شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عادة كتابة المذكرات... (4)
لنبتدأ الكلام في هذا البحث عن التأثير العجيب للكلمات المكتوبة في النفوس.
للكلمات المنطوقة في بعض الأحيان أثر غاية في الإساءة، فمعاني الخيبة والفشل والآثام وتوقع حدوث المصائب تكون أقل تأثيراً عندما تتردد في جوانب النفس قبل النطق بها، أما بعد نطقها فيكون تأثيرها أكبر ووقعها اشد.
فالشخص الذي يحس بالآلام ويقع في ذهنه أنه مصاب بمرض خطير يشعر بالخوف والفزع أكثر إذا حدث وأفضى بذلك لبعض أصدقائه، لأن الألفاظ المنطوقة تحوي معنى الحقيقة، فهي لذلك أقوى تأثيراً على النفس من المعاني التي تتردد في جوانب النفس ولا تصل إلى درجة النطق.
وإذا كان هذا تأثير الألفاظ المنطوقة، فإن الألفاظ المكتوبة أشد أثراً وأشد عمقاً. إن الشعور بالخوف من الألفاظ المنطوقة والمكتوبة ليس وهماً، بل إنه ظاهرة طبيعية من طبائع النفس البشرية يمكن لكل واحد منا أن يجربها بنفسه.
والحقيقة أن كل إنسان يخشى الألفاظ المكتوبة، وأعني بها تلك الألفاظ التي تكتب فتحمل معنى الحقيقة بكل نزاهة وإخلاص، فقد يصل كره مثل هذه الألفاظ المكتوبة عند بعض الناس كما لو كانت قنبلة، كتابتها تنسف حياته نسفاً، ومن أجل ذلك نرى الجمهور لا يقبل على ما يكتب من الروايات التي يكون للخيال فيها نصيب كبير ولذلك أيضاً كان سلطان الصحافة النزيهة الصادق أقوى أثراً من أي سلطان؛ ومن المؤكد أن الخوف من الألفاظ المكتوبة تملك كل إنسان عندما يحاول تدوين آثامه وأخطائه، ولو أن درجة الخوف تقل عند البعض وتزيد عند الآخرين. وأنا على استعداد لأتحدى أي إنسان ينكر هذه الحقيقة الثابتة ويقول في استخفاف: إن هذا الخوف الذي تصوره للألفاظ المكتوبة ليس له أي أثر لديّ وسأكتب كل ما تريد دون فزع وخوف. وإني أقول لهذا الفتى الشجاع:
عيّن في نفسك بعض الحوادث الرهيبة التي مرت بك ومثلت حوادثها بنفسك والتي تستحق عليها اللوم والتوبيخ والجزاء، أو عيّن بعض الأفكار المزعجة التي ترددت في جوانب نفسك في بعض انفعالاتها، ولا أعني أن تكون حوادث قتل أو اختلاس، فليس كل إنسان يرتكب حوادث القتل أو الاختلاس أو حتى يفكر فيها ولكن أعني أي حادث ارتكبته وشعرت بندامة وخجل من فعله ولم تتجاسر أن تذكره لأحد وبقي سراً مكتوماً في صدرك، ولا شك أن كل واحد منا يحمل مثل هذه الأسرار في طيات نفسه. خذ واحداً من هذه الأسرار وحاول أن تسطره على ورقة بيضاء، أؤكد لك أنك ستجبن ولا تمسك القلم لتكتب وستنتحل أعذار الجبان هذا فتقول: ربما تقع الكتابة في يد أحد ويعرف السر. وأقول يمكنك أن تتجنب هذا الاحتمال بوضع ما تكتب في خزانة الأسرار فتقول:
لست آمن أن أفقد مفتاح الخزانة فيلتقطه فضولي أو أن يدركني القضاء ليتصرف غيري في خزانة أسراري. وأقول: ماذا يضيرك ما يعرفه الناس بعد أن تموت. فتجيب: من أين لك إني لا أخشى افتضاح أسراري بعد موتي أليس لي ذرية وأقارب؟!
وسأسلم في النهاية بوجهة نظرك ولكنّي مستعد لأثبت لك أن خوفك من الكتابة ليس سببه إفشاء السر والافتضاح - ولإثبات ذلك أذكر لك طريقاً آخر للكتابة:
اغتنم فرصة خلو دارك من جميع أفراد الأسرة والخدم وأحكم إغلاق بابها، وزيادة في الاحتياط ضع خلف الباب بعض الأثاث بحيث لو لمس الباب أحد نبهك إليه قرقعة الأثاث وضع موقداً مشعلاً بقرب مكتبك بحيث تستطيع أن تلقي كل ما تكتب عند أول فرصة. إنك الآن في أمان، فامسك قلمك وأبدأ في كتابة حادثة من النوع الذي عينته لك. إنك مع كل هذه التحفظات ستجد نفسك متردداً وسوف لا تستمر في سرد الحوادث على الورق حتى تجد نفسك أمام حقائق مزعجة لا تلبث أن تخفف من حدتها بالحذف والتشذيب، وستجد أن أثقل ما يثقلك هو أن تكتب الحقيقة كما وقعت، وربما فشلت أن تكون واضحاً وصريحاً فتتجنب التفصيل إلى الاختصار، وعندما تنتهي من كتابتك ويحدث أن يقرقع بعض من الأثاث الذي وضعته على الباب فتنتفض منزعجاً من الخوف والخشية، وعندما ترجع إلى نفسك وتطمئن إلى وحدتك، تبدأ قراءة ما كتبت وما تكاد تنتهي منه حتى يتولاك ضيق وانزعاج فلا تلبث أن ترمي به في النار وتنظر إلى لهيبه في رضى واطمئنان.
لماذا كل هذا الإحساس الغريب أنك كنت في مأمن من الفضول والتدخل حين كتبته ولم يكن في ما كتبت شيئاً لم تعرفه أو تدرك تفاصيله وأي إنسان لا يستطيع أن يكتب ما لم يكن يعرف.
من المسلم به أنك عشت منفعلاً بكل ما كتبت فليس فيه جديد بالنسبة لك، ومن المسلم به أيضاً أن ذكراه قد مرت بك كثيراً، فكلما أثار هذه الذكرى أمامك حادث أو مشهد فلم يحدث أن أزعجتك الذكرى كل هذا الإزعاج، ولكن الضيق والقلق قد استوليا عليك بمجرد الكتابة ولم ترح نفسك إلا بعد أن رأيت ما كتبته يلتهب أمامك في الموقد، إنك لم تتغير بعد الكتابة بل أنت كما كنت قبل أن تكتب بل إنك لم تقترف ذنباً جديداً بعد الكتابة.
ومرة أخرى، لماذا كل هذا الإحساس الغريب؟ والجواب الصريح السريع هو أن الكلمات المكتوبة التي تحمل الحقيقة في صدق ونزاهة قوة، هي مخيفة غامضة ولهذه القوة الغامضة علاقة بالنظر، فإنك عندما تكتب ترى صور أعمالك أمامك بما فيها من قسوة وفظاعة وتخل عن المثل وانتهاك لحرمة الضمير.
ولحسن الحظ أنك لا ترى صور أعمالك وأفكارك كما لو كانت معروضة على الشاشة يراها كل الناس، ولكنك ترى ما يشبه هذه الصور في ما كتبته ووضعته أمامك من صفحات.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :608  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 96 من 124
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.