام في غرفة سيدته على سرير وثير تماماً كالسرير الوثير الذي كانت تنام عليه سيدته، وكان يأكل طعامه المحتوي على قطع البسكويت المعمول خاصاً به وشرائح اللحم في غرفة الطعام على طاولة لامعة من النحاس مغطاة بغطاء من المخمل.
وعندما توفيت المس أيلا أوصت بجميع ثروتها لكنيسة أعمال التبشير، مع أنها هي لم تكن من رواد الكنيسة إلا نادراً. وماتت وهي تعتقد أن ليس لها في هذا العالم قريب من قريب أو بعيد يمكن أن يكون له حق الإرث في ثروة آل وندل الطائلة، غير أنه في خلال سنة بعد وفاتها ظهر نحو ألفين وثلاثمائة شخص يدعون قرابتهم لآل وندل، وقد كان نموهم يزداد بسرعة عجيبة في كل أنحاء العالم تماماً كسرعة نمو الحشائش في الحقول، وقد ظهر في (تنسي) وحدها مائتان وتسعون شخصاً كل يطالب بحصته في الإرث المقدر بسبعة ملايين من الجنيهات.
وتلقت القنصلية الألمانية أربعمائة طلب من أربعمائة شخص من آل وندل في ألمانيا، وقدمت طلبات من تشيكوسلوفاكيا كانت من الكثرة بحيث شغلت وزارة الخارجية الأمريكية. كما ادعى شخصان بأنهما ابنان للمستر جون وندل كانا ثمرة لزواجين سريين له، وحكم على أحدهما بالسجن لتزويره وثيقة زواج وصك وصاية فقد ثبت أن جون وندل لم يكتب وصية أبداً. فقد قال: أنا لا أكتب وصية لأفتح مجالاً لأي محامٍ لاكتساب ثروة من أملاكي.
ومن النكات اللطيفة أن ينقلب الوضع الذي أراده المستر جون وندل وعبر عنه في جملة مزاجية، فقبل أن يستقر البت في مخلفات آل وندل ليس محامياً واحداً ولكن مائتان وخمسون محامياً جمعوا ثروة كبيرة في قضية ملايين آل وندل التي خلفوها.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :636  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 116 من 124
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .