شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بيربونت مورجن
لقد لاحقوه بالبنادق والقنابل فلم يفلحوا ومضى هو قدماً ونجح.
ترى من يستحق أن يوصف بأنه أقوى رجل من رجالات عصره؟
إن البت في هذا الحكم يتفاوت بالطبع بتفاوت الأفكار والميول، غير أن الحقيقة التي لا جدال فيها أن أقوى رجل في دنيا المال هو بيربونت مورجن!.. دكتاتور (ول ستريت) أعظم شارع في العالم لأسواق الأسهم والسندات.
وفي غير دائرة عمله، فإن هذا الرجل يكاد يكون غير معروف تقريباً، وليس من المبالغة أن يقال عنه إنه رجل الغموض. كان يجفل من الشهرة، أما كرهه لنشر صوره، فكان كرهاً يبلغ درجة الاشمئزاز، وكان عندما يغضب يصل في تصرفاته إلى أقصى حدود البلادة. كان في حديثه جريئاً وصريحاً حتى قيل عنه إنه الأمريكاني الوحيد الذي لا يقيم للدبلوماسية وزناً. كان طوله ستة أقدام ويزن مائتي رطل، ويتحلى بشجاعة عديمة النظير، لا يعرف الخوف تقريباً. ومن أمثلة شجاعته أنه هجم عليه مرة مجنون في غرفة مكتبه يحمل بندقية صوبها إليه ووضع يده على الزناد، وكان من الممكن أن ينسل مورجن من الباب الخلفي بالقرب من مجلسه، ولكنه لم يفعل بل تقدم بكل جرأة نحو المجنون فأطلق الرصاص عليه في الحال فأصيب مورجن، ولكنه رغم إصابته تقدم نحو الرجل وانتزع البندقية من يده ثم همد ووقع على الأرض فاقد الوعي، وحمل إلى المستشفى حالاً ولم يكن بينه وبين الموت المحقق إلا تخلف الرصاصة عدة سنتيمترات من المقتل.
وشددت الحراسة بعد هذا على مكتب المستر مورجن، فأصبح من المستحيل أن يقترب أحد من مكتب ملك الذهب العنيد في ((ول ستريت)) تلك القلعة المحصنة التي كانوا يسمونها (الحصن).
ويحرص الحراس بتوجيه نظر السواح والزائرين لهذا الحصن في الوقت الحاضر إلى الشقوق والتصدع الباقي حتى الآن إثر ذلك الحادث المروع الذي وقع عام 1916 والذي أودى بحياة أربعين شخصاً وأصاب بأضرار جسيمة مائة آخرين وأتلف ما يساوي أربعمائة ألف جنيه أسترليني.
وقع ذلك الحادث المشئوم بالضبط بعد دقيقة واحدة من بعد الظهر حين كان مئات من الموظفين والعمال ينصرفون عن أعمالهم من المكاتب العديدة الواقعة حول بناية مكتب ملك الذهب، وهم في غاية المرح والسعادة ولم تلفت نظر أحدهم تلك العربة القديمة المشدودة على حصان عجوز هزيل تقف أمام بناية مورجن. وفجأة لمع شعاع كاد يعمي الأبصار ثم أعقبه انفجار عظيم حطم وألحق أضراراً بجميع العمارات الضخمة القريبة من تلك العربة المشدودة على ذلك الحصان العجوز الهزيل فمسحت ما صادفها في ذلك الشارع وألقت الرعب والفزع في نفوس الحشود المزدحمة من المارة، وتصدعت آلاف النوافذ وانتثرت قطع صغيرة في الفضاء ودوى صوت ألواح الزجاج وهي تنهار على الرصيف، واشتعلت النيران في العمارات الضخمة ذات الأثنى عشر طابقاً، وتناثرت من النوافذ الأرجل والأيدي وحتى الرؤوس وارتمت على بعد ثلاثين قدماً من الأرصفة، وكان المصابون من الناس ممن فقد يداً أو رجلاً يترنحون والدم يجري من جراحهم يصرخون من الفزع ويسيرون خطوات ليرتموا بعدها يلفظون أنفاسهم الأخيرة. وازداد الهلع والفزع حينما تجمعت بضجيجها وولولتها سيارات الإطفاء وسيارات الإسعاف وتضاعف تخبط الناس واندفاعهم.
وبعد أن استقر الحال وهدأت الفوضى، كان كل ما استطاع المحققون أن يتحصلوا عليه من بقايا الحصان والعربة التي كانت تحمل تلك القنبلة، هو قطعة من عجلة العربة وحدوتان من حدوات الحصان وبعض المسامير والصواميل؛ غير أن الشخص الذي كان مقصوداً في هذا الهجوم لم يكن موجوداً هناك في ذلك الوقت، بل كان مسافراً إلى أوروبا، وقد صمم بعد أن علم بالأمر أن يكتشف أولئك الجناة الأنذال مهما كلفه الأمر ومهما بذل من مال، فخصص جائزة مقدارها عشرة آلاف من الجنيهات لمن يدل على الفاعلين، واستعمل البوليس والفتوات والخدمات السرية والبوليس المدني في أعظم حملة عرفت في التاريخ في البحث والتنقيب في العالم، ووجهت حملات البحث في جميع أنحاء الكرة الأرضية وروقبت جميع السفن الداخلة والخارجة في جميع الموانىء، وبثت العيون والجواسيس في جميع المدن الكبيرة للبحث والتحري، وصرفت ميزانية دولة في هذا السبيل، غير أن كل هذه المصاريف وهذه الجهود باءت بالفشل ولم تثمر سوى الخيبة، ومضى ثلاثون عاماً وما زال السر الغامض غامضاً حتى الآن.
واتخذت بعد ذلك اجراءات مشددة لحراسة مكاتب مورجن، فخصص بوليساً مسلحاً يقف ساهراً طوال الليل أمام المكاتب، وقويت سقوف المبنى بالحديد الصلب لتمنع البناية من الانهيار فيما لو حاول أحد إلقاء قنبلة من إحدى ناطحات السحاب المقامة حواليها، وفي داخل البناية القوية المتواضعة يمتد في إحدى الغرف السرية صفان من المكاتب أحدهما خلف الآخر وكأنها مقاعد تلاميذ في إحدى غرف صفوف المدارس، ويعمل على المكاتب ثمانية عشر رجلاً من شركاء مورجن، ومن خلف هذه المكاتب جلس مورجن رئيس المكتب تماماً كما يجلس أستاذ الصف أثناء الامتحان وهو يراقب التلاميذ.
وليس هناك مصرف أهلي آخر في تاريخ العالم خدم المشروعات الوطنية وشارك في إنعاشها مثل مصرف مورجن واكتسب الثقة والاعتبار، كما أنقذ مصرف أبناء (روث) في أوروبا من حملات نابليون، فإن مصرف مورجن صنع - دون أن يستطيع غيره من المصارف الخاصة - انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى؛ ففي عام 1915 هيأ هذا المصرف أكبر مقدار من العملة الصعبة كان الحلفاء يحلمون بها، فقد قطعت السفن البحار تحمل مائة مليون جنيه لتعزيز القوى الحربية، وأصبح مصرف مورجن وكيلاً للمشتريات في الولايات المتحدة لجميع جيوش الحلفاء، فكان يوفّر لهم السلاح واللوازم بالمليون تلو المليون، وفي أحد الشهور بعثوا من المال بما زاد مجموعه على ما كان متداولاً في الأحوال العادية في عموم العالم في ذلك الشهر.
وقد قضى مورجن شطراً من حياته في موطنه لندن وقضى مثله في نيويورك.
وفي حياة والده كان رئيساً للفرع الإنكليزي لشركة مورجن، وعندما عاد إلى ((ول استريت)) أدخل عادة شرب الشاي بعد العصر - العادة الإنكليزية المعروفة - وقبل وفاته في عام 1943 بنى قصراً في ميدان كروس وانر وجهزه بأكمل الأثاث والخدم ليبقى على استعداد دائم لاستقباله حتى ولو بعد غيبة شهور وليجد عشاءه وفراشه معدين كما لو كان يعيش في القصر باستمرار.
كان مورجن عضواً في أسقفية الكنيسة الأمريكية، ومع ذلك كان يراسل باستمرار بابا روما، وعندما زار الفاتيكان جلس مع البابا يتباحثان عدة ساعات.. أتدري في ماذا كان يدور حديثهما؟! لقد كانا يتباحثان في المخطوطات النادرة ولغات القرون الوسطى في إقليم مصر!
وفي مكتبات المستر مورجن توجد نوادر المخطوطات، منها ما هو مخطوط قبل خمسمائة عام قبل أن يكتشف كولومبس أمريكا. ويوجد في المكتبة أيضاً مؤلفات شكسبير بخط يده ونسخة نادرة من التوراة تقدر قيمتها بعشرة آلاف جنيه أسترليني.
والمستر مورجن كان معروفاً بدراسته الواسعة لأدب شكسبير ودراسته للتوراة وكان تستهويه أيضاً القصص البوليسية الجيدة فيجلس الساعات لقراءتها كما نفعل أنا وأنت. وكان كوالده الذي اشتهر بنظرته الدقيقة في تقدير الفنون ومعرفة الأصيل ونقد الزائف منها، فصرف الملايين التي لا تحصى على الألواح الفنية والتماثيل والنقوش والخزف والمجوهرات.
وعندما بدا له بيع بعض الألواح الفنية التي جمعها والتي لا تقدر بثمن، أسرعت الجرائد إلى نشر ذلك الخبر في أولى صفحاتها تلفت نظر الهواة إلى تلك الكنوز الثمينة.
وكان من عادته في عيد الكريسماس أن يقيم في مسائه حفلة في غاية الروعة في مكتبته الخاصة يحضرها جميع أفراد العائلة صغيرهم وكبيرهم والخواص من الأصدقاء ليستمعوا إلى قصة المسيح تقرأ من المخطوط الأصلي الذي كتبه ((ديكن)) بخط يده.
ورغم ثرائه الفاحش، فإن كثيراً من تساليه كانت بسيطة جداً، فمثلاً كان يستهويه أن يلبس قبعة وجاكتة قديمة ويسير تحت وابل المطر ويتلقى قطراتها على صفحات وجهه.
كان يحب زوجته إلى حد الجنون، وعندما توفيت عام 1925 أمر بأن تبقى غرفتها الخاصة كما هي دون تغيير. لقد عانت زوجته كثيراً من المرض المسمى بمرض النوم، ولم تستطع ملايين مورجن أن تنقذ المرأة التي أحبها وجن بها.
وكانت زوجته مغرمة بحب الزهور، فانتسبت إلى جمعية هواية البساتين التي تفرض على أعضائها أن ينشئوا بساتينهم بأيديهم. وكان مورجن، وهو أحد أغنياء العالم المعدودين، يلبس ثياب العمل ويحمل المعزقة ينظف الحشيش ويشذب اشجار العنب في البستان الذي أنشأته زوجته بيدها، وكان في حياتها أعز ما تملك.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :590  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 113 من 124
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الثاني - مقالات الأدباء والكتاب في الصحافة المحلية والعربية (2): 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج