شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الهروب من الحياة (3)
لعلَّك أيها القارىء تسألني ما هي الصفة المشتركة التي جعلتني استطرد البحث عن هاتين المخلوقتين؟ إني مع اعترافي للسيدة الأخيرة بحسن إدراكها وقدرتها على انتزاع الإعجاب والاتصاف بالعقل والرزانة..
أرى أنها اشتركت مع الأولى في الغلطة التي أفسدت حياتهما معاً وجعلتهما يصلان في نهاية العمر إلى نتيجة واحدة رغم ما يبدو في حياة الأخيرة من قبول وإعجاب. إن الغلطة الفظيعة التي تشتركان في ارتكابها في حق الحياة هي الخطأ في تفسير معنى السعادة كما أرادها الخالق المبدع لهذا الكون. لو أتيح لك أن تتوغل في أعماق من اعترفنا بحسن سلوكها وتحصنها ضد تقلبات الزمن لوجدتها في آخر الشوط تتألم في دخيلة نفسها لأنها أخطأت السعادة كما أخطأتها الفراشة الهائمة وترى أن سلوكها في الحياة مع ما بدا لها فيه من عقل واتزان كان سلوكاً خاطئاً أخطأت فيه سبيل السعادة، رغم أنها تجنبت سلوك الفراشة الهائمة وميدانها لتأكدها من سخافة هذا السلوك وبعده عن السعادة. والموضوع في رأيي أكثر عمقاً من كل هذا، فإن الخطأ الكبير الذي ارتكبته الفراشة الهائمة ليس هو في اندفاعها وراء شيء ما، ولكن كان الخطأ في اندفاعها هاربة من شيء ما، هذا الشيء الذي أسميه حمل العبء والاستعداد للتضحية وليست الأخرى في اتباعها سبيل الحكمة والرزانة والسير في ركاب المجتمع إلا هاربة من حمل العبء والاستعداد للتضحية وهذا الشيء هو جوهر الحياة في معناها الرفيع. وتساويهما في الهروب من حمل العبء والاستعداد للتضحية ساوى بينهما في الغلطة الفظيعة التي ارتكباها في حق الحياة فكلتاهما تجنبتا مواجهة مطلب الحياة الجوهري فقدمتا الثمن متساوياً أو شبه متساوٍ في النهاية، تلك بالشيخوخة والهرم وتراكم الأمراض، وهذه بالشعور بالخيبة والاندحار، فقد رفضت كلتاهما الاستجابة إلى الصوت الذي ناداهما من أعماق النفس ليقودهما إلى الطريق الصحيح ليؤديا رسالتهما فكانت الخيبة جزاء لهذا الإعراض.
قد يقول قائل إن السيدة الأخرى بسلوكها خطة الاستسلام للواقع والمسارعة في مساعدة الآخرين ونشر القناعة بين العموم، قد انتهجت خطة مقبولة وقامت بعمل مقبول.. وأنا لا أنكر هذا وأؤيده ولكن أقول إن الفراشة الهائمة عندما اختارت طريقها إلى الاندفاع نحو اللهو والسهر والجري وراء ملذات الحياة، كانت تهدف هي الأخرى إلى خطة معلومة مقبولة من فئة أخرى من الناس وهي الاستمتاع بالشباب قبل أن يولي وتأتي الشيخوخة بآهاتها وحرمانها. فإذا كان الأمر كذلك فإن لكل منهما خطة مقبولة حسب الهدف الذي يرمي إليه فلا لوم إذاً على أحدهما دون الآخر ما دام كل منهما يسعى لغاية وهدف.
والذي أريد أن أقوله إنك عندما تهرب من الحياة سواء التجأت إلى عمل صالح حميد أو إلى آخر غير مقبول، فإن الإساءة الحقيقية التي ارتكبتها في الحالتين هي الهروب من الطريق الذي رسمته لك الحياة والالتجاء إلى غيرها، وبارتكابك هذا الخطأ قد حدت عن السبيل وأخطأت المعنى الحقيقي للسعادة، فإن السعادة لا تنبعث من الرضا والاستسلام ولا من الاندفاع وراء الملاهي والملذات. ومما لا نزاع فيه أننا عندما نغالط ضمائرنا ونصم آذاننا عن سماع صوت الضمير الذي يوجهنا إلى الرسالة التي خلقنا لنؤديها نرتكب خطأ لا يمكن تصحيحه.
وقد نحاول في مغالطتنا لصوت الضمير أن نتوجه إلى عمل له نتائج مقبولة أو آخر لا يقبله الناس، ومغالطة الضمير بأي شكل من الأشكال أسميها الإثم في حق الحياة، فالضمير الذي نغالطه بهذه المعاني والانحرافات سيستيقظ في النهاية وفي الساعة المناسبة ليعذبنا وينتقم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :538  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 88 من 124
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج