(( رد المحتفى به ))
|
فرد الدكتور يوسف عز الدين بقوله: |
- إنها قصة أطلقت عليها اسم "سيكوسيتا" تحدثت فيها عن دولة خيالية، بدأتها بهذه العبارات: انظروا أيها السادة.. هذه هي عاصمة سيكوسيتا، إنها مدينة ككل المدن، فيها عمائر وشوارع.. وفيها أشياء عادية جداً كجميع المدن. ولكن العجيب أن عاصمة الدولة سيكوسيتا فيها شيء غريب جداً، وهي أنها في يوم معين من كل عام تقيم مهرجاناً ضخماً، حيث توزع فيه الوظائف والمهن على الشباب عن طريق الاقتراع، بغض النظر عن مواهبهم أو نوع الدراسة التي تلقوها. يسير الشاب في طابور طويل، وكل واحد منهم يضع تحت إبطه شيئاً يرمز إلى المهنة التي يصلح لها ويتمناها، فالذي يتمنى أن يصبح طبيباً، عليه أن يضع تحت إبطه سماعة، ومن يود أن يصبح نجاراً يضع تحت إبطه منشاراً، ومن يهوى الموسيقى ويتمنى أن يصبح موسيقياً يضع تحت إبطه آلة موسيقية.. وهكذا.. يتجه الطابور نحو منصة عالية يقف فوقها أحد كبار المسؤولين في الدولة وبصحبته بعض علية القوم والحرس، وأمامه صندوق كبير يطلقون عليه اسم "صندوق الدولة المقدس"، به عدد كبير من الأوراق المطوية، كل ورقة تحمل اسم مهنة أو وظيفة معينة. يضع من عليه الدور من الشباب يده في الصندوق وهو مغمض العينين ويلتقط ورقة، ويقرأ بصوت مرتفع المهنة أو الوظيفة المكتوبة فيها، فتصبح هذه مهنته أو وظيفته التي قررتها له الدولة، ويتحتم عليه مزاولتها حتى آخر رمق في حياته. ولم يحدث في تاريخ دولة - سيكوسيتا ولو عن طريق المصادفة - جاء ما هو مكتوب في الورقة مطابقاً لما يحمله الشخص تحت إبطه، إلى أن جاء الدور على شاب يحمل تحت إبطه كمنجة... |
- إنه موسيقي موهوب عبقري، وضع يده في الصندوق فكان من نصيبه ورقة تحمل كلمة "رسّام"، ولأول مرة في تاريخ سيكوسيتا أعلن مواطن في تلك الدولة رفضه للمهنة التي التقطها من "صندوق الدولة المقدس" قائلاً في انفعال شديد إنه خلق ليكون موسيقياً فهو يعشق الموسيقى ولا يرضى بها بديلاً، وإنه لا يستطيع ممارسة الرسم لأنه مصاب بعمى الألوان. انقض عليه رجال الشرطة للقبض عليه، ولكن المسؤول الكبير أمرهم بالابتعاد عنه، وقال للشاب: إنه سيمنحه فرصة لم يمنحها لأحد سواه من قبل، طلب منه أن يعزف أمام هذه الجماهير المحتشدة قطعة موسيقية بهذه الكمنجة التي تحت إبطه وسوف يترك للجماهير الحكم عليه إذا كان موسيقياً موهوباً كما يدَّعي أو متجرداً من أية موهبة موسيقية، وسيرضى بحكم الجماهير. |
- عزف الشاب قطعة موسيقية رائعة، ولكنها لم تعجب الجماهير الذين فقدوا الحاسة الفنية لكثرة ما سمعوه من موسيقى رديئة من أشخاص مجردين من الموهبة الموسيقية.. احترفوا الموسيقى، لأن صندوق الدولة المقدس أمرهم بذلك. فاضطر الشاب إلى ممارسة الرسم بأمر الدولة. |
- وفي أول محاولة له لرسم لوحة احتكت القطة بأوعية الألوان فسكبتها على المنضدة، فقذف الشاب بالألوان وبالقطة في اللوحة غاضباً وذهب ليغسل يديه. في هذه الأثناء مر على الاستديو مفتش الدولة الأكبر وبصحبته مفتش الدولة الأصغر، للاطمئنان على حسن سير النشاط الفني في الدولة ولم يجدا الشاب، فوقفا يتأملان اللوحة الملطخة بالألوان. قال المفتش الأكبر للمفتش الأصغر: "هل تفهم شيئاً من هذا الرسم؟" قال المفتش الأصغر: إنه لا يفهم منه شيئاً. قال المفتش الأكبر: "ما دمنا لا نفهم منه شيئاً فلابد أن يكون عملاً فنياً رائعاً". فأخذا اللوحة وعرضاها في متحف الدولة، فنالت الجائزة الأولى في الرسم السريالي! فلما عاد الشاب إلى الاستديو وبحث عن لوحته لم يجدها. سأل عنها فعلم أنها نالت الجائزة الأولى، فصاح قائلاً: "كيف يحدث هذا؟ أنا لم أرسم شيئاً، لقد قذفتها بالقطة الملطخة بالألوان". فقالوا له: "هل من المعقول أن تكون أنت أكثر إدراكاً وفهماً للأمور، وأصوب حكماً على الأعمال الفنية من المفتش الأكبر والمفتش الأصغر؟" |
- ظل الشاب المصاب بعمى الألوان يمارس فن الرسم الذي لا يفهم فيه شيئاً، بعد عام حل موعد ذهاب أخته لتقرير مصيرها عن طريق صندوق الدولة المقدس. إنها تحب الشعر ولكنها يائسة من الحصول على ورقة في صندوق الدولة المقدس تحمل كلمة "شاعر" لأن الدولة لم يحدث في أية سنة من السنوات أن ذكرت الشعر. وضعت الفتاة يدها في الصندوق، فكان نصيبها مهنة "جرسون" في مطعم بأحد الفنادق الكبرى. امتثلت لحكم الصندوق وبدأت تمارس مهنتها في الفندق. |
- كان الشاب يتوق لعزف الموسيقى ولكنه ممنوع من ذلك بأمر الدولة، إذ لا ينبغي لأي مواطن في سيكوسيتا أن يمارس أي عمل غير الذي قررته له الدولة عن طريق صندوقها المقدس، ولو لبضع لحظات في منزله. قالت له أخته: إن الفندق الذي تعمل به سيقيم حفلاً تنكرياً ويمكنه أن يجمع أصدقاءه الموهوبين في الموسيقى الذين أجبرهم صندوق الدولة على احتراف مهن لا تمت للموسيقى بأية صلة، ويحضرون إلى الفندق متنكرين فلا يكتشف أحد شخصياتهم، ويعزفون موسيقاهم التي حرمتهم الدولة من ممارستها. وافق على اقتراح أخته وذهب إلى الفندق هو وبعض أصدقائه متنكرين، عزفوا في الحفل موسيقى رائعة دون أن يتعرف عليهم أحد، ولكن جميع الحاضرين نفروا منها لعدم اعتيادهم سماع مثل هذه الموسيقى العذبة وتأقلمهم مع سماع الموسيقى الرديئة. كانت النتيجة أن اكتُشف أمرهم وحكموا على الشاب بالسجن ثلاثين عاماً، على أن تصحبه في السجن الكمنجة التي عزف عليها لاشتراكها معه في الجريمة!. |
- وفي السجن اتصلت أواصر الصداقة بين المسجون والسجان، لأن السجان رسام موهوب وحكم عليه صندوق الدولة أن يصبح سجّاناً. إلى أن حدث ذات يوم أن اتفق المسجون والسجّان على الهرب معاً من السجن. تنبه بعض الحرس فأطلقوا عليهما الرصاص، قتل السجان وتمكن الشاب من الهرب سالماً. |
- وصل إلى آخر حدود سيكوسيتا فرأى قصراً ذا حديقة، من خلال إحدى نوافذه أبصر فتاة تعزف على كمنجة، فجلس على دكة خشبية مستنداً بظهره على إحدى الأشجار منصتاً إلى الموسيقى، نام من فرط الإِجهاد، وفي نومه رأى حلماً: رأى أنه على خشبة مسرح يقود فرقة موسيقية أمام جمهور غير منصت إليها، إذ إن صالة هذا المسرح أشبه بمدينة للملاهي! كانت الموسيقى رديئة لا تَوافُق فيها ولا انسجام. يئس الشاب من قيادة الفرقة الموسيقية، فجلس على المسرح يبكي. اعتلت المسرح فتاة في نحو العاشرة من عمرها، قالت للشاب إن أفراد هذه الفرقة هم أمهر العازفين في الدولة، ولكن المأساة هي أن كل عازف يستخدم آلة موسيقية لا خبرة له بالعزف عليها، ثم أخذت توزع عليهم الآلات الموسيقية توزيعاً جديداً، فتعطي كل فرد الآلة التي يحسن العزف عليها، وطلبت من الشاب أن يستأنف قيادة الفرقة الموسيقية، فدوت في أنحاء القاعة موسيقى رائعة. صرخت الفتاة في الجماهير وطلبت منهم الإِنصات للعزف، فأنصت الجميع. بعد انتهاء العزف هزَّ التصفيق أنحاء القاعة. طلبت الفتاة من الشاب أن يصحبها ليخرجا معاً من باب خلفي.. خرجا معاً، فأبصر الشاب أمامه مدينة أسطورية رائعة الجمال، رأى إحدى الحافلات خالية من الركاب و "الكمساري" يعزف داخلها على آلة موسيقية نحاسية، هَمَّ الشاب بركوب الحافلة فمنعته الفتاة من الركوب قائلة له: إن الحافلات في هذه المدينة ليست للركوب بل للزينة! إنها تجول في شوارع المدينة خالية، والسبب في ذلك هو أن هذه الحافلات عندما بدأ استخدامها منذ سنوات عديدة هجمت عليها الجماهير يريدون الركوب دفعة واحدة، فانحشروا في الباب ولم يتمكن أحد من الركوب. ومنذ ذلك اليوم وهي تسير خالية من الركاب، ومع مرور الزمن نسي الناس الغرض الذي تسير من أجله!. |
- رأت الفتاة بالوناً ذا قاعدة تتسع لركوب شخصين، فاقترحت أن يركبا البالون. أخذ الشاب يعزف على الكمنجة قطعة موسيقية فارتفع البالون. عند هذه اللحظة صحا الشاب من نومه وأدرك أن الموسيقى التي كان يعزفها في الحلم لم تكن سوى الموسيقى التي تعزفها الفتاة التي رآها من خلال نافذة القصر. اندفع نحو القصر وطرق بابه، فتح الباب رجل عجوز، عندما علم الرجل أن الشاب عاشق للموسيقى وأنه كان سجيناً لارتكاب جريمة عزف الموسيقى، رحب به وأدخله القصر. |
- قال الرجل العجوز للشاب: إن ابنته تهوى الموسيقى مثله، ولكن صندوق الدولة المقدس اختار لها مهنة "إسكافي" فهرب بها عند نهاية حدود سيكوسيتا ليواصلا ممارسة هوايتهما بعيداً عن عيون مفتشي الدولة. عاش الشاب في القصر وكأنه فرد من أفراد العائلة وأحب الفتاة وأحبته. عندما لاحظ الفتى الترف والثروة الهائلة التي يتمتع بها أهل القصر، سأل الشابُ الفتاةَ عن مهنة أبيها؟ قالت بفخر واعتزاز: "إنه تاجر أشياء قديمة مستعملة، "روبابيكيا" وأردفت تقول: إن أباها مؤلف موهوب، وكان يتمنى أن تكون الكتابة مهنته، ولكن صندوق الدولة المقدس أراد له أن يكون تاجر "روبابيكيا". |
- إن بدروم القصر مليء بالكتب التي كتبها أبوها، ولكنه ممنوع من نشرها لأن التأليف ليس مهنته. ويقول أبوها: إن هذه هي الحسنة الوحيدة لدولة سيكوسيتا، إذ أنه لو كان احترف التأليف في هذه الدولة كما كان يتمنى لمات جوعاً، ولكنه وصل إلى قمة الثراء عندما أمره صندوق الدولة المقدس أن يصبح "تاجر روبابيكيا". |
- بعد فترة من الزمن ثار الشعب على صندوق الدولة الذي لم يعد مقدساً، وصمموا على اختيار المهن والأعمال التي تروق لهم والتي يصلحون لها، وفتحوا السجون وأفرجوا عن جميع الذين كانوا قد سجنوا بسبب القيام بأعمال غير تلك التي فرضها عليهم صندوق الدولة. هرع الشاب والفتاة ووالدها للاشتراك في هذا الاحتفال، لمح الشاب أخته خارجة من أحد السجون التي كسروا أبوابها، سألها لماذا سجنوها؟ قالت: "نظمت شعراً!". |
- كان هذا ملخص القصة التي أشار إليها الأستاذ حسين جمعة، والتي (اقتبسها) أحد الممثلين الذين اشتركوا في تمثيلها عندما أُذيعت في الإِذاعة سنة 1946 ثم نشرت في إحدى المجلات، وقدمها للأستاذ حسين جمعة لإِخراجها على المسرح على أنها من تأليفه طالباً عدة آلاف من الجنيهات لأنها على حد قوله: ذات فكرة غير عادية. فأرسلت إخطاراً للأستاذ حسين جمعة.. فأوقف إخراجها، فلم ييأس ذلك الشخص وكتبها حلقات للتلفاز. فأخطرته فأوقف إخراجها عندما تأكد أنها من تأليفي، وكانوا قد أخرجوا منها خمس حلقات. فقال مخرجها وماذا نحن صانعون الآن؟ وقد أنفق عليها التلفاز حتى الآن مبلغ خمسة عشر ألف جنيه، فكتب مدير التلفاز في ذلك الوقت تأشيرة تقول: "يدفع هذا المبلغ اللص الذي سرقه". هذه بعض الذكريات. |
|
أراد الدكتور حسين جمعة أن يكشف النقاب عن الهدف الأساسي الذي تضمنته قصة سيكوسيتا فقال: |
- هناك هدف لم يعرج عليه الدكتور يوسف، لكن الناس في مصر يعرفونه. إن أبناءنا بعد تخرجهم من الثانوية العامة لا يوجهون حسب رغباتهم، وإنما تقوم اللجنة المُشَكَّلَة لتوجيه الطلاب بتوجيههم إلى كليات لا يرغبونها، ويفرضون عليهم أن يتعلموا مالا يرغبون تعلمه. وفي النهاية يتخرجون من الجامعة ويوجهون إلى مصالح وإدارات حكومية لا تتفق وتخصصاتهم التي تحددها مؤهلاتهم العلمية. وهكذا تسير الأمور على النحو الذي تضمنته قصة إمبراطورية سيكوسيتا. إنما بوعي شديد جداً من موظفي مكاتب التنسيق، وبعدم جنون.. وهذا سر تأخير الشباب منذ 25 سنة، أي منذ السنة التي ابتدع فيها مكاتب التنسيق. وفي رأيي أن قدرات البشر يجب احترامها وعطاء المستقبل من البشر لا بد أن يحترم أيضاً، وأعتقد أن العقل الباطن للدكتور يوسف عز الدين عيسى وهو يكتب هذه المسرحية كان يتنبأ بما سوف يحدث لمصر بسبب مكاتب التنسيق. |
|
|