شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الهروب من الحياة (1)
إن الحياة التي نعيشها كما يفهمها البعض أنها أكل وشرب ولذاذة واندفاع وراء المباهج والمسرات، وليست هي أيضاً كما يفهمها البعض الآخر أنها عقل واتزان وخضوع وتسليم.. إن هذه المعاني مع كونها من ضرورات الحياة ولازمة من لوازمها ومع كون بعضها أفضل من بعض، إلا أن الحياة في نظري لها معنى غير هذا إنها نداء عميق منبعه الضمير نداء كثيراً ما نصم آذاننا عن سماعه ونهرب من الاستجابة له فنعيش لما لم نخلق له ونتسبب في فشكلة هذا التنظيم الجميل الذي أبدعه الخالق ونسميه بالحياة ونندم حين لا ينفع الندم في مراحل حياتنا الأخيرة حينما يجلجل هذا الصوت في صدورنا بالتهكم والاستهزاء لأننا هربنا من الحياة جبناً فلم نتقابل معها وجهاً لوجه.
وسأبدأ بحثي بالحديث عن النوع الذي سأسميه بالفراشة الهائمة لأن هذا النوع يتميز بالسطحية والبساطة. وغالباً ما يتحدث الناس عن الفراشة الهائمة بصيغة - التأنيث وباعتبارها من الجنس الناعم ولكن واقع الأمر واستمرار وجود هذا النوع في المجتمع جيلاً بعد جيل يحتم وجود الجنس الخشن من نوع الفراشة الهائمة فالحياة لا يمكن أن تستمر ما لم يتعاون الجنسان على بقائها وكحقيقة ثابتة فإن هذا البحث سيشمل الجنسين فيما دعوه بالفراشة الهائمة ولو أن الفرق سيكون دقيقاً في التفريق بين الذكر والأنثى لهذا النوع لأن الصفة المتغلبة عليه هي صفة التأنيث. ولذلك فإني سأقصر بحثي على هذا النوع باعتباره من الجنس الناعم. إن هذا المخلوق الجميل الفراشة الهائمة - يجمع في طبيعته بين طبيعة فراشة النور التي تتمتع بجمالها ليلاً وفراشة الزهور التي تتمتع بجمالها نهاراً وفراشتنا التي نعالج الحديث عنها تتمتع بمباهج الحياة ليلاً ونهاراً لذلك كانت لها ميزة الفراشتين وفراشة الزهور.
إنها حديث المجتمع في مجالس سمره ولهوه وملذاته، يتحدث عنها ويعيش مجالسها ويتلهف على ابتسامة الرضا منها ويحسدها لاستيعابها مظاهر البهجة والسرور ولانتقالها بخفة ونشاط في جميع النوادي والمجتمعات كما يتنقل الطائر النشوان من شجرة إلى شجرة في بهجة ومرح، إنها تمثل ظاهرة من أعجب المظاهر في المخلوقات.
فبينما ترى الناس يتسابقون إلى التعرف إليها والاستمتاع بجمالها وخفتها ورشاقتها وإغرائها، تراهم يتحدثون عنها بتهكم ويحكمون عليها بالاضمحلال بل ويزدرونها.
وهي إنما تعيش لغرض واحد، هذا الغرض هو الحركة الدائمة الحركة التي تلفت إليها الأنظار في كل نادٍ وفي كل مجتمع، إنها تعيش لتندفع مع كل تطور وحادث يثير الضجة والضوضاء ويتكون منه حديث اليوم والساعة تندفع إلى موديلات الملابس والسيارات والساعات والنظارات الملونة ليراها الناس في كل يوم في المظهر الجديد ويتحدثون عنها، فهي تتغير دائماً كيفما تغيرت اتجاهات وميول المجتمع ولكنها لا تتغير في شيء واحد في حب الظهور والاختيال كالطاووس في كل مجتمع وفي كل نادٍ، وهي لا تحب التعمق والدخول في مشاكل الفلسفة بل تجري وراء كل ما هو سطحي وبسيط، تكتفي من الكتب بحفظ أسمائها ومن الأدباء بمعرفة أبرز أوصافهم وقد تخرج متكلفة عن سطحيتها إلى نقاش المجتمعات التي تغشاها. إنها تحاول أن تضرب في كل ميدان بسهم فتحفظ بعض الألحان المشهورة لتترنم بها وهي مسترخية على الأريكة، تعمق بسيط إذا اقتضى الأمر ذلك، فإذا ظهر كتاب جديد أحدث ضجة بين القراء فإنها تخرج عن تقليدها من حفظ اسم الكتاب واسم مؤلفه فتعبر على صفحاته وتحفظ بعض الجمل التي قد تكون ذات موضوع للاستشهاد بها إذا لزم الأمر في مغمضة العين من النشوة فيستمع لها العشاق والمعجبون مبهورين؛ وإذا ذكر الإصلاح رأيتها في مقدمة المتحدثين عن الإصلاح إنها تتحدث عن كل إصلاح ما عدا الإصلاح الذي يشمل حياتها. تشترك في الأسواق الخيرية على أحدث ما يشترك فيه منافس. وإذ حدث واندلعت نيران الحرب وكان في هذا الحادث ما يثير الضجة والظهور، رأيتها في مقدمة الحركة وفي طليعة الداعين للذود عن الوطن.
قد تلاحظ أيها القارىء على قسوتي واستهزائي من هذا المخلوق الاجتماعي اللطيف، ولكن البحث الاجتماعي لهذا المخلوق يجب أن يكون بهذه القسوة، فلم يسبق أن تحدث الباحثون عن هذا المخلوق دون قسوة واستهزاء. ولا أعتقد أن الباحثين في المستقبل يغيرون فيه وجهة النظر هذه - ولكن أليس من حق هذا المخلوق اللطيف على الباحثين أن يدرسوا أسباب هذا الاتجاه في حياته. إننا لو تعمقنا في البحث لوجدناه في حاجة كبيرة إلى العطف والرثاء، فهو في حركاته هذه الدائمة وراء البهرجة والمرح إنما ينشد السعادة. السعادة التي ينشدها كل إنسان - ولكن لسوء الحظ في رأيي ورأيك أخطأ السعادة إلى اللهو - إنه يجري ليله ونهاره ليأكل ويشرب ويزاحم ليرى كل ما يرى ويسمع كل ما يسمع وليراه كل من يرى ويسمعه كل من يسمع، وليقلده الناس وليقلد الناس.
إنه يضيق ذرعاً بعيشة الانفراد، يقتحم المجتمعات ويوطد صلاته بها، إنه دائم الانشغال بالناس وإذا انفرد بنفسه فإنما ينفرد بها ليعدها ويهيئها للسهرة الجديدة وللمطارحات والنكات والغمز واللمز ولينتزع كلمات الإعجاب والغزل، إنه في تفكير مستمر في أحاديث الناس وموديلات ملابسهم وأنواع السيارات التي يركبونها والنظارات التي يلبسونها والتي يجب أن يكون له منها أحدث المبتكرات. إنه يعيش ثملاً مترنحاً في حياة لهو دائم وإغراء متصل، إنه يطلب السعادة كما يفهمها وإن كنت أنا وأنت نعتقد أنه أخطأ السعادة فهو معذور.
إنه لا يفكر في المستقبل إلا عندما يواجه هذا المستقبل بوجهه الكالح البغيض عندما يواجهه بالخيبة والفشل وزوال الوهم الكاذب وهجوم الأمراض والروماتيزم نتيجة السهر والإدمان ودوام الحركة في مستهل الحياة.
ويدرك عندئذ أن ما أصابه هو نتيجة للفهم الخاطىء والتفسير الصبياني لمعنى السعادة التي كان يجري وراءها ويلاحقها في دور اللهو وأحضان المباهج والشهوات، ويشرب المقلب ويندم حيث لا ينفع الندم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :520  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 86 من 124
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.