شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
روزفلت
أصابه غر طائش برصاصة في صدره فلم يكترث ومشى ثابتاً إلى المنصة واستمر في إلقاء خطابه.
كان حادثاً لا أنساه وقع في يناير عام 1919 وكنت وقتها أؤدي واجبي في الخدمة وكنا نعسكر في الكبتون في الجزر المستطيلة.
فبعد ظهر هذا اليوم، تقدمت فرقة عسكرية كاملة نحو مرتفع عالٍ وأشرعت بنادقها وأطلقت رصاصاتها تحية عسكرية للرئيس الراحل روزفلت - تيودور روزفلت - ألمع رئيس للولايات المتحدة وأقدر رئيس أدار دفة الحكم فيها ووجه سياستها. اختطفه الموت وما زال في قدرة الشباب وحيويته.
لقد اتسمت جميع الحوادث التي اكتنفت حياة روزفلت بالغرابة. من أمثلة ذلك أنه مصاب بمرض قصر النظر بحيث لا يستطيع - بدون نظارة - أن يميز أقرب أصدقائه من مسافة عشرة أقدام، ومع ذلك كان خبيراً في الضرب بالبندقية وإصابة الهدف وهاجم كثيراً من الأسود في غابات أفريقيا وقضى على عدد منها. وكان من أمهر الصيادين المشهود لهم، ومع ذلك لم يصد سمكة ولا اقتنص طيراً.
عندما كان غلاماً كان يبدو مريضاً أصفر الوجه أنهك قواه مرض (الربو) فعزم على الارتحال إلى غرب أمريكا حرصاً على صحته وأصبح من رعاة البقر فنام تحت السماء وزاول شتى أنواع الرياضة حتى إنه بارز أشهر ملاكمي عصره ((مايك دوندوان)).
وجاب مجاهل جنوب أمريكا وصعد جبالها العالية كجبل جنفرا وجبل ماترهون وقاد هجوماً عنيفاً في مرتفعات سان جان في كوبا في وجه دفاع مميت برصاص البنادق.
وقد ذكر روزفلت في تاريخ حياته أنه عندما كان غلاماً كان خجولاً وعصبياً كثير الخوف على نفسه من الأذى، ومع حذره الشديد كسرت رسغه وذراعه وعظمة أنفه وبعض عظام صدره وكتفيه، ولكنه أصر على الثبات حتى نهاية الطريق الذي اختاره لنفسه.
وعندما كان راعياً للبقر في ولاية داكوتا، انقلب من على صهوة فرسه وشطبت إحدى عظامه فلم يعبأ وعاد وركب فرسه حالاً وانصرف يجمع قطيعه.
وقال إنه قوّى غريزة الشجاعة في نفسه بالإقدام على كل عمل ترتعد نفسه منه خوفاً كان يتصنع الشجاعة في القيام بذلك العمل في الوقت الذي كانت فيه نفسه تكاد تزهق من شدة الخوف، وظل هكذا يقدم على عمل كل ما يخاف منه حتى أصبح أخيراً شجاعاً حقاً لا يخيفه زئير الأسود ولا ترهبه نيران البراكين اللافحة.
وفي عام 1912 في غزوة ((بل موس)) سطا عليه شخص نصف مجنون وصوب إلى صدره رصاصة من مسدسه، وكان في طريقه لإلقاء خطاب فلم يشعر روزفلت أحداً ممن كان حوله بأن الرصاصة قد أصابته فعلاً، ومشى بثبات في طريقه إلى المنصة وبدأ خطابه وظل يتكلم حتى كاد النزيف أن يفقده وعيه فتنبه سامعوه وحملوه حالاً إلى المستشفى.
وعندما كان في البيت الأبيض، كان يضع تحت وسادته مسدساً محشواً حين ينام ويحمل مسدساً صغيراً أينما سار، وفي خلال رياسته للولايات المتحدة، كان يمارس هواية الملاكمة مع أحد الضباط، وفي إحدى المرات ضربه الضابط ضربة شديدة على إحدى عينيه أثرت على أوعيتها الدموية تأثيراً شديداً، وحرصاً منه على عدم إشعار الضابط بفظاعة عمله كتم الرئيس تأثره وبدا عادياً جداً - وعندما طلبه الضابط للنزال مرة أخرى أجابه الرئيس بلطف - إنه يرى أن عمره قد جاوز السن التي تسمح له بمزاولة هواية الملاكمة - وبعد سنة من هذا الحادث كان قد فقد نور تلك العين تماماً، غير أن الضابط ظل جاهلاً تمام الجهل حتى ذلك الوقت سبب فقدان الرئيس إحدى عينيه.
وأمر أن تقتلع جميع شجر الوقود من مزرعته، وجند لذلك عدداً من العمال، وعند إتمام العمل أصر على أن يحاسب عمال مزرعته بأجرة كبقية العمال الآخرين.
ولم يدخن طوال أيام حياته، ولم ينجب، وكل ما دخل جوفه من الخمر كان مقدار ملعقة من البراندي تخلط أحياناً مع الحليب الذي يقدم إليه ليلاً. ولم يكن يعلم عن ذلك شيئاً إلا بعد ما أخبره بذلك خادمه، ولكنه اتهم كثيراً بالإغراق في الشرب إلى درجة أن هدد متهميه برفع قضية قذف عليهم فكفوا عن ذلك.
ورغم أن كل أوقاته كانت مملوءة بالأعمال الهامة، فإنه كان مغرماً بالقراءة وقرأ مئات الكتب وكانت الساعات الأولى من النهار - وهو في البيت الأبيض - من أكثر الساعات انشغالاً وارتباطاً بالمواعيد التي قد لا تزيد المقابلة فيها على خمس دقائق، فكان في هذه الزحمة لا يضع الكتاب من يده وينتهز فرص الثواني التي تمر بين المقابلة والأخرى ليشغلها بالمطالعة، وكان يصحب معه في رحلاته كتب شكسبير وبولي برنس، وأيام كان يرعى البقر في داكوتا كان يجلس في الليل بقرب لهيب النار المشتعلة ويقرأ لزملائه الرعاة بصوت عالٍ كتاب هملت لشكسبير ويستمر في القراءة حتى يتمه، وفي رحلاته في براري البرازيل وقفارها، كان يمضي لياليه في قراءة (انحطاط وسقوط الدولة الرومانية) تأليف جيبوتس.
كان روزفلت يحب الموسيقى، غير أن صوته لم يكن يساعده على الترنم بها وعندما كان يقوم بعمل ما وحده كان ينهيه بالغناء، وطاف مرة بالقسم الغربي من المدينة فكان يحيي الجماهير المحتشدة لاستقباله ويستمر مهيمناً يغني: ((اقترب من الله من أجلك)).
كان له هوايات شتى - وحدث مرة وهو في البيت الأبيض أن تناول سماعة التلفون ورجا أحد كبار مراسلي الصحف في واشنطن أن يزوره حالاً، واهتم المراسل بهذا الرجاء المستعجل، وقدر أنه سيقابل الرئيس في قضية قومية هامة - فأبرق لصحيفته لتكون على استعداد لإصدار ملحق هام للجريدة.. وعندما وصل المراسل إلى البيت الأبيض لم يتحدث إليه الرئيس ولا بكلمة واحدة عن السياسة، وما لبث أن قاد الرئيس المراسل من يده إلى حديقة البيت الأبيض حتى وقف عند شجرة عجوز وأطلعه في تجاويفها على عش فيه عدد من صغار البوم كان الرئيس قد اكتشفه في ذلك اليوم.
وفي رحلة استطلاعية إلى غرب المدينة وكان منهمكاً في الحديث مع مرافقيه من أعضاء السلطة التنفيذية، وقع نظره على فلاح وقف على جانب مزرعته متجهاً نحو الطريق رافعاً قبعته محيياً الرئيس، وأدرك الرئيس أن ذلك الفلاح كان يعبر عن احترامه وتقديره لرئيس الولايات المتحدة، فلم يكن منه إلا أن قفز من سيارته وتقدم خطوات على الرصيف إلى الجهة التي يقف فيها الفلاح ورفع قبعته ولوّح بها بحرارة نحو الرجل، ولم تكن تلك التحية لغرض سياسي بل كانت للتقدير العظيم الذي يحمله الرئيس في أعماق نفسه للمخلصين من المواطنين.
وفي الأيام الأخيرة من حياته بدت صحته في تأخر، ومع أنه لم يكن قد تجاوز الستين، فإنه كان يكرر القول بأنه قد أصبح هرماً، وكتب في هذه الأيام لقرين له يقول ((إني وإياك على شفا جرف وإننا ننتظر في كل دقيقة اللحظة التي يشملنا فيها الظلام)) وقد توفي أثناء نومه في هدوء في يناير 1919 وكانت آخر جملة نطق بها: ((من فضلكم أطفئوا المصباح)).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :889  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 107 من 124
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور معراج نواب مرزا

المؤرخ والجغرافي والباحث التراثي المعروف.