شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
السعادة والدين الإسلامي
كنت كتبت سلسلة محاضرات تحت هذا العنوان لا أدري كم هي؟ أو أين هي؟! وعفواً أيها الأفاضل فلعلَّكم لم تسمعوا حتى الآن: بإنسان يساق سوقاً إلى الكتابة والتفكير، وهو في جموحه في هذا الباب وعزوفه عن الكتابة، وإصرار أصدقائه وتحديهم إياه أشبه ما يكون بجمل جافل يصر صاحبه على تحميله؟ ويصر هو على (البرطعة) فتارة يشتد على صاحبه وتارة يشتد صاحبه عليه، وكذلك شأني مع أصدقائي الذين يريدون مني أن أكتب وتصر نفسي على النفور! وأشد وطأة علَّى هم جماعة المحاضرات فإنهم رتبوا برنامجهم، ونفذوه بدكتاتورية جبارة، ومن جاء دور الكتابة عليه تكفي إشارة إليه من سكرتيرهم، وليس هناك بد من الإطاعة والرضوخ!
وليس هذا العزوف عن الأدب وعن الخوض في مباحثه الطلية، ناشىء في هذه النفس عن بغض للأدب نفسه، إذ طالما سهرنا الليالي على دراسته وقضينا مجالس السمر عن البحث في مكنونات أسراره، غير أن هذه النفس الفتية التي كانت في بادىء أمرها تنظر إلى الأدب نظرة تسلية وسلوى، تطرب وترقص لبيت من الشعر الغزلي الرقيق، وترتفع وتنحط للحكمة في قطعة من قطع النثر، تتحمس لهذا الشاعر وترتفع به أعلى مصاف الإنسانية، وتتحزب على ذاك فتنزل به إلى أسفل الدركات، وهذه النفس التي كانت في بادىء أمرها تكتب المقال فلا يكاد ينشر في الصحف، وتتناوله أيدي القراء، حتى تمشي في الأرض مرحاً، تكاد تخرق الأرض مما هي فيه من الزهو والكبرياء، أصبحت بعد هذا الدور دور الفتوة والإيقاع تنظر إلى هذا الأدب نظرتها إلى كل شيء في هذا الوجود، نظرة جد وتحقيق، لا نظرة لهو ولعب، نظرة يقتضيها سن الرجولة وعقل التفكر والتأمل في هذه الحياة، هذا التأمل والتفكر اللذاّن أمرنا بهما في كتابنا العزيز فلا تكاد سورة من سوره تخلو من آية تحث على التأمل والتفكير إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الرعد: 3) وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (الذاريات: 21) ومثل هذا كثير.
وبذلك أصبح هذا الأدب الذي كان ينظر إليه الفتى اللعوب نظرة تسلية وسلوى بعين هذا الرجل المفكر، أداة إصلاح ومعول هدم جبار أداة إصلاح في معالجة الأمراض الاجتماعية العامة، ومعول هدم للتقاليد البالية التي تنشأ عن جهل الأمة وبعدها عن تعاليم الدين الصحيحة. فالأديب الحق في نظري هو الذي يستطيع أن يعالج بقلمه - في كل كلمة يكتبها - عادة اجتماعية مرذولة أو أي حالة من حالاته النابية بكل قوة وإخلاص ولا يجوز للأديب أن يتغزل أو يتوصف، أو أن يطرق أي باب من أبواب الأدب الاستمتاعي، ما دامت أمته بحاجة إلى الإصلاح والهداية ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم.
وعلى الأديب بعد أن يبلغ بأمته الخير أن يحلق في سماء الخيال فيخلق من الأدب الاستمتاعي ما شاءت له قريحته الناضجة للأمة حتى لا تضحي فريسة للأمراض الاجتماعية، وقد نشأ قبلنا أدب التشاجر والغزل الرقيق (حمادين الغرام) (حماك الذي أنشأك للناس فتنة) هذا الأدب الذي أنشأ مجتمعاً مع الرخاء المادي ذلك الجيل الذي ضيع نفسه وضيعنا معه فقد تهيأت له الفرص فلم يعرف أن يستفيد منها كما استفاد غيره من أبناء جلدته كمصر والعراق والشام، ذلك لأن أدباءه لم يوجهوا نظره في زمن الفترة إلى الخطر ولم يدعوه للتسلح بسلاح العلوم والفنون لمكافحة الطوارىء بل ساعدوه بالغزل الرقيق على الطراوة واللين فضاع وأضاع.
بهذه العقيدة مارست الأدب وبهذه الفكرة كتبت ما كتبت من المقالات ما نشر منها وما لم ينشر، ولكن بعض إخواننا الذين لم يقدر لهم أن يتمتعوا بحرية الفكر واستقلال الرأي والذين كتب عليهم بسبب بعض الظروف أن يبقوا تحت تاثير الماديين لم يطيقوا أن يسمعوا كلمة الحق يصدع بها صريحة وضاءة ولم يتحملوا أن يقوم نفر من هؤلاء الشباب يفند تقاليد جروا عليها، ولذلك كانت الحملة عليّ شديدة قاسية لم تستطع النفس أن تتحملها وراحت تتلمس العذر في قول الرسول صلى الله عليه و سلم إذا رأيت هوى متبعاً وشحاً مطاعاً فعليك بخويصة نفسك ولذلك عدلت عن الأدب ما دام العدول ممكناً وعزفت عنه ما دام العزوف مستطاعاً.
هذه كلمة لم أكن لأقصدها لولا أن التمهيد للموضوع جر القلم إليها جراً. إذن فلنرجع إلى موضعنا الأصلي.
السعادة. أذكر أني طرقت هذا البحث فتكلمت عن الموضوع من شتى نواحيه واستخلصت في النهاية رأياً شخصياً أحسبه مغايراً لما ذكرته من أقوال العلماء والأدباء. وخلاصة هذا الرأي هي أن الله سبحانه وتعالى القادر الحكيم قد أوجد هذا الإنسان على هذه الأرض. وأوجد معه في نفسه وفطرته مفاتيح السعادة في هذه الحياة، ولكن هذا الإنسان بضلاله وتنكبه عن الطريق السوي، قد أضاع فرصة استعمال هذه المفاتيح وراح هائماً يبغي السعادة في الدنيا بغير مفاتيحها فلا يجدها مع أنها وهي كمينة بين جنبيه وهو في تفتيشه عنها ينطبق عليه المثل العامي القائل (ولده في عبه وهو يدور عليه) وهذه المفاتيح تتلخص في ثلاث كلمات، هي استعمال الفضائل النفسية، واستغلال الكفاءة الشخصية أو الميل النفسي والاستمتاع بملاذ الحياة بأقصى حد معقول؛ ودعوني اشرح لكم ما أريد من هذه الكلمات فإني أرى نفسي غير مقتنعة بهذا الإجمال الذي قد يكون مخلاً.
الفضائل النفسية كثيرة جداً، منها حسن اليقين والحلم والكرم والاستئناس.. الخ ما تعرفونه من ذلك ولا شك أن الإنسان يولد مزوداً بفطرته بهذه الفضائل لا يميزه عن غيره من بني الإنسان أي تمييز، ويصح أن تجد بين مولود ومولود مغايرة في القوى الجسمية والعقلية، ولكن لا يصح أبداً أن تجد فرقاً في الاستعداد الفطري الكلي للفضائل وما تغرسه البيئة من العادات والتقاليد. فنفس الطفل صافية كالمرآة أو كعدسة المصور تعكس كل ما يضعه أمامها الأبوان، وكل ما تضعه أمامها البيئة، أما الميل النفسي أو الكفاءة الشخصية فإنك لا تجد إنساناً على وجه البسيطة مهما كان يميل إلى الأدب يكره أن يميل إلى الرسم وهكذا، وهذا الميل في الإنسان مولود معه ومفطور فيه يقويه حسن الاستغلال، ويضعفه الهجر وعدم التوجه، وميل الاستمتاع بملاذ الحياة إلى أقصى حد ممكن يكاد يكون ملموساً في كل إنسان، فإنه هو الفطرة الوحيدة التي ضللت الإنسان. وشهوة الاستحواذ عليها بدون تأمل أو تفكير هي السبب الوحيد لشقاء الإنسان في هذا العالم.
وبالله عليكم، ألا يشعر أي إنسان تجتمع فيه هذه الصفات بالسعادة ترفرف بأجنحتها عليه، وبالأمن والاطمئنان يقربه إلى ساحل النجاة؟ أفلا يكون سعيداً ذلك الشخص الذي استطاع أن يستغل فضائله النفسية فلا يضجر ولا ييأس لأنه حسن اليقين ولا يغضب ولا يسخط لأنه حليم قنوع ولا يجفو ولا يكيد لأنه أنيس سموح، ومع ذلك فإنه قد أخذ حظاً وافراً في فن من فنون الحياة ونبغ فيه واستطاع بمساعدة ذلك له أن يستخلص لذة الاستمتاع بهذه الحياة بأوفر قسط ممكن؟!.
والسعادة بهذا الشكل، أرى أن ديننا الإسلامي الحنيف، قد ضمن لنا إياها خير ضمان، فنحن مأمورون شرعاً باستغلال الفضائل النفسية إلى أقصى حد ممكن، وبالابتعاد عن السفاسف والرذائل بكل وسيلة ممكنة، أليس نبينا صلى الله عليه و سلم هو الذي يقول إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق - صلى الله عليه و سلم - ويقول له ربه وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (القلم: 4) وغير ذلك كثير بين ثنايا القرآن العظيم، وفي قوله صلى الله عليه و سلم - كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه إشارة ملموسة إلى أن فطرة هذا المولود سليمة صافية كالمرآة، ومن خصوص ضرورة الانتباه للميول النفسية، والسعي الحثيث لترقيتها واستغلالها، فقد حث ديننا الحنيف على ذلك بين ثنايا تعاليمه الصحيحة منها قوله تعالى وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ (التوبة: 105) ومنها آيات التدبر والتفكر والحث الكثيرة الورود في كتابنا العزيز ومنها قوله صلى الله عليه و سلم أعملوا فكل ميسر لما خلق له وفي قوله ميسر لما خلق له إشارة لطيفة من الشارع من أن كل إنسان ولد وفي نفسه ميل خاص إلى ناحية من نواحي هذه الحياة يجب عليه أن يحسنه ويرقيه حتى يبلغ به أعلا درجات الكمال.
أما التوفر على الاستمتاع بملاذ الحياة الدنيا، أفلا يكفيهم فيها قوله قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ (الأعراف: 32)
وأحسبني قد أطلت وأمللت فلا بد إذن من إيقاف القلم والاستماع من حضراتكم على هذه الفرصة الثمينة التي استخلصتها من حياتكم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :609  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 62 من 124
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الثالث - ما نشر عن إصداراتها في الصحافة المحلية والعربية (1): 2007]

الغربال، تفاصيل أخرى عن حياة وآثار الأديب السعودي الراحل محمد سعيد عبد المقصود خوجه - الجزء الثاني

[تفاصيل أخرى عن حياة وآثار الأديب السعودي الراحل محمد سعيد عبد المقصود خوجه: 2009]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج